-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ها أنذا أقف مرة أخرى أمام لوحة رائعة في إطار سينمائي ممتع.. قصة بسيطة، بساطة الأرض التي صورت فيها.. قرية بحجم قمحة وسماء شتوية باهتة. الريح تطارد سحباً بلقاء عجول فوق سلسلة جبلية بعيدة، وفي مقدمة المشهد تأتي جنازة امرأة تحمل على عربة، تجرها خيول حزينة تخطو في ظل أشجار الصفصاف المحملة أغصانها بالثلج. وعلى جانب الطريق شيخ يقف على درب أسود لم يجف بعد من مطر قريب العهد.. صامتاً مشيحاً بنظره إلى الجنازة كحواف قرص الشمس المنطفئ، يتنهد منكسا رأسه، كان يمسك بقلبه وكأنه يمسك بعصفور على وشك الطيران.. يسأله شاب بجواره، إن كان يعرفها؟! ليجيبه العجوز: كانت «مقلتي».. فدادين فرحي الخضراء.. وكانت كفيّ الممدودتين إليها كجرح مفتوح.. وجيوبي محشوة فتنة، وغراما بها غير أنها اختارت غيري، وظللنا صديقين.. هي الآن قد تكون في التاسعة والتسعين من عمرها.. كانت أجمل إناث القرية، كانت حسناء، هيفاء، ممشوقة القوام، ذات شعر غجري خشن سبط مجدول من ضفيرتين. وكانت تعقد وشاحها الأبيض ببراعة بحيث يتدلى على جبينها مائلاً قليلاً،، وكان هذا يليق بها كثيراً، ويظهر وجهها الأسمر الناعم بشكل جميل.. كانت حين تضحك كانت عيناها اللوزيتان الضاربتان إلى الخضرة تلمعان بحماسة الشباب.. كانت تغني لي أغاني ريفية تومض كالشمس بين كتفي. استأذن العجوز من الشاب، والعربة تبتعد ببطء إلى ما وراء الأفق نحو مقابر الفلاحين.. دخل إلى بيته الخشبي الصغير، وعاد مرتدياً ملابس جديدة، ملونة، ممسكا بيديه الأجراس والزهور ليشارك في الجنازة. التفت إليه الشاب الذي لم يصدق ما رآه.. سأله كم عمرك؟ ليرد العجوز أنه تجاوز المائة بثلاث سنوات، ثم ضحك قائلاً: أعتقد أنه سن مناسبة للرحيل.. انضم الشاب والعجوز إلى مسيرة الجنازة كانت الموسيقى ترتفع مجلجلة، تتصاعد تدريجياً، بدا الغناء، وجلاً خفيضاً، ثم أخذ يشتد شيئاً فشيئاً، حتى ملأ الشق الجبلي كله، وتردد، ورجع الصدى من الصخور البعيدة.. كان أشد ما يدهش الشاب مدى الحماسة والحرارة في اللحن.. لم يدر ما يسميه كانت الأصوات تخرج من أعماق أعماق النفس.. شيء قادر على إحداث تأثير كهذا، قادر على بعث ألف سؤال.. سأل العجوز هل تحتفلون بالموت؟ ليجيبه العجوز: «نحن في هذه القرية لا نحتفل بموت الأطفال والشباب فذلك أمر محزن.. ولكن من حسن حظنا أننا نعيش في هذه القرية سنوات طويلة، لأننا في تآلف وحب مع أنفسنا والطبيعة.. البعض يقولون الحياة صعبة، وهذا ليس صحيحاً. فالحياة جميلة تستحق أن تعاش» تتصاعد الموسيقى والأطفال والشباب في أزهى ملابسهم الملونة يغنون مع المسنين،، وفي أيديهم الزهور والأجراس يدقونها، ليتماوج رنينها مع أصوات غنائهم العذب.. إنه احتفال بالحياة كما يجب أن تكون.. وبهجة الموت في راحة.. كان العجوز يقف بعيداً قليلاً عن القبر.. ظل واقفاً هناك فوق العشب الرطب على هذا النحو شابكاً يديه وراء ظهره، ورأسه متدلٍ على كتفيه بعض الشيء.. يعض على شفتيه ويبكي في حرقة على الفقيدة، وهو يشاهد التابوت يختفي داخل الأرض.. كان السهل السفحي الغارق في الشفق الليلكي ينبسط شاسعاً،، وبدت الحقول الضبابية المعتمة وكأنها تتلاشي ببطء وسكون. فيلم لخص فيه «أكير أكير أسلوا» رحلة الحياة.. يا للروعة.