-A +A
علي بن محمد الرباعي
كان أشد الأبناء تعلقاً بوالده، يلازمه في النهار، وبحلول شطر الليل الأول يدحش من جوار أبيه، ويتسلل إلى مسدح جده الشايب، بحثاً عن الدفء، حتى ينضوي كل جسده الغض تحت الجُبّة، يتبسم الجد، ويخرج يده من كُمّها حتى لا ينكتم (زبيب الغُرزة).

لم يتصور (زبيب الغُرزة) أن وراء مدينتهم مدناً ومناطق وقارات، وكان يظن أن آخر الدنيا ونهاية العالم شفيان قريته، وفيوض مشرق القُرى المجاورة. لحقه نصيب من شقاء، وعانى بعض القسوة الأبوية بسبب شظف العيش، كانت شفقة الجد ذي اللحية الحمراء، والعصابة البيضاء، تلطّف وتبلسم آثار زهقة الأب.


عاشت أسرة كبيرة تضم ثلاثة أجيال تحت سقف واحد، والحال مستورة لا هم كذا ولا هلم، وكل يوم برزقه، وربك ما يقطع، وما خلق شدق إلا وكتب له رزق، ومعظم القرويين حالتهم متقاربة، وما جاد به ذو الجلال ينقسم بين الحلال والعيال.

مات الجد، فعقد أولاده الثلاثة مشورة دون عِلم شقيقهم الرابع (المتسلبي) كما يطلقون عليه. وقرروا القسمة، وعزموا على حيازة العثري في قِسمه، لأن المسقوي ثمين، وتخوفوا من إعطائه شيئاً عليه القيمة، وبرروا حرمانه من حقه الشرعي بأنه؛ يمكن يفرّط في كرامتنا ويتسلّت مرزقنا، وأضاف الكبير: المساقي نخليها للي يحميها.

أعطوه كل بعيدة عن البئر، والجُنباء المعلقة في صفوح.. لامته زوجته: كيف ترضى بخيبة وسيبة يا المضحكه؟ ردّ عليها: لا تكرهي شيء فيكون أبرك شيء، وش يدرّيك أن بو خيمة زرقا يغيّرها بغيرها، ولم تمضِ ثلاثة أعوام حتى حلّت الطفرة، واعتمدت الوزارات المشاريع، وفتحت المواصلات الطرق وجادت الدولة بتعويضات مليونية، ودهك الطريق كل أملاك (المتسلبي) وصرفت له المالية فوق أربعة ملايين ريال، وغدا حديث القرية وإذا بإخوانه يلمحون للسما أقرب من الحيلة، انفعلوا وتشاتموا وكل واحد يقول للثاني (هذي نيّتك يا بو نيّتين).

انفتحت الدنيا على (المتسلبي) ولكن الحرص زاد، ومن كثرة التفكير في المال، ضربته الأمراض، وانطرح في الفراش، وتقاطرت القرية كل ليلة تسامره، وتترقب صعود الروح لبارئها، ومن شدة الوجع وشعوره باقتراب الأجل، قسم الملايين بين السفان، وأوصى ابنه (زبيب الغرزة) قائلاً: هذي ربع مليون ريال من ذمتي إلى ذمتك، تبني بها لي مسجداً في مكان أهله مستحقين، تناولها منه وهو يشهق، ويردد: ليت عمري قبل عمرك يابه، والله يجعل رأسك ما يُدفن، فتبسم (المتسلبي)، وقال: إذا ما بيدفن بتتمششه الكلاب، فضحك الجميع، وسرّهم أن المريض شاوى، وانتهت سهرتهم على مرضاة الله، ليستيقظوا على الخبر الفاجع.

انتهت أيام العزاء، فعزم (زبيب الغرزة) على السفر لبلاد أهلها يحتاجون للمساجد، وحمل معه مبلغاً من نصيبه في التركة، وربع مليون لتنفيذ وصية الفاني، ووضع في شنطة السفر، مسواكاً، ومصحفاً، وسجادة صلاة، وصورة الأب المرحوم، ليلوّنها وليصنع لها بروازاً مكبراً، ويعلقها على باب المسجد الذي سيبنيه على نيته، ليترحم عليه كل من صلى فيه أو مرّ عليه.

من ساعة صعد إلى الطائرة ضربه الحنين، فاستنزل الشنطة، وفتحها، وأخرج الصورة وانفرط يبكي، ويردد: (أنا فدى ريحتك وشيحتك يابه) وخويّه المرافق، يهدّي فيه، ويقول: اذكر الله يا رجال، وإن شاء الله تكرمه بالمسجد اللي ينفعه وينفعك، وأنت الآن متعنّي حشمة رضاه.

نال (زبيب الغرزة) في الغربة لقب (شيخ)، عند مستقبليه. (الشيخ راح، الشيخ جاء)، فقال رفيقه: حظك صرت الشيخ، وعند جماعتك ما تسوى بصلة، ما يدعونك إلا (ذِرى شُهرة)، فردّ عليه: أنت حسودي، وتغار من مدح العرب للرجّال، والله إني ونعم، غصب عنك، واعرف خال خالي، خلّ عنك الهروج اللي كما هروج أمك يا ثفلان.

اختار المرشد السياحي له عروساً، وساعة شافها بغى يتشادق، وكب من الفلوس إلى يوم الفلوس، وتم الزفاف، وقال لرفيقه: أنت خلّك في الفندق، آكل شارب متروّش على حساب كثير الجود و(ندف صدره)، وأنا والعروس بنسكن في شقة، ولا تقطعنا، أسبوع أسبوعين ولا تتلهوى تعال وتفقّد رفيقك.

بعد أسبوع جاءه رفيقه على العنوان، لقيه قاعد في الدرجة، والكوت فوق كتفه، وفيه شيفة الزرى. سأله: وشب خلقتك تِخْرِع يا رجال. فقال : نتّفوا ريش أخوك. سأله: وين صورة أبوك؟ فأجاب: عساك ما تنكف لا أنت ولا هي، قال: والمسجد؟ فعلّق: وش غرّه من عمره، أمداه يبتني له عشرين مسجد في حياته، ضيّعني من دراستي، وكدّني كدّ العير، ثم التفت لصاحبه وسأله: وش بقي معك من فلوس نسمر بها الليلة؟! نظر إليه وهو مندهش وقال: صدق من قال: «الميّت مات، والحي يبغي الثبات».