-A +A
محمد مفتي
لاشك أن ما يميز عصرنا الحديث هو قدرة الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير في الرأي العام؛ سواء محلياً أو حتى دولياً، سواء من خلال ضبط المخالفين أو من خلال مراقبة الأنشطة الاجتماعية للغير، ويتم ذلك من خلال المقاطع المصورة التي بمجرد أن يتم بثها حتى تعاد مشاركتها لمئات الألوف من المرات بسرعة غير مسبوقة، وخلال سويعات محدودة يكون قد تداولها الكثيرون، وانهالت عليها التعليقات من كل حدب وصوب، كل يدلي بما يعرفه وما لا يعرفه أيضاً، بلا ضابط أو رابط.

غير أن القضية لا يمكن طرحها بمثل هذه السهولة، فوجود كاميرا في أيدي الجميع أصبح بمثابة سلاح يعتقد البعض في قدرته الخارقة على تحقيق الانضباط بطريقته الخاصة، وبشكل قد يُعد في بعض الأحيان تجاوزا للخصوصية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن للبعض تصور إمكانية تحقيق الانضباط بعدم الانضباط؟ ففي بعض الأحيان لا يعتبر قيام البعض بتصوير بعض الأحداث ضبطاً للسلوكيات المجتمعية، بل قد يمثل تشهيراً أو إهانة أو تنمراً على الأبرياء.


وبخلاف ذلك، فإن تصوير بعض الوقائع قد لا ينقل سياقها الكامل للجمهور، ومع التداول السريع لتلك المنشورات يتم تدمير خصوصية البعض دون أن يتمكنوا حتى من الدفاع عن أنفسهم أو شرح الموقف محل الجدل، ولاشك في أن التشهير العمدي أو حتى بدون قصد يرقى لدرجة الجريمة التي يعاقب عليها القانون، فالتشهير عقوبة قاسية لا تعوضها أبداً بلاغة الاعتذار مهما بلغت من قوة أو صدق، والعالم الافتراضي عالم قاسٍ، يتابع فيه البعض الاتهامات -قبل إثباتها بأي صورة- باستمتاع فائق ونشوة زائدة، وكأنه وجد جزءاً مفقوداً مشرقاً من نفسيته المظلمة السوداء، في الوقت الذي قد لا تثير أحكام البراءة شهيته في شيء، بل يقوم أحياناً في التشكيك في مدى صحتها أو مصداقيتها.

الانضباط الحقيقي لا يعني التشهير ولا استباحة الحياة الشخصية للآخرين وتجريحهم دون تحفظ، الانضباط في جوهره انعكاس ومؤشر لمدى انتمائنا للوطن، وهو ليس مجرد شعارات نزين بها جدران منازلنا، فالوطن كيان ضخم يضم البشر والأرض والحجر والرمال، هو تاريخنا العريق وحاضرنا ومستقبلنا، هو احترامنا لبعضنا البعض ولقيمنا ولعاداتنا وتقاليدنا الراسخة.

يقوم البعض بتصوير تلك المقاطع مدعياً أن دافعه هو الوطنية، غير أن هذا التبرير لا يمكن تصديقه، فالانتماء للوطن لا يتم من خلال التعدي على خصوصية الغير، بينما يبرر البعض الآخر بأن ذلك يندرج تحت ما يمكن أن نطلق عليه الحرية الشخصية، غير أن الحرية الشخصية لا تتضمن التشهير والتجريح، فهذه الحرية هي حرية مثقوبة تغذيها العقد الشخصية والتعطش لتجريح الآخرين، والتشهير ليس أكثر من أغلال يضعها من قام بالتشهير وكبل بها أيدي من تم التشهير بهم، وكل ذلك للوصول لنسب مشاهدة عالية وتحقيق مكاسب مالية.

أما قيام البعض بتصوير بعض الوقائع دون التحقق من صحتها وأسبابها ثم نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بذريعة توصيلها للجهات المسؤولة هو نوع من أنواع المغالطات المكشوفة، وهو بدون شك تشهير أيضاً، وليس من حق أي مواطن تصوير أي مخالفة وبثها دون إذن، وبإمكان من يشهد حدوث المخالفات أن يقوم بتصويرها ثم إرسالها للجهات المختصة، التي ستقوم بدورها بالتحقق من تفاصيل الواقعة نفسها، فقد يقوم شخص بتصوير مركبة تجاوزت الإشارة الحمراء وهي بلا شك مخالفة صريحة، ولكن قد تكون هناك حيثيات متعلقة بالمخالفة وغير متاحة لمن قام بالتصوير وتداول المقطع، فقد يكون دافعها وجود حالة مرضية حرجة جداً تتطلب الوصول للمستشفى بسرعة في أقل وقت ممكن للحصول على المساعدة؛ الأمر الذي دفعه لتجاوز الإشارة.

على الرغم من المزايا العديدة التي تنتج دوماً عن التطور التكنولوجي إلا أنها في غالبية الأحوال تحتاج لمراجعة دورية لإعادة الانضباط للسلوك البشري المصاحب لها، ومن غير الممكن تحقيق الانضباط المجتمعي بوسيلة غير منضبطة، فأداة تحقيق الانضباط جزء من عملية الانضباط ذاتها، ونحن مجتمع مؤسسي بلغ بفضل الله درجة عالية من التقنين والحداثة، فلا تعوزنا وسائل التحقق ولا نفتقر لآليات المساءلة، وبقدر ترحيب المجتمع بالدور الذي تلعبه التقنيات الحديثة في زيادة تماسك الصف الوطني ودعم وحدته، بقدر ما يتوجب علينا إعادة تقييم بعض الأدوار التي تلعبها وتتسبب في نشر الثقافة السلبية بين أفراد المجتمع.