-A +A
نجيب يماني
شدّني خبر طالعته في صحيفة «عكاظ» يتصل بواقعة حكم لصالح مطلقة بمبلغ (30) ألف ريال «عوضاً لها عن الأعمال المنزلية التي أدّتها خلال فترة زواجهما»، وفق صحيفة (الغارديان) البريطانية. وجاء الحكم الفريد بعد سريان قانون الزواج الجديد في بلادها، الذي ينص -في بعض بنوده- على أحقّية الزوجة في طلب تعويض حال طلاقها إذا كانت تتحمّل مسؤولية أكبر في تربية الأطفال ومساعدة زوجها..

مبعث اهتمامي بهذا الخبر أمران؛ الأول تفشي ظاهرة الطلاق في مجتمعنا، على نحو ما تشير بذلك التقارير الموثقة من الجهات ذات الاختصاص، والآخر عزم المملكة على إصدار منظومة التشريعات المتخصصة، ومن بينها مشروع نظام الأحوال الشخصية، فخالجني أمل بأن يكون فيه تشديد في ما يتصل بالطلاق، وليس في هذا المسلك أي خروج عن مبادئ الشريعة، فلكل دولة الحقّ في أن تضع من الشروط التي تراها مناسبة للحد من الطلاق، وتصعيبه على الرجل الذي بيده الطلاق، بعد أن أضاف الله سبحانه وتعالى العزم إليه، فاقتضى ألا يصحّ الطلاق إلا منه، لقوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق)، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق).


وقد تعسّف الرجل في استخدام هذا الحق، وجعله سيفاً مسلطاً على رقبة المرأة، يرفعه متى شاء لأتفه سبب، ولأي مشكلة طارئة، حتى أصبح ظاهرة مقيتة تهدد العلاقات الأسرية، وأدت إلى كثير من المشاكل الأسرية، وتفكك المجتمعات، وضياع أجيال وتشتتهم.

ولعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو الذي فرض العديد من القوانين لتنظيم حياة المجتمع، حتى وإن خالفت ظاهر النصوص الشرعية، من أجل تحقيق مقاصد الشرع الحنيف، مثل مواجهته استهتار الرجال في زمانه بالطلاق؛ فعاقبهم بأن غيَّر صيغة الطلاق التي كانت سائدة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحتى زمن خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، فقد كان الرجل إذا طلّق ثلاثاً بكلمة واحدة حسبت له طلقة واحدة، فلمّا رأى عمر الناس قد استسهلوا هذا الطريق، وتتابعوا فيه؛ جعل الطلاق بالثلاث في ملفوظ واحد مُحرماً لها ويقع طلاقها.. ردعاً وتأديباً لقائلها حتى يتقي الله في زوجته. وقال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاهم عليهم. وهذا حقّ من حقوق ولي الأمر، لينظّم للناس حياتهم، ويحمي المرأة ويحافظ على أجيال المستقبل ويحد من نسب الطلاق المتصاعدة، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ما قامت به المحكمة الصينية بتعويض الزوجة المطلقة لقاء قيامها بالأعمال المنزلية قد يحد من نزق الرجل في تسرعه بالطلاق، ويردعه عن التعسف في استخدامه؛ علماً أن النفقة على المطلقة في الشريعة الإسلامية محل خلاف بين الفقهاء، وطالما أنّ هناك خلافاً، فإذن هناك سعة في الأمر، ورحمة؛ فهناك نفقة للمعتدة في عدة الطلاق، لأن الطلاق الرجعي لا يرفع النكاح، ولا يزيل الحل، وتبقى المطلقة في حكم الزوجة التي لم يقع عليها طلاق، فيجب على الرجل نفقتها وكسوتها وسكنها كالزوجة تماماً، كما تجب النفقة للحامل في عدتها عن طلاق بائن، لقوله تعالى: (وإن كُن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)، ويقول الحق عز وجل: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)، وهذه الآية تشمل المطلقة رجعية والمطلقة بائنا، ثم في قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)، فيجب أن يرجع الأمر بالإسكان أيضاً إلى المطلقات رجعياً أو بائناً، والأمر بالإسكان للمعتدات هو أمر بالإنفاق عليهن لأنها ممنوعة من الخروج، ولا تقدر على اكتساب معيشتها، كما أمر الله بالإنفاق على الحامل، في نفس الوقت لم ينفِ وجوب الإنفاق على غير الحامل لقوله تعالى: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)، فيكون الإنفاق عليها مسكوتا عنه حتى يقدم الدليل على ذلك.

وقد ضعّف أبوحنيفة حديث فاطمة بنت قيس، التي طلّقها زوجها ثلاثاً، فبانت منه، وأن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أخبرها أن لا نفقة لها ولا سكنى، واعتبروه حديثاً شاذاً؛ لأن سيدنا عمر رده بقوله: «لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أو لعلها نسيت»، كما أنكرت السيدة عائشة على فاطمة هذا الحديث، وهذا مما أوجب الطعن فيه، فقد أقرّ سيدنا عمر بأن المطلقة طلاقاً بائناً (المبتوتة) لها النفقة والسكن، واعتمد على قوله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة).

فطالما أن هناك رأيا واجتهادا لسيدنا عمر في هذه المسألة؛ فمعنى ذلك أن تكون للمطلقة نفقة يدفعها الزوج في حال طلاق زوجته، هذه النفقة تعتبر بمثابة مكافأة نهاية خدمة لها، وتقديراً لعشرتها وعرفاناً بخدمتها له، خاصة إذا علمنا أن الإسلام جعل المرأة غير مسؤولة عن إرضاع ولدها لقوله تعالى: (إن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته)، ولا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إن كان أبوه حيّاً موسراً، لقوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن).

ذكر البخاري في «باب الإنفاق» أنه يجب الإنفاق على المرضعة لإرضاع الولد، كما أن خدمة المنزل ليست واجباً على الزوجة، كما في حديث السيدة فاطمة (عندما أتت إلى الرسول تشكو إليه ما تلقى يدها من الرحى)، وكما في حديث أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنها: (عندما تزوّجها زبير وقوله والله لحملك النوى كان أشدّ عليّ من ركوبك معه، قالت حتى أرسل إليَّ أبوبكر بخادم يكفيني فكأنما أعتقني).

وحكى ابن بطال في صحيح البخاري قال: لا نعلم في شيء من الآثار أنّ النبي قضى على فاطمة بالخدمة، وإنّما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق. أمّا أن تجبر المرأة على الخدمة؛ فلا أصل له.

ونقل الطحاوي على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته، وإذا احتاجت لمن يخدمها فامتنع لم يعاشرها بالمعروف.. ومذهب الجمهور ينصّ على أن للحاضنة الأم الحق في طلب النفقة على الحضانة.

نخلص من ذلك إلى أن القوانين المنظمة لحياة الناس وأحوالهم الشخصية مرنة لينة مطواعة وقابلة للتعديل وفق مقاصد الشريعة المعتبرة، وهذا ما سعت إليه المملكة وهي تسير جادة لإصلاح الأنظمة، وحفظ الحقوق، وحماية المرأة من أصفاد الماضي وتسلط الرجل الذي يطلق ويختفي وتعيش المرأة في دوامة الطلاق وتبعاته. لا بد من تعسير هذا الحق وتصعيبه وربطه بمجموعة من الإجراءات والتعويضات لصالح المرأة ولحفظ كرامتها. وتجعل الرجل يفكر ألف مرة قبل أن يتشدق بكلمة طالق.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com