-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لن أنسى طالما حييت، الطريق الطويل الذي سلكته في علاجي، وظننت أنه لن ينتهي أبداً. كلما تقدمت خطوة فوق رماله، كأنها كانت رمالاً ناعمة تبتلعني بهدوء شديد دون صخب، بل ودون أدنى محاولة للمقاومة مني. لن أنسى -طالما حييت- كيف كان شعوري بالألم أحيانا يتفاقم، ويخفت معه الأمل في أن أصل إلى نهاية الطريق. مرت عليّ أيام كقيظ الصيف، حين تتوسل إليه ليمضي، فيأتي الشتاء، وتَكسر برودته عِظامك، فتحنُ إلى الصيف من جديد. تمر الأيام لتأتي بالليالي.. الليل يسلم النهار، والنهار ينام في حضن الليل، وأنا أحاول الاعتياد على قوانين المستشفى وقواعده. اعتدت النوم على فراش مختلف، واعتدت الطعام من يدٍ تختلف، ولكنني عجزت عن التعود على الألم. في ليلة، عندما عجز حتى قاتل الألم على القضاء عليه بكيت.. بكيت كما لم أبكِ وأنا طفل.. بكيت لأتخلص من ألمي، بكيت حتى ينصهر جبل الجليد الذي حبسته خلف رموشي، فالرجال لا يبكون، هكذا تعلمنا في طفولتنا، لطالما أوصدت الباب على آلامي، وتعودت أن أنحني سريعاً لألملم الدموع من حدقتي قبل أن تسقط لتبلل مشاعري، حتى أظل رجلا. تعودت أن أحب في صمت، وأحزن في صمت، لكن جبروت الألم كسرني، تحول الألم بين ضلوعي إلى هزيمة، وتحولت الهزيمة مع الوقت إلى ضعف، فبات الأنين بين ضلوعي أنيناً بمذاق الضعف. توجهت إلى القِبلة ورفعت يدي للسماء، نظرت إلى الأعلى، فرأيت خيوطاً رمادية تتشابك في السماء، وكأنها تذكرني بقدرة وقوة الله على كل شيء، أصغر الأشياء وأكبرها، وفي أي وقت. ثم أمطرت، أمطرت في الخارج وكذلك في الداخل.. والمطر خير. حضر الدكتور «معن نزار فتيح» ابن الرجل المؤسس لأكثر من صرح طبي، مصطحبا معه مجموعة من العلماء الشباب للإشراف على علاجي: الدكتور «وائل طاهر حبحب» الإنسان الأليف كالمحو في صحن الزعفران، والدكتورة «إسراء محمد الملا» المضيئة التي لبسمتها بهاء النحاس المغربي تحت الشمس، والدكتورة «أسيل همام عطار» حفيدة المرحوم مؤسس صحيفة عكاظ البهية، والدكتورة «نوف محمد بن حميد» الإنسانة التي تحمل قلبا مرهفا بين أضلعها. مجموعة من الملائكة الحراس، يملكون مخزونا من الأحاسيس الإنسانية، الممزوجة بالعطف والحنان. نعم الحنان الذي أصبحنا نتحدث عنه لدى الطبيب، كطفلٍ فقدناه، ولا نعرف قبراً له، أصبح البحث عن الطبيب العطوف في هذا الزمان كالبحث عن نقطة مطر نقية، قبل أن تلامس الأرصفة، كانوا سحرة (مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة) كنت من يقف وسط دائرة الأطفال لأشهد كيف يخرجون اليمامة من معاطفهم في إعجاب شديد، كيف كانت الآلام والتعب تتبخر بفعلهم. علماء شباب أتوا من أماكن متفرقة، لكنهم ينتمون لشعار واحد، فلسفة واحدة، هدف مشترك، شعار حقيقي في جودة الرعاية الطبية الإنسانية.. مدرسة ممنهجة يضمها مبنى (مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة) لا يدرك معناها إلا من يصبح واحداً منهم، ويختبر روح التآلف بينهم، لقد شممت رائحة الأمان بينهم، شممت رائحة مفعول الكلمات التي كانوا يعطرون بها أيامي كلما يئست. كانوا يزرعون في نفسي الأمل، ويصهرونه لي، كعشب طري لخروف مقيد في وتد. أطباء حولوا اللون الأسود إلى قوس قزح. مجموعة يربطهم نسيج غير متآكل من المودة والعلاقة الحسنة، اتصالهم بالمريض مغطى بذهب الخبرة، والاحترافية، والإنسانية، والعطف، والحنية. صور فائقة الجمال أبدع في رسمها، الدكتور «ناصر عبدالله مهدي». تجربة تجعل الحامد الشاكر يردد: فعلا لو أن التطبيب علم وفن، فمن البديهي أن يكون الدكتور «معن نزار فتيح»، والدكتور «وائل طاهر حبحب»، والدكتورة «إسراء محمد الملا»، والدكتورة «أسيل همام عطار»، والدكتورة «نوف محمد بن حميد»، علماء وفنانين!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com