-A +A
هدى مجركش
يداهمنا الوقت أحياناً في غفلة منا، فترانا نعيش عمراً نقاتله، مقولة «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» تعيد إليّ مشاعر الطفولة... فما زال في الحياة جولات ونزال والعمر صار أثمن والوقت صار مقصلة.

حزم الحقائب ولملمة الذكريات صارت جزءا من حياتي؛ في كل بلد أودع ذكرى تقبع في زاوية ما علها تناديني يوما... تجاوزت الحد المطلوب من الحب والمشاعر الصادقة وصار الوداع يرهق كاهلي. موجع جداً أن تحمل غربة وطن وحب أهل ووداع محبين على ظهرك... أكرمتني الأيام لكوني حرم السفير البريطاني إلى قبول اجتماعي عريض وفتحت لي أبواباً ما كنت لأطرقها وشاءت الأقدار أن أكون عربية وهذه الخلطة الرائعة والمميزة لاقت ترحيباً حاراً. في داخلي دم عربي أصيل «دمشقية الهوى» - بريطانية الجنسية، وعندما حان الرحيل أدركت الوجع، بحكم نشأتنا الشجن والعواطف جزء من تركيبتنا ويؤلمنا مغادرة المكان ولطالما البكاء على الأطلال جزءا من ثقافتنا. أن تعيش حياة دبلوماسية كثيرة التنقل، يعني أن تضع عمرك في حقيبة سفر وذكرياتك في صناديق كتب عليها قابل للكسر مختزلاً حياتك في التكيّف، لكل شيء في الحياة ضريبة لابد من سدادها بدمعة أو ابتسامة مجبر عليها، فأنت على خشبة مسرح الأداء تقدم دوراً ساقته الأقدار لك، فإما أن تسمع التصفيق عالياً وإما أن تبقى في الظل يلفك الفشل. أدوار البطولة تحتاج لجهد والرحلة طويلة، تعلمت الكثير في زمن كبرت فيه على العلم وجاملت وابتسمت في الأوقات الصعبة، بين أنين بلدي وبين أضواء المجاملات والكاميرات تتكسر صلابتك.


في الحياة الدبلوماسية أنت لا تختار وجهتك، ولطالما تمنيت أن تكون الرياض آخر محطات زوجي وكانت. واليوم قاربت على التلويح لبلد قدم لي أروع المشاعر والرعاية، صار لي مع هذا البلد ألفة غريبة لكوني يتيمة بلد أدمتها الحروب فكل من التقيته كان يربت على فقدي الوطن الغالي ويمسح عن عيني دمعة شوق لطالما كانت الأغلى والأصدق. خمس سنين بين وجوه ألفتها وألفتني.. خمس سنين وأنا أدخل بيوت أناس بكل غبطة وأودع ناس بكل امتنان.. خمس سنين تبادلنا خلالها المأكل والمشرب.. خمس سنين وأنا أصافح آلاف الأيدي بكل حب واحترام.. خمس سنين وأنا أزداد إعجاباً..

خمس سنين كنت فيها شاهد عيان على تغيير شامل لمجتمع برمته.

بلمحة عين وبكل سلاسة فتح الأبواب المغلقة ومشى واثق الخطوة دون أن ينظر وراءه... شعب بأكمله قلب الطاولة دون ضجيج، تلقى التغيير دون صخب، احترم القوانين دون ملل وطوى الصفحة بكل استيعاب.

أحترم نساء هذا الوطن واعتبرهن تاج المجتمع، وألف تحية وإجلال لشباب هذا الوطن ولأخلاقهم. الأخلاق لا تتجزأ فهي فكر وتعامل قبل أن تكون صفة. شهدت هذا المنعطف الحاد كيف تجاوزه شعب بأكمله، شهدت ملكاً عظيماً حازماً محباً لرعيته، يطبطب على أولاده، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم مثال الأب الحازم الرحيم في مملكة تحتاج إلى حزم ورحمة.

شهدت أميراً ولياً للعهد شاباً زرع الفرح في شباب بلده... كان إيمانه بشبابه كبير وثقته بنسائه أكبر، راهن عليهم وكسب الرهان وكسب حب الملايين ودخل القلوب بلا استئذان.

شهدت شيئاً عظيماً سوف يكتبه التاريخ، مرحلة مشرفة في تاريخ المملكة لإيمان القادة بشعبهم وثقتهم بأخلاقهم.

المعادلة كان قوامها الثقة بين الحاكم والمحكوم.

وبأن الشعوب تحكم باللين والقانون.

وبأن سيد القوم خادمهم. وبأن العدل أساس الملك. وبأن لنا في عمر بن الخطاب قدوة في حزمه ولينه.

كلمة حق من واجبي قولها:

دخلت هذا البلد كانت الوجوه راضية وخرجت منها والوجوه مبتسمة.

ما أروع لحاكم أن يزرع ابتسامة على وجوه أبناء وطنه، فالابتسامة كلمة طيبة بدون حروف وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وما أروع تبادل الصدقات كل صباح. سوف أغادرها وزوجي حاملين ابتسامة كل سعودي وسعودية في قلبينا.

أحببناكم ونتمنى لكم كل الخير والأمان، ولكم نردد ما تعلمناه منكم:

أكرمكم الله.

* حرم السفير البريطاني في الرياض