في أواخر صبى الدراسة، وفي غُبَارِ أيامِ الثانوية الأخيرة، انقدحتْ في أعماقي شرارةٌ حالمةٌ كانت تُبشِّر بولادةِ لسانٍ لوذعيٍّ معتوقٍ، وقلبٍ عربيٍّ مفتوق.
وكان ذلك في الزمن الذي انطوى عليه الثالث عشر من نوفمبر عام 2019، في روضةِ المكان وسرادق الحضارة (دار الأوبرا بدُبي).
حضرتُ إلى المسرح العظيم متوشحاً بعبارةٍ خطَّتها يَدُ الحُلم على شالٍ أبيض، ترفُّ عليه كلماتٌ كتبت فيها: «الأرضُ ستبقى عربيةً».
ولم أكن يومَها أدرك ما يتخفَّى وراء ستار الجملة من غوامض المعاني وأسرار المصير، بل قرأتُها كما يقرأ الفتى السعيد الذي يخطو لأول مرة عالَم الأوبرا، متطلعاً إلى الجمال، غافلاً عن قَدَر الكلمة التي تحملها روحه.
تجّلت حينها كوكبةُ الفن وسيدةُ الألق.. ماجدة الرومي، فكانت يا لسعدي أول حفلةٍ غنائيةٍ تجرأتُ على اقتحام عالمها الفسيح.
وإذ بها تُطلق صوتها فتُبحر في بحور الجمال، وتغوص في أعماق الألحان، تتغنى وكأنما الأرضُ كلها تُصغي إليها، وكأنما الوجود يَحمِلُ أنفاسها إلى كل أذنٍ واعية
«الأرض ستبقى عربيةً»
تهتف بها روحها قبل حنجرتها، فتُدوِّي الكلمةُ في أعماقي كالنبوءة التي تنتظر تحققها الأيام.
وتلك اللحظة الفريدة، على جمالها الآسر، كانت في أعماق نفسي مأساةً تُرسم بظلالها.. فكيف لفتى عروبيٍّ ينبض قلبه بالعربية، ويهتف لسانه بالعربية، يشعر كأنما تُغتال اللغةُ بين جنبيه، وتُباع في سوق النفوس الرخيصة!
فيا لحسرةِ القلب حين يرى لغة الضادّ تُصَفِّق لها الأيدي، ثم تُنبذ في ميدان الحياة! ويا لأسفِ الروح على استخفاف عقولٍ مظلمةٍ، تتهافت على اللسان الأعجمي البائس كالمسعور على وهْم الحضارة!
وقبحاً لتلك الألسنة المبتورة التي تتنكّر لأصلها، وتفرّ من نبعها، لتلهث وراء سرابٍ لا ماء فيه ولا ظلَّ!
وتُصبح شمسُ اليوم شاهدةً على اعترافٍ أمميٍّ يُقرُّ بجمالية اللغة العربية، حين وافق الثامن عشر من ديسمبر أن يُدَوِّي في سجلات الأمم اعتماد العربية لغةً رسميةً «عالمية» -وهي لسان أربعمائة مليون نسمة، بل هي أمُّ اللغات وأصلُ البيان.
ولسنا نرجو من هذا الاعتراف مَوضعَ تباهٍ زائف، بل نرجو إيماناً صادقاً بجلالة هذه اللغة، وعظمة هذا الميراث.
فإن اعترفت أممٌ أخرى -وهي والله أدنى من أمة العروبة والإسلام لساناً وسليقةً وفهماً- بعلوِّ مكانة العربية، فلماذا نُدخل ألسنةً غريبةً واهيةً في معين العربية المجيد؟! ولماذا نُذيِبُ جليد قلوبنا على نار لغاتٍ لا تضيء ولا تدفئ؟!
حاشا للعربية أن تحتاج إلى شهادةٍ من أحد، ولكنّ العالمَ أيقن أخيراً أنه كان أعمى، ففتح عينيه على نورٍ كان منذ الأزل ساطعاً.
اللغةُ هي الوجودُ المصوَّرُ لأمةٍ في حروفها، والروحُ الناطقةُ بأفكارها ومعانيها، فكلُ لفظٍ شاهدٌ على خُصوصيةِ قومه وتميُّزهم.
وهي قوميةُ الفكر التي تجمعُ شملَ الأمة في طريقةِ النظر إلى الوجود، ودقة نسيجها تدلُّ على رِقَّةِ الملكات، وعمق مفرداتها يرتَسمُ كعمقِ الروح، وكثرةُ اشتقاقاتها برهانُ حريةٍ لا تُقَيَّد، وطموحٍ لا يُحَدّ.
لقد اشتملت العربية على أسمى الأوصاف وأعظم الألفاظ، بل كانت رائدة العلوم ودليلة المعارف! ولكل علم تعريف يمسك بكُنْه المصطلح.. والتعريف اللغوي هو اللَبِنَةُ الأولى والمنبع الأصيل.
فمن صَدَّ عن لغته حملات الأعاجم اللغوية والفكرية، يصعب انتزاعه من مقوّمات وجوده، أو انتسافه من جذور تاريخه، وهو في الوقت ذاته لا ينخذل ولا يتضعضع، بل يظل كالجبل الأشم، والصرح الوطيد.
حظيت العربيةُ بتاريخٍ شعريٍّ وكتابيٍّ يعدّ الأغنى بين لغات الأرض قاطبةً على مرّ العصور والأزمان، وكانت لسان العرب وسلاحهم الذي يرافق حدَّة السيف وبراعة الفارس في ميدان المعركة والحضارة.
وكثيرةٌ هي القصائد التي نُظمت في حبّ العربية والدفاع عنها، ولا يسعني إلا أن أعرّج على ذكر إحدى قصائد حاضرنا المجيد، التي كانت أول قصيدة حفظتها وألقيتها في محافل الأدب ومجامع البيان، والتي أعدُّها دستوري الأدبيّ وميثاقي اللغويّ، وهي قصيدة شاعر النيل الخالد حافظ إبراهيم، التي تهتف بالعربية وتنافح عنها.
وقد خططت هذه الكلمات في مقهىً اسمه «عربي»، وتفاصيله كلها عروبية تُذكّر بالأصالة والتراث، وأنا أحمل بين يديّ كتاب الرافعي الأبقى «وحي القلم» ليوحي إليّ من سحره البياني وروعة بيانه ما يعينني على البلاغة والتعبير.
والسلام على لغة الضادّ، تبقى شاهدةً على عظمة أمّةٍ، وناطقةً بمجد تراث.


