كتب سابقاً الصديق الأستاذ عبدالله خياط مقالاً بعنوان “حرف الدال شبيه السراب”، منوها بالابتذال الذي انتشر في المجتمع السعودي خاصة وفي المجتمعات العربية عامة للقب الدكتوراه، وهو لقب أكاديمي رفيع المستوى. كما تناول كتاب عديدون هذا الموضوع بالكثير من الواقعية.
وقد يختفي شخص لبضعة أشهر ليعود مبشرا بأنه قد حصل على الدكتوراه من جامعة إحدى الدول البعيدة، وبدأ يضع أمام اسمه بكل فخر ذلك الحرف السحري العجيب الذي أشار إليه الصديق الخياط.
للأسف هذه ظاهرة مسيئة ومضحكة في ذات الوقت، وقد انتشرت في كثير من المجتمعات العربية التي تعشق الألقاب، سواء اجتماعية أم أكاديمية أم فنية، بدءا من أفندي إلى بيك وباشا، ومن باشمهندس إلى دكتور إلى أستاذ دكتور، ومن معلم إلى بروفيسور إلى إختصاصي.
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبح اللقب يُستخدم في كل الأوساط والمجالات دون أي تمييز، حتى إن كان يدل على مهنة فنية يجب ممارستها والتدرب عليها قبل استخدام اللقب المهني. ففي جميع الدول المتقدمة لا يحق للطبيب مثلاً استخدام لقب طبيب إلا بعد التدريب لبضعة أعوام واجتياز اختبارات مهنية خاصة تضعها الجهات المعنية بممارسة المهنة. وينطبق نفس الشيء على المهندسين بشتى خلفياتهم العلمية، وعلى المحامين والمحاسبين القانونيين وجميع المهن الأخرى.
وقد أوضح ذلك الصديق عبدالله أبو السمح في إحدى مقالاته السابقة قائلاً “كثير من الإدارات الهندسية في الجهاز الحكومي، خصوصاً في البلديات، تعاني من ضعف العاملين فيها من المهندسين، ومن افتقارهم إلى المهارة والخبرة. ولهذا السبب يكون نتاج تلك الإدارات ضعيفاً وغير كفؤ. وسبب هذا الضعف كما يفسره صديقنا المهندس الدكتور جعفر لبنى أستاذ الهندسة المدنية السابق، الذي تخرج على يديه مئات المهندسين، وهو يعترف أن عندنا خريجي هندسة فقط لا مهندسين، والفرق أن خريج الهندسة يتلقى علوم الهندسة ولكنه يُترك دون تطبيق”.
وهذه حقيقة واقعة. فكما أنه لدينا عدد ممن يضعون حرف الدال أمام أسمائهم دون وجه حق، لدينا أيضاً كم هائل ممن يضعون أمام أسمائهم حرف الميم فقط لأنه تخرج من أحد فروع الهندسة، دون أن يتدرب ثم يمارس مهنته أو يطبق ما تعلمه أو يجتاز أي اختبار مهني يمنحه الحق لكي يطلق على نفسه لقب مهندس. أي أنه كما قال الدكتور جعفر لبنى لدينا الكثير من خريجي الهندسة، والقليل جداً من المهندسين الذين يمارسون ماتعلموه. التنمية في بلادنا تحتاج إلى هندسة ومهندسين، ولكن الهندسة ليست فقط درجة جامعية حتى إن كانت دكتوراه، إنما هي ممارسة وتطبيق قبل كل شيء، وهو أمر ينطبق على جميع الدراسات المهنية والتطبيقية الأخرى.
الألقاب بكل أنواعها لها بريق، ولكنه إذا كان بريقا زائفا يكون ضرره أكثر من نفعه.
وفي هذا المجال أذكر القصة التالية: أثناء قيامي بالتدريس في جامعة الملك عبدالعزيز (بالإعارة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن) كنت أرأس كلية تصاميم البيئة بفروعها في العمارة وتخطيط المدن وتنسيق البيئة، وكان ضمن مهامي الإدارية السفر إلى الخارج لمقابلة واختيار الأجانب المتقدمين للعمل في الكلية، وفي إحدى المقابلات في لندن جاءني “أستاذ دكتور” من إحدى دول الشرق، يعيش في لندن ويحمل الجنسية البريطانية، وأفادني أنه متقدم لوظيفة “أستاذ دكتور” وأنه خريج جامعات ألمانيا وإنجلترا. وبعد بضعة استفسارات عن عمله وشهاداته وخبراته، انتابني شعور بالريبة من إجاباته، وكنا نتحدث باللغة الإنجليزية. فغيرت فجأة لغة الحديث وألقيت عليه سؤالاً عفوياً باللغة الألمانية التي أجيدها، ولم أفاجأ بورطة ذلك (الأستاذ الدكتور) الذي ادّعى أنه درس في ألمانيا ووجهه يتلون بجميع ألوان الطيف، حيث اتضح لي أنه لم يفهم سؤالي ولا يستطيع تكوين جملة مفيدة واحدة باللغة الألمانية. وهكذا ضاعت الوظيفة من سعادة “الأستاذ الدكتور” المزيف.