-A +A
عبدالعزيز بن عثمان بن صقر
انتهت قبل فترة فعاليات مؤتمر مؤسسة الفكر العربي الأخير (فكر 16) الذي استضافته دبي خلال الفترة (10ـ 12 أبريل الماضي)، وكان عنوانه الرئيس «تداعيات الفوضى وتحديات صناعة الاستقرار»، وكعادة مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي تطرح موضوعات مهمة، ومطلوبة، تناقش الواقع العربي في العمق وبوضوح دون مداراة، أو سطحية، كما تدعو لمناقشة هذه القضايا نخب عربية وأجنبية من المتخصصين وذوي الكفاءة بغية تحديد المشاكل والتحديات، ثم مناقشتها وتقديم العلاج الناجع من وجهة نظر أصحاب التجارب والخبرات والاختصاص لعلاج أمراض الأمة العربية، ولقد دأبت المؤسسة على ذلك منذ أن أسسها رئيسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة في مطلع الألفية، وعقدت خلال هذه الفترة 16 مؤتمرا في سبع عواصم عربية منذ أن انطلق مؤتمرها الأول من القاهرة عام 2001م، وكان آخرها في دبي في أبريل الحالي، وركزت المؤتمرات الأخيرة على التكامل العربي والتحديات والمخاطر التي تواجه الوطن العربي، وكيفية تجاوز هذه التحديات، وجاء المؤتمر الأخير ليناقش تأثير ما يُسمى بثورات الربيع العربي وما خلفته من فوضى وكيفية صناعة الاستقرار في المنطقة العربية، وقد بحث المؤتمر أسباب الفوضى بأبعادها الداخلية والخارجية، وعمل المناقشون على تأصيل أسبابها بموضوعية ووضوح في إطار من الالتزام البحثي الموضوعي، مع مراعاة تقاليد النقاش في مؤتمرات المؤسسة، وجاء النقاش بغرض التعرف على التحديات والمشاكل، ثم كيف يمكن تجاوزها. والمؤسسة إذا تطرح هذه القضايا، تطرحها من منظور مستقل وجاد وموضوعي دون تسييس أو نزعة حزبية أو طائفية كونها مؤسسة أهلية دولية مستقلة ليس لها ارتباطات بالأنظمة، أو الانتماءات السياسية، أو الحزبية، أو الطائفية، وهذا نهجها منذ أن تأسست.

وأعتقد أنه من المناسب أن تستضيف المملكة العربية السعودية النسخة المقبلة من المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي (فكر 17) لأسباب كثيرة، منها الدور القيادي والريادي للمملكة في المنطقة، وتبني المملكة لقضايا التضامن والتكامل العربي، وباعتبارها دولة محورية وقيادية في محاربة الإرهاب وتعمل على استئصاله وتجفيف منابعه ولها في ذلك تجارب ناجحة شهد بها العالم والمنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، وكذلك تحارب المملكة التطرف بكل أشكاله وصوره الفكرية والعقائدية، بل المملكة دولة رائدة في نشر ثقافة الحوار مع الآخر وقبوله والتحاور معه بغض النظر عن ديانته، أو مذهبه، أو فكره. كما أن المملكة تناصر قضايا الاعتدال والتسامح والوسطية، ونشر قيم السلام وطرح أدوات تحقيقه في المنطقة وخارجها، وهي الدولة الرائدة في إطلاق مبادرات السلام سواء في ما يخص منطقة الشرق الأوسط أو في العالم، إضافة إلى أن المملكة داعمة لقيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة أي على الأراضي الفلسطينية كما كانت في 4 يونيو 1976م، وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً للمبادرة العربية التي قدمتها المملكة عام 2001م، وتبنتها قمة بيروت العربية عام 2002م، ثم أصبحت المشروع العربي الوحيد للسلام المدرج على جدول أعمال جميع القمم العربية منذ طرحها واعتمادها كمشروع عربي وحيد للسلام، ولعل ما قام به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ـ يحفظه الله ـ في القمة العربية الأخيرة التي عقدت في الظهران خير دليل، حيث أطلق ـ أيده الله ـ اسم القدس على القمة، وأعلن عن تبرع المملكة بمبلغ 200 مليون دولار للفلسطينيين، منها 150 مليون دولار لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، و50 مليون دولار لوكالة دعم وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا).


والمملكة هي رئيس القمة العربية في دورتها الحالية التاسعة والعشرين، ولذلك نتمنى أن ينعقد مؤتمر مؤسسة الفكر العربي المقبل (فكر 17) بالمملكة ويكون فاعلية مهمة وبمثابة درة في عقد العطاء الذي تقدمه المملكة العربية السعودية للأمة العربية على أكثر من صعيد سواء المادي، أو المعنوي، والفكري، والثقافي، والروحي، وغير ذلك، فالمملكة اعتادت ومنذ أن تأسست على يد المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود أن تعطي بما تملك دون منٍّ أو تفاخر بل تعتبر ذلك دورها الطبيعي تجاه الأشقاء والأصدقاء أنه دور تنموي وأخلاقي للسعودية.

ونقترح أن تتضمن محاور مؤتمر (فكر 17) في حال انعقاده بالمملكة مقررات قمة الرياض، وكيفية حماية المقدسات والأوقاف الإسلامية في القدس الشريف، بل كافة المقدسات الموجودة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سواء كانت إسلامية أو مسيحية باعتبارها تراثا عالميا، والتنبيه إلى ضرورة صيانة هذا التراث العالمي والحفاظ عليه بالتنسيق مع الأوقاف الإسلامية في القدس، ومنظمة اليونسكو ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، بما يضمن عدم العبث بهذا التراث وهذه المقدسات، وأن يتبنى مؤتمر (فكر 17) لفت انتباه العالم إلى ضرورة المشاركة في حماية مدينة القدس وسكانها وتثبيت أسس السلام الدائم بقيام الدولة الفلسطينية وحماية الشعب الفلسطيني من العبث الإسرائيلي، وعدم الاكتراث الأمريكي وغياب الاهتمام العالمي، وتبدل أولويات التحديات والتهديدات التي تواجه الأمة العربية والتي جاءت على حساب المخاطر التي تهدد القدس وما بها من مقدسات للمسلمين والمسيحيين.

كما نأمل أن يستمر مؤتمر الفكر العربي عبر نسخه المقبلة في تحديد ورصد المهددات العربية، والسعي إلى وضع خارطة طريق للعمل العربي المشترك على ضوء هذه المخاطر التي تستهدف الوجود العربي في دوله وعلى أرضه، ومنها الإرهاب، والفوضى، والمطامع والمطامح الإقليمية التي وصلت حد التآمر على الوجود العربي نفسه، وعلى ضوء تبدل موازين القوى الدولية في عالم يسعى إلى تعدد القطبية وما يصاحب ذلك من فراغ يتطلب ملؤه بقوى ذاتية متعدد الأوجه منها الفكري، والثقافي، والتعليمي، والإعلامي، والاقتصادي، وتكنولوجيا المعرفة والتقنيات أو ما يُعرف باقتصاديات المعرفة وتوطينها في الوطن العربي حتى نكون مجتمعا إنتاجيا وليس مجرد مجتمع استهلاكي.

وفي قناعتي أن المملكة ترحب باستضافة هذا المؤتمر العربي / العالمي المهم، كونه يتوافق بصورة مع محاور رؤية 2030 التي تتبناها المملكة بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وبدعم ومتابعة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، من أجل التطوير والتحديث بما يحقق مستقبلا أفضل للمملكة وشعبها وللمنطقة العربية برمتها.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث