-A +A
خالد عباس طاشكندي
كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان محقاً في التحذير الذي أطلقه خلال الكلمة التي ألقاها أخيراً في قصر الإليزيه بالعاصمة الفرنسية باريس وسيشهد له بها التاريخ المعاصر وأجيال المستقبل، بقوله: «لا ينبغي لإيران أن تمتلك سلاحا نوويا ولا يجب تكرار اتفاق عام 1938 الذي تسبب بحرب عالمية»، ليعيد إلى الأذهان ما قاله كونراد أديناور أول مستشار لألمانيا الغربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية «التاريخ هو الحصيلة الإجمالية لأشياء كان من الممكن تفاديها»، في إشارة واضحة إلى المآسي التي جناها العالم من أطماع الزعيم النازي أدولف هتلر بعد أن وقعت الدول الأوروبية الكبرى في الشراك التي نصبتها لها النازية إثر موافقتها على تسوية أزمة إقليم «سوديت» ذي الغالبية السكانية الناطقة بالألمانية والذي كان تابعاً لدولة تشيكوسلوفاكيا آنذاك، فقدمت «معاهدة ميونخ» في سبتمبر 1938 لألمانيا النازية فرصة على طبق من ذهب للانطلاق في توسيع نفوذها بدلاً من صدها، لتدفع بالعالم نحو حرب كونية راح ضحيتها أكثر من 75 مليون نفس بشرية.

والخطر الإيراني القائم هو أشد خطورة في ظل أن نظام ولاية الفقيه شرع منذ ثورته المشؤومة في 1979 نحو عقدنة سياساته التوسعية، وأعطى للولي الفقيه حقاً مطلقاً في السلطة، واعتبره وفقاً لدستوره الثيوقراطي صكاً إلهياً يلزم شعبه بالطاعة العمياء، هذا هو واقع العقيدة السياسية الإيرانية المتسمة بالدوغماتية المفرطة التي يفرضها الملالي بالحديد والنار على كل من يقع تحت سلطته ونفوذه من البشر، وبالتالي أي اتفاقية دولية لن تخضعه للانضمام تحت مظلة المنظومة الدولية وقوانينها التي تتعارض كلياً مع عقيدة الولي الفقيه وأجنداته، وأي تسوية يقبل بها نظام من هذا النوع ما هي إلا سياسة «تقية» سيظهرها مؤقتاً لتكرار خديعة 1938.


ولكن هذا ليس كل ما في الأمر، فيجب أن تستوقفنا جزئية بالغة الأهمية في خطاب الأمير محمد بن سلمان حين قال «هناك مشاريع كثيرة في العالم هدامة، وللأسف أغلبها في الشرق الأوسط»، فالمشروع الإيراني الذي يعيدنا لتذكر أحداث اتفاق 1938، ليس هو الخطر الوحيد المحدق بنا في المنطقة، فأيضاً هناك مشروعات إقليمية أخرى علينا أن نتوقف أمامها بجدية، وفي مقدمتها «العثمانيون الجدد» أو الظاهرة «الأردوغانية» التي انجرف خلف شعاراتها الإسلاموية الكثيرون من أبناء المنطقة العربية دون إدراك حقيقي لطبيعة الأيديولوجية السياسية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية، والطموحات السياسية التي يسعى لها من خلال الأهداف التوسعية المقنعة والمغلفة بمشروع بدا براقاً للحركيين الذين ينظرون له بأنه مشروع ديموقراطي نموذجي ومثالي لـ«عصرنة» الإسلام، على غرار شعارات «الإسلام هو الحل» و«الإسلام صالح لكل زمان ومكان» و«دولة الخلافة»، التي دغدغت عواطف الإسلاميين وروجت للصوابية المطلقة، مستغلين الحقيقة في أن الدين يمثل الصواب، إلا أن النهج والغايات السياسية بعيدة كل البعد عن هذه الشعارات البراقة، التي كان لها وقع مثالي في مخيلة المسلمين، بينما هي في الحقيقة لا تتطابق مع الواقع، وليست سوى أوهام تستخدم لتمرير مشاريع سياسية على الطبقات الاجتماعية المتدينة، وبدأت أجنداتها تتكشف الآن من خلال التحول التركي المخيف تجاه الأوتوقراطية والتوسع في حملات اجتثاث الخصوم وسحق المعارضين وقمع الحريات والزج بعشرات الصحفيين الذين ينتقدون النظام في السجون.

تذكرنا هذه الظاهرة «الأردوغانية» بأحداث ما قبل اتفاقية 1938، وتحديداً في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، حين سعى الشيوعيون فجأة نحو استقطاب اليسار والليبراليين في انعطاف يتناقض مع الخطابات الشعبوية للبروليتاريين الذين سيطروا على مفاصل الحكم السوفييتي، وكانوا يكيلون الشتائم لليسار ويتهمونهم بخيانة الطبقات العاملة، إلا أن صعود هتلر وموسيليني لسدة السلطة، وحلول الأزمة الاقتصادية الكبرى (الكساد الكبير)، صعبت مواجهتهم للرأسمالية الند المباشر لهم، فكانت تلك العوامل دافعاً لقيام الشيوعيين باستمالة اليساريين لمواجهة تمدد الفاشية والنازية، ونجحوا فعلياً في بناء مزيج متماسك من المنظرين والمواءمة بين طروحاتهم المختلفة، وبدت الشيوعية تدريجياً تظهر على أنها نموذج براق وجاذب للكثير من المفكرين اليساريين المناهضين لـ«الرأسمالية»، خصوصاً مع انفتاح الشيوعية المؤقت بخلقها أجواء من الحرية للأدباء والفنانين، مما ساهم في انجراف المزيد منهم للمعسكر الشيوعي، وقد شرح الروائي البريطاني إدوارد أبوارد، من واقع تجربته، سبب اندفاعه نحو الشيوعية بقوله «لقد كان عامل اليأس أشد بكثير من إدراكي للأوضاع السياسية والاقتصادية في دفعي إلى الارتماء في أحضان الشيوعية».

لقد خيل أيضاً للمفكرين والأدباء والفنانين الذين التحقوا بالمعسكر الشيوعي مطلع الثلاثينات، أنهم سيجدون في الشيوعية المزيد من الحرية والإبداع، ولذلك قال بيكاسو «لقد ذهبت إلى الشيوعية ذهاب العطشان إلى نبع من ماء نمير»، ولكن حقيقة الشيوعية بدأت تتكشف منذ 1932 عن كونها نظاماً يستعبد الفكر، وهو ما أصاب الكثير من المفكرين والأدباء بصدمة، بعد أن كشف ستالين عن ديكتاتوريته بتعمده القضاء على الديمقراطية داخل الحزب الشيوعي السوفييتي، ومطالبته لجميع الأحزاب الشيوعية حول العالم بطاعته طاعة عمياء تحت ذريعة الحفاظ على قوة الاشتراكية والدفاع عنها في ظل الظروف العالمية الاقتصادية والسياسية الصعبة آنذاك، وهو ما دفعه منذ 1935 إلى تدمير كل معارضيه وخصومه السياسيين، مظهراً حقيقة النظام الوحشي المستتر، واستمرت الفاجعة تلو الأخرى حتى حدثت الطامة الكبرى في العام 1939 حين دخل الحزب الشيوعي في حلف مع هتلر وإبرامه المعاهدة السوفياتية النازية بحجة مواجهة تقدم الرأسمالية العالمية، لذلك تخلى غالبية المفكرين اليساريين عن الانتماء للشيوعية، وبدأوا رحلة هروب جماعي بعد أن انكشف قناعها الزائف، واكتشفوا أن انتماءهم للحزب الشيوعي يعني أن عليهم تقديم عقولهم وروحهم له، والتحول إلى كائن مسخ لتلبية أوامر الحزب وجرائمه تحت مبررات «متطلبات المرحلة» التي أفضت تلبيتها إلى كارثة الحرب العالمية.

إلى هنا.. لا تحضرني مقولة معبرة أفضل من تلك التي قالها سانتيانا «هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته».

* كاتب سعودي