-A +A
عبداللطيف الضويحي
كثيرةٌ ومهمةٌ القرارات التي صدرت بهدف توطين فرص العمل في المملكة، والتي أسهم بعضها بلا شك بتوفير عددٍ من الوظائف والإسهام بخفض نسب ومعدلات البطالة. في المقابل هناك بعض قرارات التوطين لم تؤتِ ثمارها لأسباب تحتاج لدراستها ومعرفة أسبابها. ولا أستبعد أن تكون الجهات المعنية قد أجرت الدراسات لمعرفة الأسباب.

ما يهمني هنا هو آخر قرارات التوطين والذي أصدره وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية المهندس أحمد الراجحي قبل أيام، ويهدف لتوطين 35% من المهن الاستشارية والأعمال في مرحلته الأولى بدءًا من مطلع أبريل 2023. هذا القرار يكتسب أهمية بالغة ليس على صعيد خلق فرص عمل للمواطنين، وليس على سبيل إتاحة الفرصة للمكاتب الاستشارية والدراسات المحلية للاستفادة من حجم الكعكة الكبيرة التي غالباً ما تظفر بها الشركات الأجنبية في هذا المجال، حسب مقالة الزميل عبدالوهاب الفايز في جريدة الجزيرة، حيث يبلغ حجمه ما يقارب 20 مليار ريال، منها 5% فقط يذهب للسوق المحلي، والباقي من نصيب مكاتب وشركات أجنبية.


لكن أهمية قرار توطين المهن والأعمال الاستشارية الأخير تأتي في تصوري، لضرورة تسليط الضوء على حجم المشكلات والتحديات في هذا القطاع وافتقاره للمهنية والشفافية واحتكار السوق من قبل مكاتب أو مراكز محلية تعد على أصابع اليد الواحدة.

هناك هدر واضح وصريح للخبرات الوطنية وهي لا تزال قادرة على العطاء، ولديها الطاقة الكافية لشغل وتشغيل قطاع الدراسات والاستشارات، لكن الاحتكار والفوضى والضبابية وعدم التنظيم التي يعاني منها هذا القطاع تحول دون استيعاب واستثمار تلك الخبرات الوطنية التي تقف على سنوات كمية ونوعية من الإمكانات المعطلة وغير المستغلة وغير المستفاد منها.

هناك مئات الاستشاريين الذين تقاعدوا من معهد الإدارة العامة على سبيل المثال والذين أجرى بعضهم عشرات الدراسات التنظيمية والإجرائية والفنية في مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية محلياً وخارجياً، هل يجوز ألا يستفيد قطاع الاستشارات والدراسات من خبراتهم وطاقاتهم؟ وماذا عن خبرات وطاقات مئات الأكاديميين والمسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين المتقاعدين من مدنيين وعسكريين؟ هل يجوز التفريط بتلك الخبرات والطاقات في بلد يعيش نهضة شاملة تعج بالتحولات من أقصاه إلى أقصاه؟ هل يجوز حرمان أجيال الشباب من خبرات وطاقات من سبقوهم؟

كتبت هنا في «عكاظ» مقالة بعنوان «بنك الخبرات السعودي والأزمات الدولية»، كما كتبت مقالة أخرى بعنوان «الخارجية السعودية وصناعة خبراء العلاقات الدولية».. وفي كلتا المقالتين، أنادي بالالتفاتة العاجلة لقطاع الدراسات والاستشارات والبحوث لأن الحاجة ماسة للاستفادة من كمية ونوعية الخبرات والطاقات الوطنية من خلال مأسسة وحوكمة وشفافية هذا القطاع الذي يجب أن يتعامل من الخبرات الوطنية بأنواعها وعلى اختلاف تخصصاتها من خلال قطاع الدراسات والاستشارات والبحوث سواء في الداخل أو في الخارج. فأعداد مراكز الدراسات قليل جداً قياساً بعدد القضايا في العالم التي تهم المملكة سياسياً واقتصادياً وتجارياً وثقافياً.

إنني مقتنع كل الاقتناع بأهمية قرار توطين قطاع الدراسات والاستشارات، ومؤمن بأهمية إسهام هذا القطاع بالنهضة الكبيرة التي تعيشها المملكة، ومؤمن كذلك بأن الدراسات والاستشارات على درجة من الحساسية والأهمية لأن بعضها يتعلق بقضايا وطنية حيوية إستراتيجية مصيرية، لكني مؤمن كذلك أن قرار توطين قطاع الدراسات والاستشارات لا يكفي ولا يفي بما يستحقه هذا القطاع. فالحاجة لا تزال قائمة لتأسيس هيئة وطنية لهذا القطاع تنبثق عنها شركات ربما تتولى هذه الهيئة تنظيم وحوكمة وتنمية وإنعاش هذا القطاع لخدمة الوطن من ناحية، وخدمة الطاقات والخبرات الوطنية التي يتم هدرها والتفريط بها وعدم الاستفادة منها للوطن وإفادتها بما تستحق وبما يليق بها.