-A +A
محمد الساعد
خلال التسعينات ولتسويق خالد مشعل أكثر في العالم العربي والداخل الفلسطيني، كان لا بد من إنتاج قصة بطولة وهمية، ولا أكثر من وقوعه في شباك المخابرات الإسرائيلية وخروجه منها ليكون نجم الشباك في العقود الثلاثة التالية.

يا لها من قصة سينمائية مهلهلة تصلح لأفلام المقاولات، وهذا ليس غريباً؛ فخالد مشعل وتنظيمه مجرد مقاولين من الباطن لمن يدفع أكثر.


وقتها كان أحمد ياسين -الأب الروحي لحماس- لا يزال حياً، وياسر عرفات يملأ الوجدان الفلسطيني بكل أطيافه، ومنظمة فتح تستحوذ على ثلاثة أرباع المشهد.

فجأة وبدون مقدمات يخرج الإعلام الفلسطيني والعربي بخبر مفاده تعرض خالد مشعل القيادي في حماس لإبرة غرسها في جسده رجال المخابرات الإسرائيليون في محاولة للتخلص منه في العاصمة الأردنية عمّان سبتمبر 1997مـ.

لم يكن مشعل معروفاً في كثير من الأوساط الشعبية ولم يكن له ولا لتنظيمه أعمال خطيرة على إسرائيل، لكن ما حصل له، ومن تل أبيب بالذات، حوله «لمناضل من منازلهم» كما أصبح لاحقاً.

بالطبع لم يسأل أحد كيف عرفوا كل تلك التفاصيل الدقيقة وكيف فهموا علاجها؟! أيضاً لم يسأل أحدٌ نفسه كيف يكون للسم ترياق جاهز يعيد الميت حياً من جديد؟! إنه فن التسويق السياسي لمن لا يعرفه يا إخوان.

الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن القصة كلها صنيعة المخابرات الإسرائيلية وحماس، أما الأردن فقد تعرض للمؤامرة وتعامل مع الرواية الحمساوية بنخوة عربية.

من نتائج الإبرة: تحول خالد مشعل من رجل هامشي في المشهد الفلسطيني إلى الرجل الأول، وانحسار الأضواء عن ياسر عرفات وتنظيم فتح، وتحول القضية الفلسطينية من الأيدي العربية إلى الأيدي الإيرانية.

كان لا بد من المسرحية لتتويج زعيم «إسلاموي» محل الزعماء التقليديين للنضال الفلسطيني. كان المشهد السياسي والأمني يتحول بسرعة في المنطقة من كابل إلى غزة على أيدي التنظيمات الإرهابية، وفي الطرف الإرهابي الآخر كان أسامة بن لادن ملء السمع والبصر، فكان من المهم أن يأتي مشعل مكملًا المصفوفة الإسلاموية التي تشكّلت منذ ظهور الخميني في طهران، فبراير 1979.

فتحت دمشق أبوابها لخالد مشعل سريعاً، فهي على خلاف مع فتح وعرفات، ووجدت فيه فرصة جديدة تضاف للأدوات السورية التي تشغلها في الساحة الفلسطينية واللبنانية. الغريب أن المخابرات السورية خُدعت كما لم تُخدع من قبل، فكيف تسلل الإخوان المسلمون أعداء دمشق، الذين قادوا انقلاب حماة 1982مـ، من تحت عباءة خالد مشعل دون أن تدرك السلطات الأمنية السورية ذلك، بالطبع ستدفع سوريا لاحقاً ثمن تغلغل حماس فيها العام 2011 مـ بعد اجتياح الخريف العربي مدنها وريفها.

استمر مشعل يرفل في النعيم السوري لعقدين كاملين، توظف له الإمكانات والأموال والسياسات، كان رئيسا متوجاً للمليشيات الفلسطينية نكاية في عرفات الذي تحول لعدو رسمي لدمشق إثر قيامه منفرداً بالتصالح مع إسرائيل وعقد القمم والاجتماعات مع رابين وبيريز وايهود باراك وغيرهم من زعماء تل أبيب.

لم يكن يتخيل السوريون أنه سيأتي يوم يُغدر بهم كما فعل خالد مشعل، ولو كان العرب يضعون الأمثال كما كانوا في الجاهلية لقالوا: «لا أغدر من مشعل» !

في غداة ما يسمى بالثورة السورية انحاز خالد مشعل للمخربين وأصبح هو وقواته وأدواته في سوريا جسراً متقدماً لمليشيات الإخوان التي أدارت ما يسمى بالثورة عسكرياً، لقد أيقن مشعل أن النظام ساقط لا محالة ولذلك باعه سريعاً. لم يصدق الرئيس بشار وفريقه كيف تحول الفلسطينيون -الذين عاشوا كسوريين في سوريا- إلى رصاص في بنادق «الإخوان» والمحتجين والغوغاء.

الإيرانيون الذين انحازوا للنظام السوري حاولوا أن لا يفقدوا نفوذهم على خالد مشعل، لا لشيء، ولكن لأنهم بالأساس حلفاء «لأسياد» مشعل، من قيادات التنظيم الدولي للإخوان، ولأن لديه دوراً ابتزازياً يُدرُ على طهران الكثير من المكاسب الغربية عند استخدامه لضرب إسرائيل بصواريخ «التنك»، فكان لا بد من احتوائه.

خالد مشعل وحماس ليسا إلا تنظيماً محلياً للإخوان في القُطر الفلسطيني. هل نسيتم الرنتيسي الذي قال إنه وحماس لا ينشغلان بالقضية الفلسطينية لأنها مجرد أرض صغيرة في الفضاء الأممي الذي يسعيان لاحتلاله والسيطرة عليه.

اليوم وبعد انحسار غبار الربيع العربي وصمود بشار واعتباره - دولياً- جزءاً رئيسياً في المشهد السوري، يحاول مشعل التسلل من جديد إلى الجناح السوري، فالأردن أغلق الأبواب منذ أيلول الأسود بالرغم من كثير من المحاولات التي جرت لاحقاً وتم صدها بلطف، وفي لبنان الساحة الأخرى التي أغرقتها التنظيمات الفلسطينية والإيرانية بالدم، يقف حزب الله حارساً للحدود الإسرائيلية الشمالية ولن يسمح بأي طلقة تتجه نحو الجليل الأعلى.

إذن لم يعد أمام خالد مشعل للعب دور المناضل «الوسيم» والتكسب به إلا استعادة ليالي دمشق النضالية من فوق جبل قاسيون في قصره الفاخر المليء بالدبكات والعصائر والمزات، فهل يستطيع الدبك مرة أخرى؟ سؤال مشروع في عالم سياسي متقلب !

لقد كان ثقب الإبرة الإسرائيلية مدخل خالد مشعل للمال الوفير، والنجومية الصارخة، والسياسة المتلونة، والأجنحة الفندقية الفاخرة، والطائرات الخاصة، والمطاعم المترفة، والحمامات الدمشقية، ونوادي الجاكوزي الناعمة في عواصم الإقليم، فهل سيتمكن «مشعل» من العودة مرة أخرى مكللاً بالنفاق والكذب والتدليس والخديعة من ثقب الباب الدمشقي الذي ثقبه سابقاً ودفع السوريون الثمن غالياً من مستقبلهم ودمائهم؟