-A +A
علي بن محمد الرباعي
الحياة مدرسة، ومدرسة الحياة بلا امتيازات، ولا تمييز، وليست في موقع محدد، بل في كل مكان، وليست لزمن دون زمان، فهي تستقبل التلاميذ على مدار الساعة، وليست لجنس أو لون أو عِرق، بل مُختلطة، لكل الأجناس، والأعراق، والأعمار، والفئات، والنوعيات.

نخرجُ منها ولا نتخرّج، وندّعي معرفةً، فتثبِتُ لنا أننا لسنا كما نتوهّم، وكُلّما تصوّرنا الاقتراب من النجاح تُعيدنا سنة أولى تهّج، ولا تقبل من طلابها الذي يرى نفسه كبيراً عليها، ولا تُتِيح ولا تمنح حلول ألغازها إلّا لمن تواضع في حضرتها.


مدرسة الحياة، فصولها الأيام، ومُديرها القَدَر، وحصصها أحداث في هواء طلق، وموادها ومقرراتها دموع وابتسامات، وكسب وخسارة، ونجاح وفشل، وعاديّ ومميّز، وصحة ومرض، وغنى وفقر، وصعود وهبوط، وسعادة وتعاسة، ومُعلِّموها أصدقاء وأعداء، معارف ومنكرون، مجاهيل وثقات، كرماء ولؤماء، شيّاب وشُبّان، أقارب وأجانب، والمعلّمات مواقف، وأزمات، وصدامات، وانتصارات، وانكسارات، ونجاحات وإخفاقات، وتخطّي وفشل.

ينقلّك المدير (القدر) في يوم بين أكثر من فصل، فتضحك وتبكي، و تنتشي وتنطفئ، وتنكسر وتنجرح، وتقوم وتطيح، وأحياناً تقضي في الفصل الواحد زمناً أو أزمنة وأنت وشطارتك ونصيبك.

بحسب قدراتك تكتسب مهاراتك، وبقدر ما تتألّم تتعلم، وبموجب استيعابك تتسع مداركك، وبجهودك الذاتية تتفوق على نفسك، إلا أنه لا شهادة إلا شهادة خير من مريدين محبين، أو شهادة غير من شانئين كارهين، أو شهادة حق من منصفين عادلين.

أدوات المدرسة اللازمة والوسائل تختلف باختلاف الدارس، فالبعض أداته الخبث، والبعض وسيلته الطيبة، والبعض الدهاء، والبعض المكر، والبعض الذكاء، والبعض الغباء، والبعض النمردة، والبعض العفوية، والبعض حُسن الظن بعلِيّ الصفات، والبعض صِدق التوكّل على فاطر الأرض والسماوات.

والزملاء والزميلات أقرب لملائكة مقربين، وأشبه بشياطين ملاعين، ولكنهم بشر لهم وعليهم، وجوه بعضهم سمحة، ووجوه البعض كالحة، وآخرون وجوههم وقحة، بعضهم يرسم على محياك ابتسامة، وبعضهم يحرث ليزرع في نفسك بذرة كدر، وبعضهم يبذل معروفاً وإحسانا، وبعضهم يلاحقك في الحضور والغياب بالأذيّة والإساءة، والبعض مستتر، إن ما جاءك منه خير، ما صدر عنه شرّ.

في المدرسة ماثلون وممثلون، وخادعون ومخدوعون، ومتفوقون وعاديون، وظاهرون ومخفيون، ودافعون ومندفعون ومدفوعون، فيها عدو في لباس صديق، وصديق في رداء حُمق، ومنهم الآمن، ومنهم مصدر خطر. ولا تخلو من أنقياء أوفياء، إلا أنهم النُدرة، مثل خالص الجواهر وأغلى الدُرر.

في المدرسة طُلاب آمنون، وفيها الخائفون، والسالمون والمبتلون، والمرضى والصحيحون، والمُعطون والمحرومون، والمتطرفون، والمعتدلون، والغالون والمفرّطون، والناطقون، والصامتون، والمهذّبون والفوضويون، والهادئون والمشاغبون، والنظيفون والملوثون، وفيهم مَنْ يتعب ليُحسن، وفيهم مَنْ يكسب ليُسيء.

البعض نظرته بلسم، والبعض معاشرته علقم، والبعض سلام مثل العافية، والبعض كلام بلا وزن ولا قافية، والبعض يأسر القلوب، والبعض يفرّج الكروب، والبعض عينه على الجيوب، الشاطرُ يحتفي بالشُطّار، والبليد يُثير الفوضى والغبار.

لا يسلم دارس من منغصّات، ولا ينجو متعلّم من صعوبات، ومن أسعده النهار، عكنن عليه الليل بسيء الأخبار، أو ضرر من الأضرار، ومن فهم سرّ المدرسة وحلّ اللغز، وفكّ الرمز تصالح مع نفسه، وسلّم بما قسم الله، وأراح نفسه من همّ العداوات، بالحرص على الستر والنأي عن الشرّ.

في المدرسة بيع وشراء، وعرض وطلب، وقيمة وثمن، وكسب وخسارة، وسمسرة، وشطارة، ومؤتمن وغشاش، وناصح ومُضلِّل، ومسوّق، ومزوّق، وضحكات بيضاء، وصفراء، وقوس قزحية، وصفقات مُعلنة، وأخرى خفيّة.

في مدرسة الحياة يمكنك التذاكي على من تشاء، إلّا على مُديرها (القَدَر)، فللقدر نواميسه، وكلمته التي إن قالها يُظلِم الكون حولك، وتتشوّش البصيرة داخلك، وينعمي البصر، وتخور القدرات، وتتضاءل الفخامة، وتركع الكبرياء، ويخرُّ الخيلاء على ركبتيه مستجيراً.

هذه المقالة لم تنتهِ ولن تنتهي، لأُتيح لكلّ زميل في مدرسة الحياة أن يضيف لنا من مشاهداته، ومعايشاته، ما يثري به التجربة، ويسلّي به الخاطر، ويسرّي عنا بعض تعب الطريق المليء بالصواديف والمفاجآت، وكُلّي يقين أن لديكم ما يمكن قوله وكتابته أضعاف ما قُلت، أسأل الله لي ولكم النجاح والفلاح والصلاح.