-A +A
عبدالله الرشيد
الشيخ القاضي أحمد بن عبدالله القاري (ت 1359هـ) من أعلام الفقه والقضاء في تاريخ السعودية الحديث، كان عضواً بمجلس الشورى، ورئيساً للمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة. ورغم أن اسمه وأعماله محصورة بين الباحثين والمختصين، إلا أن الرجل قدم منذ وقت مبكر مشروعاً عظيماً في تقنين الفقه، وصياغة مسائل مذهب الإمام أحمد بن حنبل على شكل مواد وبنود قانونية، جاءت في عمل سماه (مجلة الأحكام الشرعية)، في 680 صفحة، ويحتوي على 21 كتاباً، اشتمل على كثير من المسائل والقواعد الفقهية في المذهب الحنبلي، ويعد مرجعاً ومصدراً علمياً للفقهاء والقضاة والقانونيين.

جهد القاري الذي تطوع وانبرى له بشكل شخصي كان نواة حلم ورغبة عند الملك عبدالعزيز -يرحمه الله-، حين استقرت شؤون البلاد، وتوحدت أطرافها، كان الملك يرغب في أن يرى مدونة قضائية لضبط فروع الفقه وأحكام القضاء، حتى يسهل على القاضي والمتقاضي، وعموم الناس الرجوع إليها والاستفادة منها، وتيسر للناس شؤونهم، وتسهل لهم الطريق لمعرفة الأحكام الفقهية.


ونشرت جريدة أم القرى في تاريخ 26 أغسطس 1927، إعلانا لرغبة الملك عبدالعزيز، وحثاً للعلماء المختصين أن يشاركوا في هذا المشروع الكبير، حيث جاء في الإعلان: (إن جلالة الملك حفظه الله يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة، وهذه المجلة تكون مشابهة في طريقة كتابتها لمجلة الأحكام العدلية الحنفية، لكن تختلف عنها بأمور أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلاً من الكتاب والسنة).

لكن نظراً لأن مشروعاً كهذا يستغرق زمناً طويلاً، كما لم يتحمس له العدد الكافي من العلماء، حيث كان لبعضهم موقف ممانع من تقنين الفقه. حينها أصدر الملك عبدالعزيز قراراً بضبط جميع المحاكم على المذهب الحنبلي، من أجل توحيد الأساليب الفقهية، ودفعاً لمضار تضارب الأحكام، وتعدد المراجع. يقول فؤاد حمزة في كتابه (البلاد العربية السعودية): «أصدر جلالته أمراً عين بموجبه المراجع الفقهية المعتمدة، والتي على قضاة المحاكم أن يسيروا في نطاقها، بحيث يعلم المتقاضون والقضاة الحدود الفقهية التي يجب عليهم أن يقفوا عندها، والمراجع المعتمدة حتى الوقت الحاضر هي: الإقناع للحجاوي، كشاف القناع للبهوتي، منتهى الإرادات للفتوحي، شرح منتهى الإرادات للبهوتي، المغني لشمس الدين ابن قدامة، والشرح الكبير لعبدالرحمن بن قدامة».

أصبح هذا التنظيم والتحديد لمراجع القضاء بديلاً عن المشروع السابق. لكن يبدو أن الدعوة الملكية لتأليف مجلة أحكام جديدة، وجدت من نفس الشيخ أحمد القاري رغبة وتجاوباً قوياً، لكنها تبلورت لديه بصورة أخرى، حيث قام بتأليف مجلة أحكام شرعية في المذهب الحنبلي تحديداً، في إطار الكتب والمصادر التي نص عليها المرسوم، التي تمثل في جملتها الكتب المعتمدة عند الحنابلة.

والأرجح أن الشيخ القاري قام بهذا المشروع بنفسه دون تكليف من الملك عبدالعزيز، حيث كان انخراطه فيه عن اقتناع كامل بالفكرة أولاً، وبالحاجة الملحة التي عايشها في القضاء والمناصب الشرعية الأخرى ثانياً. (انظر: مقدمة مجلة الأحكام الشرعية).

اللافت أن هذه المجلة التي تعتبر أول عمل علمي حديث في الفقه الحنبلي قد جاءت على يد الشيخ القاري وهو أحد فقهاء الحنفية في مكة المكرمة، فتكوينه الفقهي لم يكن حنبلياً، بل دراسته ونشأته كانت على المذهب الحنفي، وهذا الأمر ساعده بشكل كبير في استيعاب مجلة الأحكام العدلية، وتأليف مشروع مشابه لها.

بقيت مجلة الأحكام الشرعية للقاري حبيسة في خزانة المؤلف حتى توفي يرحمه الله، وحافظ عليها أبناؤه وورثته من بعده، وخرجت فقرات متناثرة منها على شكل مخطوطات، وفصول متفرقة، حتى قام الشيخان عبدالوهاب أبو سليمان، ومحمد إبراهيم أحمد علي، بدراسة وتحقيق هذه المجلة، واجها في ذلك الكثير من الصعوبات، وبذلا جهداً مضنياً، استغرق منهما الوقت الطويل، حتى صدرت عن مطبوعات تهامة عام 1981.