ثنائية الذات والموضوع هي إحدى أهمّ الثنائيات التي تأسس عليها الخطاب الفلسفي الأوروبي منذ أفلاطون حتى العصر الحديث. وتشير هذه الثنائية بوضوح إلى البنية العميقة لهذا الخطاب وهي ما اصطلح عليها بالمركزية الذاتية الأوروبية, حيث تكون ( الأنا) أو الذات هي المركز العارف والمسيطر والموضوع كل شيء لأجلها. أي: يصبح كل « آخر» بالنسبة لها موضوعا متعلقاً بالوعي الذاتي وبالمنفعة الذاتية وخاضعاً باستمرار للمقولات العقلية التي تنتجها الذات, وليس شيئا مستقلا له كينونته وحضوره المتميز. وهذه الثنائية تحصر التفكير في أحد طرفيها؛ فيبدأ من الذات أو من الموضوع الذي تموضعه الذات على الحقيقة!
في الجدل الهيجلي والماركسي لم تنكسر هذه الثنائية كما يُظن . لأن هذين الفيلسوفين ظلا رهينين لمذهب الذات أو لمركزية الذات . سواء أكانت حركة الديالكتيك بدأت بالفكرة أو بالشيء المادي, إلا أن هذه البداية هي بداية الذات التي تموضع كل شيء لصالحها, فلا يبقى من الشيء سوى ما ترسمه الذات في النهاية عن هذا الشيء تبعاً لمقولاتها وتصوراتها – وحتى لاشعورها.
في اللحظة التي نترك فيها الشيء ينكشف لنا ويفصح عن ذاته كما هي دون أن نحدده ونقيده بتصوراتنا الخاصة ومصلحتنا الشخصية, سواء أكانت علمية أو عملية نكون قد فكرنا خارج هذه الثنائية؛ فكرنا في ومع الشيء, بمعنى ساءلناه واستنطقناه ودخلنا معه في حوار مرن وشفاف ليبوحَ لنا بحقيقته.
أول من حدد مفهوم الموضوع تحديداً فلسفياً دقيقاً هو كانط حينَ ميز بين الشيء في ذاته (النومين ) والظاهرة (الفينومين) وهذه الأخيرة هي الموضوع الذي تقابله مقولات العقل وتصوراته الترانسندنتالية (المتعالية ، الشارطة) , وهذه المقولات (الذاتية) وبسبب صوريتها وتعاليها وعدم قدرتها على الخروج من ذاتها والعيش مع الأشياء تقوم بموضعه الشيء في ذاته ، تجعله موضوعا لها ... أي تتجاهل حقيقة الشيء في ذاته لكي تبقي على « ما يظهر منه » للحدس الحسي وهو حدس مشروطٌ بصورتي الحساسية القبليتين الذاتيتين : الزمان والمكان . هذه (الموضعة الكانطية) هي تعزيز منطقي جديد لمذهب الذات Subjectism (أو التمركز حول الذات,وهو ما يعتبره كانط ثورة كوبرنيكية في الفلسفة ) – وقد هاجم هيدجر هذا المذهب هجوما شديداً كما سنعرف فيما بعد , كما أن فلاسفة ما بعد الحداثة استأنفوا هذه المهمة الهيدجرية وطوروها للكشف عن مضمرات الفكر الأوربي ومركزيته ؛ مثل فوكو , دريدا , وإدوراد سعيد .
ومقولات العقل (الذات العارفة) ذات طابع قبلي apriori باعتبار الموضوع ذا طابعٍ بعدي . ومن اتحاد القبلي بالبعدي يكون ( الحكم القبْلي التركيبي) ممكناً؛ وهو الحكم الذي ميَّز العلوم الرياضية والطبيعية وجعلها ضرورية وشاملة دون أن تكون تحليلية لا يضيف المحمولُ فيها إلى الموضوع شيئاً .
لم يحل كانط إشكالية الذات – الموضوع بل عمقها بصورة أبعد مما فعل ديكارت , لأن ديكارت , على الأقل, كان يعطي بعضَ ملامح الموضوع صبغة قبلية ضرورية كفكرة الله مثلا , وهي حسب ديكارت فكرة فطرية – أي قبلية –رغم حيازتها على الوجود الواقعي , بوصفها كمالا أعلى فالكامل لا بد أن يتحصل على جميع الكمالات ومنها الوجود التام المستقل عن العقل . وماهية الله هي عين وجوده كما يقول الفلاسفة الإسلاميون. وبهذا القدر ابتعد ديكارت عن مركزية الذات نوعاً من الابتعاد.
فلسفات الحياة و تجاوز الثنائية
لم يبدأ التفكير جدياً في تجاوز هذه الثنائية إلا مع هوسرل, ولكن ينبغي أن نشيد بالمحاولات التي سبقته وتأثر بها, وهي محاولات جاءت كرد فعل على الفكر الهيجلي الصارم الذي تنكر للفردية وللحياة والخبرة المعاشة التي يعانيها الناس, لصالح الكلي والمجموع . ففلسفة هيجل كانت فلسفة كليات أفلاطونية.
طرح ديلتاي تحت تأثير أستاذه شلايرماخر مفهوم «الخبرة المعاشة erlebnis – Experienc» وهو عودة إلى الحياة وإلى التاريخ , فأدخل ديلتاي بهذا المفهوم فكرةَ الزمانية (والتناهي) إلى صميم الفكر الفلسفي المعاصر والذي سيتجلى بوضوح في كتاب هيدجر (الوجود والزمان). إن العودة إلى تيار الحياة وخبراتها هو عودة إلى ما قبل ثنائية الذات – الموضوع وإلى ما قبل العلم ذاته .. إنها رجوع إلى الأساس الذي تنطلق منه الفلسفة والمعرفة. فأنا أحيا وأعيش أولا, ولا يمكن لأية فلسفة أن تتعامل معي بوصفي مجرد آلة عقلية لإنتاج الأفكار, تتشابه بشكل أقرب إلى التطابق مع بقية الآلات (العقول الأخرى).
في الجدل الهيجلي والماركسي لم تنكسر هذه الثنائية
فلسفة الحياة وتجاوز ثنائية الذات ــ الموضوع
27 نوفمبر 2008 - 20:28
|
آخر تحديث 27 نوفمبر 2008 - 20:28
تابع قناة عكاظ على الواتساب
شايع بن هذال الوقيان