أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/258.jpg&w=220&q=100&f=webp

طلال صالح بنان

المسألة اليهودية تتجدّد في أمريكا

اليهود تاريخياً، لم يشعروا بالأمان، إلا إذا امتلكوا نصيباً من موارد القوة يفوق نسبة تعداد حجمهم (بمراحل) في المجتمعات التي يعيشون فيها. هم لا يسعون للحصول على السلطة، يكفيهم السيطرة على حركتها عن كثب. هم يعون تماماً، أن تصرفاتهم وميولهم العنصرية لا تحقّق لهم الوصول إلى السلطة، دعك من إمكانية البقاء فيها. لهذا كان اليهود أقلية مكروهة في المجتمعات التي يعيشون فيها، في تكتلات اجتماعية منعزلة (الجيتو)، بينما يديرون دفة السلطة، عن طريق الاستحواذ على أكبر قدر من موارد القوة المتاحة، بالذات رأس المال، الذي أَسَرُوا به النخب السياسية، وأذلوا به عامة الناس، عن طريق الربا الفاحش.

هذا هو أساس المسألة اليهودية، في مجتمعات أوروبا الحديثة، وكثير من مجتمعات الشرق، مما استفزّ حركات سياسية قومية ويسارية، شعارها الأساس العداء لليهود، وتحميلهم كل مشاكل المجتمع، وفساد بعض أنظمة الحكم القائمة، مثل ما كانت عليه العقيدة السياسية للنازيين، في الفترة ما بين الحربين، حتى هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. النازية والقومية، من أهم الأيديولوجيات عداءً لليهود، هم وراء نشوء ما يطلق عليه المسألة اليهودية، نتاجاً لما يزعمون (العداء للسامية). العداء للسامية، لم يكن فقط شعاراً سياسياً، للعتق من رِبْقَةِ اليهود، التي تقيّد الشعوب والحكومات في المجتمعات الأوروبية، بل كانت ممارسة ممنهجة لاضطهاد اليهود، رداً لنشرهم الفساد، بكل أشكاله، في المجتمعات الأوروبية، التي يعيشون فيها، للسيطرة على حكوماتها وإذلال شعوبها.

كان تصدير المسألة اليهودية إلى منطقة الشرق الأوسط، بهجرات منظمة لفلسطين الفترة ما بين الحربين، ما هو إلا جزء من محاولات شعوب وحكومات أوروبا للتعامل مع المسألة اليهودية. حتى تشجيع هجرة اليهود للعالم الجديد، بالذات لدول شمال أمريكا، كان جزءاً من تصفية المسألة اليهودية، في مجتمعات العالم القديم، بالذات أوروبا.

بعد الحرب العالمية الثانية اتخذت الحركة الصهيونية قراراً استراتيجياً بعدم التعرّض لظروف تجدّد المسألة اليهودية في أي مجتمع، بالذات مجتمعات الغرب التقليدية، في أوروبا وأمريكا الشمالية. لقد أخذت الحركة الصهيونية العالمية على عاتقها وعداً أقسمت فيه ألا تتكرر المسألة اليهودية في أي مجتمع، باتباع وسيلتين استراتيجيتين. الأولى: أن تكون لهم دولة منيعة خالصة لليهود، قادرة هذه المرة، أن تمارس سيطرتها وتوفّر الأمان اللازم لليهود، وتَحُولُ دون ظهور مسألة يهودية، وللأبد. الثانية: مواصلة ابتزاز المجتمعات القوية والفاعلة، في نظام ما بعد الحرب الكونية الثانية، حتى لا تتطوّر بها مسألة يهودية، بأي ثمن، عن طريق منح اليهود فيها ما يمكن تسميته بالحصانة والامتيازات العِرْقِية والاجتماعية والدينية، عن طريق استغلال عقدة الاضطهاد فيها، للحؤول دون تطوير ثقافة العداء للسامية. من ناحية أخرى: العمل على ممارسة ابتزاز شرس لمؤسسات المجتمع والدولة، لتوفير أقصى أمان ممكن لليهود في مجتمعاتها، مع أقصى دعم سياسي وعسكري، للدولة اليهودية الخالصة (إسرائيل). في كل الأحوال: يكون ولاء اليهود في العالم لدولة إسرائيل، وليس للدولة، التي يعيشون فيها ويحملون جنسيتها.

رغم أن اللوبيهات الصهيونية، وتلك المؤيدة لإسرائيل، من جمعيات وتيارات الجماعات اليمينية المحافظة الانجليكانية، وكذا الحركات الليبرالية المتطرفة في صهيونيتها، عزّزت من حملة مناهضة ما يسمونه بالعداء للسامية، ليتحوّل من العداء لليهود للعداء لدولة إسرائيل، فإنه خلال العامين الماضين، ضعف كثيراً جدل العداء للسامية، وكذلك كثر التساؤل حول جدوى ونفع وفائدة استخدام أموال دافع الضرائب الأمريكي لدعم دولة (هامشية) ليس لها أي فائدة استراتيجية لمصالح الولايات المتحدة ولا لأمنها القومي.

هؤلاء المناوئون الجدد لإسرائيل في الولايات المتحدة، ممن لم يرتدعوا بسردِية العداء للسامية ولا بالقوانين التي تحميها والنفوذ السياسي، الذي وراءها، يجادلون؛ أن شعار أمريكا أولاً، هو الأولى أن يؤخذ به، وليس شعار إسرائيل أولاً، كما يزعم بعض الساسة الأمريكيين مثل، نيكي هيلي، المندوبة السابقة للولايات المتحدة، التي تزعم: أن الولايات المتحدة هي التي في حاجة لإسرائيل وليست إسرائيل هي التي في حاجة لأمريكا. حتى أن رؤساء أمريكيين، مثل الرئيس السابق جو بايدن كان يتفاخر بكونه يروّج لشعار: لو لم تكن إسرائيل موجودة، لعملنا على إيجادها.

هذه الأيام، هناك صحوة سياسية وإعلامية وأكاديمية وثقافية تتساءل حول أسطورة العداء للسامية.. وتهاجم إسرائيل صراحةً وعلناً.. وتتساءل عن جدوى دفع مليارات الدولارات سنوياً من أموال دافع الضرائب الأمريكي لإسرائيل، بينما هناك فئات من الشعب الأمريكي في حاجة للطعام والرعاية الصحية ومكافحة التضخم وعلاج مشكلة البطالة ودعم التعليم، وتوفير جودة حياة كريمة للشعب الأمريكي... إلخ.

أسئلة تعيد إلى الأذهان تطوّر المسألة اليهودية في أوروبا، خاصةً في ألمانيا، عندما أرجع هتلر كل أزمات ألمانيا، منذ بداية القرن الماضي، لليهود، ونتج عن ذلك ما عُرف بعد ذلك بأسطورة الهولوكوست، عندما بلغت المسألة اليهودية أوجها، باتباع النازيين حلولاً جذرية استئصاليّة للتعامل مع المسألة اليهودية في ألمانيا والدول التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية، مثل بولندا وفرنسا والعديد من دول غرب ووسط أوروبا.

00:10 | 2-12-2025

قراءة في الزيارة

زيارة العمل الرسمية، التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (17-20 نوفمبر الجاري) للولايات المتحدة، زيارة مهمة بحثت في أمور استراتيجية عليا تهم مصالح البلدين، وتعتبر طفرة متقدّمة، غير مسبوقة، في مسيرة علاقات تاريخية ممتدة، دون انقطاع، منذ اللقاء، الذي عقد بين الملك عبدالعزيز والرئيس الأمريكي فرانكلين. على ظهر الطراد الأمريكي كوينسي في البحيرات المرة بمصر (4 فبراير 1945).

رغم تباين وجات النظر حول بعض الملفات، خاصةً تلك المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط الأمنية والسياسية والاستراتيجية، هناك إيجابيات غير مسبوقة، انبثقت عن زيارة ولي العهد للبيت الأبيض. من أهمها ضخ مليارات الدولارات التي قد تصل إلى ترليون دولار للاستثمار في السوق الأمريكي، في صناعات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي وفي الأوراق المالية.. وتمويل مشاريع ضخمة في البنى التحتية وبناء المدن وشبكات الطرق ومشاريع رفع مستوى الحياة للمجتمع السعودي، بالإضافة إلى تعزيز دفاعات المملكة الأمنية، داخلياً وخارجياً، في تعاون عسكري واستخباراتي متقدّم.

في الزيارة أكد الرئيس ترمب موافقته المبدئية لتزويد المملكة بـ 48 طائرة من طراز إف 35 المتقدّمة وأسراب متقدّمة من طائرات إف 15 إيجل الحديثة المتطوّرة، مع كل ما تحتاجه من بنى تحتية للصيانة والتشغيل والتدريب والتزويد بالذخيرة، وبالكميات المناسبة، وزيادتها عند الحاجة. هناك تطوّر جديد لافت: موافقة الإدارة الأمريكية تزويد المملكة بشبكة من المفاعلات النووية للأغراض السلمية، مع برنامج لتزويد المفاعلات الذرية بالوقود اللازم من اليورانيوم المخصب (محلياً).

من الناحية الاستراتيجية: عرضت إدارة الرئيس ميزة استراتيجية إضافية متقدّمة، عندما أعلن الرئيس ترمب المملكة حليفاً استراتيجياً يرقى لذلك الذي تتمتع به دول حلف شمال الأطلسي. كل تلك العروض تتمتع بحصانة والتزام أمريكي تجاه المملكة، لا تقوى أي إدارة قادمة أن تتنصل من التزامها بها، لأي سبب من الأسباب، الأمر الذي يقتضي، إقرار الكونجرس بمجلسيه، بتلك الالتزامات، التي عرضتها إدارة الرئيس ترمب في هذه الزيارة.

لكن، لا يمكن أخذ هذه الوعود على قيمتها الظاهرية وعلى الثقة في سيادة حسن النية فيها، من الجانب الأمريكي. بالنسبة لصفقة طائرات الـ إف 35 وأسراب الـ إف 15، فإن الأمر لا يتوقف عند دفع الثمن واستلام البضاعة. صفقات الأسلحة تحتاج لموافقة الكونجرس.. كما أنها تخضع لتقييم البائع، وليس بالضرورة لمتطلبات المشتري، بالنسبة للتجهيز وما يتعلق بالإمكانات القتالية. ثم أن هناك عدواً في المنطقة أعرب عن قلقه من الصفقة، وجنّد مؤيديه في الكونجرس لمعارضة إتمام الصفقة. لكن، بهذه المناسبة، علينا أن نتذكّر صفقة الطائرات الحربية (إف 35) وطائرات الأواكس، التي شهدت اقتتالاً شرساً في ثمانينات القرن الماضي بين البيت الأبيض والكونجرس، الذي انتهى بفوز المملكة بتلك الصفقة.

لعلّ أهم ما يقلق إسرائيل ومؤيديها في النظام السياسي الأمريكي، بشقيه الرسمي وغير الرسمي، موافقة الرئيس ترمب على إقامة شبكة محطات طاقة نووية في المملكة، للأغراض السلمية، مع إمكانية تصنيع ما تحتاجه من وقود نووي بتخصيب اليورانيوم محلياً. إسرائيل لا تريد أي طرف في المنطقة، غيرها، أن يتمتع بإمكانات ردع تقليدية، ولا باحتمال تطوير إمكانات ردع غير تقليدية، ولا حتى إدخال صناعة نووية متقدّمة، ولو كانت للأغراض السلمية.

ثم نأتي للشكل المبهر للزيارة، الذي تجلى في الاستقبال غير المسبوق الذي اُستقبل به ولي العهد بالبيت الأبيض، مما يعكس ما تتمتع به المملكة، على مسرح السياسة الدولية، من احترام وحضور ونفوذ، كقوة فاعلة ومؤثرة في حركة السياسة الدولية، من قبل فعاليات النظام الدولي. ملاحظة لابد من الإشارة لها والإشادة بها.

لكن التطوّر المهم في الزيارة، بالرغم من ضخامة مبالغ الصفقات التي عقدت، إلا أن الزيارة جاءت كلفتها السياسية، في أضيق الحدود. مما لا شك فيه أن سمو ولي العهد كان صارماً وثابتاً على موقف المملكة التاريخي من القضية الفلسطينية، بأنه لا يمكن تصوّر أي اتصال بإسرائيل دون رسم مسار واضح وملزم للجميع ينتهي بإقامة الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين.

00:09 | 25-11-2025

أنا منكم وإليكم؟!   

يوم الثلاثاء الماضي كان يوماً تاريخياً في الولايات المتحدة سياساً، قيماً وحركة (نخبوياً وشعبياً). كما أنه كان يوماً تاريخياً، للديمقراطية، بكل ما تعنيه من تعدّدية سياسية.. وصيغة الفصل بين السلطات.. واحترام المؤسسات السياسية والنخب السياسية، للإرادة العامة للمواطنين.. والقطع: من أنه لا توجد قوة بعينها تستطيع أن تتحكم أو تحتكر مؤسسات الدولة، مهما كان نفوذها أو غناها أو تأثيرها في حركة مؤسسات الدولة، بعيداً أن إرادة الناس. أيضاً: تتجلى تاريخية يوم الثلاثاء الماضي، في مرونة النظام السياسي الأمريكي، في إحداث التوازن في حركته، بالسرعة والحسم اللازمين، متى ظهر خلل ما على المستويين السياسي والاجتماعي، من شأنه أن يحدث تحوّلاً خطيراً، في مسار الديمقراطية، حركةً وقيماً.

في ذلكم اليوم ذهب الأمريكيون للتصويت، في أربعة مواقع مهمة، على المستوى المحلي، سوف يكون له صدىً على المستوى الإقليمي (الفيدرالي)، في الانتخابات التشريعية النصفية. تطوّر إستراتيجي على المستوى المحلي، بدءاً من مستوى المدن (نيويورك) وولايتي (نيوجرسي وفرجينا)، حتى أنه طال ما يشبه التعديلات الدستورية، لإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، لأكبر وأغنى وأكثر الولايات كثافة سكانية وحضوراً في مؤسسات الدولة الفيدرالية، (كاليفورنيا).

لكن الحدث الأهم والأكبر، في هذه التحوّلات في الممارسة الديمقراطية الأمريكية، ما حدث في انتخابات عمدة مدينة نيويورك. بأغلبية ساحقة تغلّب المرشح الديمقراطي (زهران ممداني)، على منافسه المستقل، حاكم الولاية السابق (أندرو كومو)، الذي نافسه في الانتخابات التمهيدية السابقة، كمرشح عن الحزب الديمقراطي، ليطيح به بالضربة القاضية، في انتخابات يوم الثلاثاء الماضي، عندما تحوّل كمرشح مستقل.

زهران ممداني، بنتيجة تلك الانتخابات التي أوصلته لمنصب العمدة، في مدينة نيويورك، أحدث تحوّلاً، فيما يشبه الصدمة، على مستوى قيم وحركة النظام السياسي الأمريكي. من حيث القيم، ما كان يعتبر محرماً «تابُوواً»، تجاوزه ممداني، بكل ثقة وشجاعة، غير عابئٍ بما قد يسببه له ذلك من حرج ومشاكل، قد تهدد مستقبله السياسي، بل ربما حياته. لقد قدم ممداني نفسه لمواطني المدينة ومؤسسات الحكم فيها ومجتمعها السياسي وعلى مستوى البلاد بأسرها، بأنه: ديمقراطي اشتراكي.. مسلم.. ملون (غير أبيض)، وأعلن صراحةً أن ما تفعله إسرائيل في غزة هو إبادة جماعية ممنهجة، وهدّد بأن لو حدث أن وطأت قدما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أثناء ولايته عمدةً لنيويورك، فإنه سيعتقله، على خلفية حكم صدر بذلك من محكمة الجزاء الدولية، أدانه بارتكابه جرائمَ حربٍ في غزة تنحدر لمستوى الإبادة الجماعية. هو لم يصرح بكل ذلك، فحسب، بل نراه يؤكد على أنه لن يعتذر عن أيٍ من ذلك.

تحوّلات في عقيدة الشعب الأمريكي، بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية، كانت تعتبر كمحرمات تحميها قوانين وأعراف، تعكس خطوطاً حُمْراً، يحظر الاقتراب منها. لكن ممداني، لم يكترث بذلك، والأهم والأخطر، بالنسبة لقيم النظام السياسي، أن تلك الصراحة رغم جُرْأتها، وافقه عليها شعب مدينة نيويورك، ليصبح عمدةً للمدينة، بدءاً من يناير القادم.

على مستوى حركة مؤسسات ورموز النظام السياسي، لم يكن ممداني، بأقل جرأة وصراحة. قد لا نبالغ، إذا ما قلنا: إن فوز ممداني، جاء رغماً عن الحزب الديمقراطي، الذي دخل تلك الانتخابات على ورقته!؟ لا زعيمي الأقلية في مجلسي الكونجرس، ولا أحد من أساطين الحزب المؤثرين في الحزب، بمن فيهم الرؤساء السابقون، من أمثال: بل كيلنتون، ولا حتى الرئيس أوباما، أيّدوا علناً أو من وراء حجاب، مسيرة ممداني السياسية، دعك من الجمهوريين، عدا السيناتور (المستقل) عن ولاية فيرمونت (برني ساندرز)؟!

كما لم يدعمه أساطين المال والأعمال (الديمقراطيون) في المدينة، إلا النزر اليسير، ممن لا تتحكم في سلوكياتهم الأيديولوجية السياسية، وتقودهم رغبة مخلصة في تحسين أوضاع المدينة ومحاربة الفساد فيها، بما فيهم بعض اليهود. لقد اعتمد ممداني على جيشٍ من المتطوعين، قوامه عشرات الآلاف، طرقوا كل باب وحضروا كل تجمع في المدينة، ليوصلوا رسالته للناخبين، كلاً بلغته، اقتراباً من ثقافته.

ما دفع الناخبين للتصويت له، برنامجه الانتخابي (الاشتراكي)، الذي لا يخجل هو نفسه من وصفه بذلك، لأنه يهدف إلى خدمة الطبقة الفقيرة المهمشة في المدينة، بوعده لهم: بأن تكون المدينة قابلة للعيش فيها. لقد وعدهم: بتجميد إيجارات المساكن، لأكثر من مليوني مواطن.. وبمواصلات سريعة ومجانية.. وبضخ موارد للارتقاء بالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وتقليص البيروقراطية المتضخمة.. ومحاربة الغلاء في الاحتياجات المعيشية للسكان.. وتوفير الأمن المحترف الكفء لسكان المدينة، الذين يتجاوز تعدادهم الثمانية ملايين إنسان.

ذلك البرنامج الانتخابي، الذي وعد به ممداني، سكان مدينة نيويورك، مخاطباً إياهم، بلغة عربية فصيحة (أنا منكم وإليكم). لم يكن يعني عرب المدينة، حصرياً، بل الخريطة التعددية للمدينة، التي تتشكّل من أجناس وأعراق وأديان ومذاهب، تعكس تكتلاً سكانياً، من المهاجرين، يعود بالديمقراطية كونها مرآة للخريطة الإنسانية للمجتمع، لا لخدمة مصالح أقلية عرقية أو مالية أو فئوية، بعينها.

00:08 | 11-11-2025

رئيسٌ فوق العادة

لا يملك المرء، إلا أن يُعجب انبهاراً (محباً أم كارهاً)، بالرئيس الخامس والأربعين والسابع والأربعين للولايات المتحدة. إذا كان هناك فضلٌ يُشار إليه لتفسير صعود الرئيس ترمب لسدة الرئاسة الأمريكية، لمرتين تفصلهما فترة رئاسية واحدة، تخللهما عقبات وتحديات سياسية وقضائية ودستورية، فإن ذلك يعود للرئيس ترمب وحده. منذ بداية تفكيره لأن يخوض غمار انتخابات أعلى المناصب السياسية رفعةً ليس في بلاده، فحسب، بل على مستوى العالم، والرئيس ترمب، يتزوّد من موردٍ سياسي واحد (الوصول لذلك المنصب الرفيع، والبقاء فيه)، هادفاً: تغيير قيم ومؤسسات نظام الحكم، الذي يتبوأ سنام السلطة فيه.

هل جاء الرئيس للحكم، بعقلية المقامر، أم بواقعية السياسي؟.. فالمقامرة، هي: قمة المجازفة بكل شيء، للفوز بكل شيء، أو خسارة كل شيء. بينما تقتضي واقعية السلوك السياسي: التطلع لأخذ كل شيء، والرضا ببعض الشيء. والمقامرة تتطلب التهور بطلب كل شيء، للحصول على كل شيء، بينما السياسةُ تتطلب المساومة على أي شيء، للحصول على بعض الشيء.

لم يخفِ الرئيس ترمب، بأن هدفه السياسي الأول: تقويض دعائم (مؤسسات) النخبة السياسية في واشنطن، متهماً إياها بالفساد والعجز. هذا، من وجهة نظره لن يتحقق إلا بالإطاحة بنظام الحكم (الديمقراطي) القائم في واشنطن. توجه أوتوقراطي في الحكم، لم يحاول إخفاءه. نراه يشيد ببعض الأنظمة الديكتاتورية ورموزها البائدة منها، والمعاصرة. كما لا يتحرّج من إبداء إعجابه بالرئيس الروسي، والرئيس الكوري الشمالي، والرئيس الصيني، وببعض حكام أنظمة الحكم السلطوية في العالم الثالث!

إن قيم وحركة الديمقراطية، لها دور في إنتاج أنظمة مضادة، هي نفسها وجدت لتكون بديلاً عنها. النظام السياسي الأمريكي، على سبيل المثال؛ وإن بالغ في تمسّكه بالقيم الليبرالية، بافتراض: أن سلوك وأخلاقيات من يتقلد المناصب العامة، بالذات أكثرها رفعةً (رئاسة الدولة)، لا بد أن يصل إلى مرتبة تَرقى إلى مستوى الملائكة لا البشر. أي شائبة سلوكية (أخلاقية) تَظْهر أثناء اختيار رموز مؤسسات الحكم، بالذات منصب الرئاسة، يُستبعد صاحبها فوراً من مضمار السباق. مثلاً: لو عُرف عن المرشح، أنه: شوهد، ولو لمرة واحدة، وهو يدخن «الماريجوانا»، فإن ذلك كفيل بإسقاط اسمه من قائمة المرشحين.. كما لو ظهرت امرأة، أثناء الحملة الانتخابية متهمة أحد المرشحين، بالاعتداء عليها أو التحرش بها، فإن ذلك كفيلٌ بأن يطيح بالمرشح من صهوة جواده في مضمار السباق.

رغم هذه الصورة النمطية للقادة السياسيين، في الأنظمة الديمقراطية، التي تنظر للساسة، نظرة تقترب من «القدسية» متجاوزة حقيقة النفس البشرية الأمارة بالسوء، نجد أن الرئيس ترمب تجاوز، بعبقرية فذة، هذه العقبة الكأداء، خاصة في حملته الانتخابية للفترة الثانية (الحالية). الشعب الأمريكي وهو ذاهب للإدلاء بصوته لاختيار الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة كان يعرف أن الرئيس ترمب كان متهماً، من قِبَلِ هيئة محلفين في ٣٤ قضية (جنائية)، يُنتظر الحكم بالسجن فيها، بأحكام قد يتجاوز مجموعها مئات السنوات.. كما كانت تنتظره، قضية خطيرة جداً، لو أُدين فيها، فإن ذلك كفيلٌ بحرمانه من العمل السياسي، مطلقاً. التهمة كانت: التآمر على النظام الجمهوري والانقلاب عليه، في أحداث السادس من يناير ٢٠٢٠. كما أن الشعب الأمريكي، يومها كان يعرف: أن الرئيس ترمب يرفض الإفصاح عن ذمته المالية، أو حالته الصحية.

الرئيس دونالد ترمب تجاوز كل تلك العقبات (القانونية والسياسية)، لو توفر جزءٌ ضئيل منها لدى أي مرشح رئاسي لكان كفيلٌ بأن ينهي حياته السياسية، بقسوة وبدون رحمة. الرئيس ترمب يواصل محاولاته المستميتة لتجاوز ممارسات العمل السياسي (الديمقراطي) المرعية، لتحقيق هدفه السياسي، هذه المرة، (البقاء في البيت الأبيض وعدم الخروج منه، بحلول فترة ولايته الحالية). بل أقرب من ذلك (حلول موعد الانتخابات النصفية للكونجرس نوفمبر القادم). في الأثناء: سيحاول جاهداً أن يجهّز المشهد ليحتفظ الحزب الجمهوري بالأغلبية في تلك الانتخابات، حتى يتسنى له إحداث التعديلات الدستورية اللازمة لخوض غمار جولة ثالثة للبقاء في البيت الأبيض، بل، حتى لو احتاج الأمر، استخدام القوة، بعد أن يكون قد تخلص من جنرالاته (التقليديين) الملتزمين دستورياً بالحفاظ على الجمهورية، والذود عن الدستور. الرئيس ترمب لا يرضى بأقل من الولاء المطلق له من نخب البلاد السياسية والعسكرية.

ترى هل يشهد العالم تشييع جنازة الديمقراطية في الولايات المتحدة، ليبقى رئيسها في البيت الأبيض، أو على الأقل ترشحه لفترة رئاسية ثالثة، إن نجح في تعديل الدستور، قبل نهاية فترته الحالية. ليس علينا سوى الانتظار، لنشهد إما سقوط الديمقراطية في أقوى وأعتى وأغنى وأكثر دول العالم تقدّماً، أم انتصارها، بدءاً من نتيجة انتخابات الكونجرس، نوفمبر القادم.

00:01 | 4-11-2025

دولة وظيفية بدرجة عظمى..!

عادةً ما يطلق مصطلح الدولة الوظيفية على دولة هامشية ضعيفة، يستمد نظامها السياسي شرعية وجوده، ليس بالضرورة وحصرياً، من إرادة شعبه، بقدر جدارته في خدمة مصالح قوىً كبرى، لا غنىً عنها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، على حساب مصالحها القومية، سيادتها، واستقلالية قرارها السياسي.

إلا أن الآية قد تنقلب، ويكون العكس في حالة نادرة جداً، قد لا تتكرر، عندما تكون الدولة الوظيفية هي دولة عظمى، بينما الدولة الراعية المهيمنة كونياً، هي تلك الدولة الهامشية المغمورة، التي لا تشكّل أي أهمية استراتيجية، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، للدولة العظمى. ذلك يكون عندما تستعذب، نخبها الحاكمة، أن تقوم بدور الدولة الوظيفية، لخدمة مصالح وأجندات تلك الدولة الهامشية الهشة.

تلك هي العلاقة «الشاذة» غير الطبيعية في عالم العلاقات بين الدول، الذي يخضع لميزان قوة «مادي» يمكن قياسه كمياً، يفرض تراتبية «هيراليكية» خاصة بجاذبية متلازمة، تجعل هناك مصدراً جاذباً لكل تابع يدور في فلكه. تماماً، كما هي العلاقة بين الشمس وتوابعها من الكواكب، بأقمارها وحلقاتها وكويكباتها ومذنباتها ونيازكها. مثل ما لا يمكن تصور علاقة عكسية تجعل من توابع الشمس مركزاً للجاذبية، نفترض مجالاً معكوساً للحركة، في عالم العلاقات الدولية. من الصعب، بل من المستحيل، أن يكون مركز الجاذبية، تابعاً لجُرْمٍ، يقع على هامش النظام الدولي، لكن ذلك يحصل، فقوانين السياسة، ليست - بالضرورة - قوانين الفيزياء.

لكن، في الحقيقة، هذه هي العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. هناك في الولايات (350 مليون نسمة) تيار سياسي قوي مؤيد لإسرائيل (7 ملايين نسمة)، ربما يتجاوز ما يتمتع به الإيباك ليمثّل تياراً يمينياً محافظاً مؤيداً بشدة، يزعم: أن الولايات المتحدة في حاجة لإسرائيل أكثر من حاجة إسرائيل للولايات المتحدة! هذا ما تقوله: سياسية (جمهورية) نشطة، مثل؛ نيكي هيلي الحاكم السابق لولاية كارولاينا الجنوبية والمندوبة السابقة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة والمرشحة السابقة للرئاسة الأمريكية. موقف يعتبره الكثير من الأمريكيين غير وطني، يصبّ في هيمنة إسرائيل على السياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي: تبعية واشنطن لإسرائيل.

لماذا نذهب بعيداً: الرئيس الأمريكي، في خطابه بالكنيست، قبل ذهابه لشرم الشيخ، لحضور مؤتمر وقف إطلاق النار في غزة، أكّد أن بنيامين نتنياهو أحياناً كان يوقظه ليلاً، ليطلب منه أسلحة، ليباشر صباحاً بإرسالها، ثم استدرك قائلاً إن إسرائيل تحسن استخدام السلاح الأمريكي المتطور.

ليس هذا فحسب، الرئيس الأمريكي، أكد أمام الكنيست أنه نفّذ وعده لميريام أديلسون عندما وجه خطابه لها، قائلاً: ألم أوفِ بوعدي لكِ في الفترة الأولى من ولاياتي، واتخذت قرارات جَبُن رؤساء أمريكيون قبلي عن اتخاذها، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل ونقلت سفارة الولايات المتحدة إليها.. وأيضاً: تم الاعتراف بضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية. كل هذا مقابل 40 مليون دولار تبرعت بها مريام وزوجها في حملة الرئيس ترمب الأولى!

كما ألمح، الرئيس ترمب: إنه سيعمل جهده في ولايته الثانية (الحالية) لخدمة أطماع إسرائيل التوسعية، كالاعتراف بضم إسرائيل للضفة الغربية. هذا بالإضافة لاستعداده تبني خطط إسرائيل التوسعية، لبناء إسرائيل الكبرى! طبعاً هذه المرة دفعت السيدة أديلسون: 100 مليون دولار، لدعم حملته الانتخابية الأخيرة! لم ينسَ الرئيس ترمب أن يشير، إلى أن: السيدة أديلسون، ولو بطريقة غير مباشرة تحب إسرائيل أكثر من الولايات المتحدة! لم يتضايق من هذا، بل تمادى بالتفاخر بها والإغراق في تملقها.

لكن رغم إصرار التيار الأنجلوسكسوني الأبيض المتحدث باللغة الإنجليزية على رهن إمكانات وقدرات وغنى وتقدّم ومكانة واشنطن المرموقة (المهيمنة)، على النظام الدولي، لخدمة دولة هامشية (لا علاقة استراتيجية مباشرة لها بمصالح وأمن الولايات المتحدة)، هناك، داخل المجتمع الأمريكي ما يمكن وصفها بأنها صحوة (وطنية)، تتساءل عن هذه العلاقة التي يصر عليها التيار الأنجليكاني، لتتحوّل واشنطن للعب دور الموظف (دون أجر أو عائد) لدى تل أبيب!

تيار وطني، أخذ ينتشر كانتشار النار في الهشيم، بين قاعدة الرئيس ترمب الشعبية من الجمهوريين المحافظين، من أمثال: تشارلي كيرك، الذي اغتيل الشهر الماضي، عندما طالب: بمراجعة العلاقة مع إسرائيل. ويظهر على السطح، هذه الأيام، الإعلامي المحافظ (تكر كارلسون)، الذي تحوّل من محافظ متزمت مؤيد لإسرائيل، إلى معارضٍ شرسٍ لهذه العلاقة بين بلاده والدولة العبرية، مطالباً بإعادة النظر في هذه العلاقة، التي تكلف دافع الضرائب الأمريكي أموالاً طائلة كان يمكن إنفاقها لصالح المواطن الأمريكي، في تعليمه، صحته، محاربة البطالة، التضخم وتحسين جودة الحياة.

00:04 | 21-10-2025

بين السادس والسابع من أكتوبر

الأسبوع الماضي مرّت على المنطقة والعالم مناسبتان تاريخيتان، في يومين متتالين من شهر واحد، يفصل بينهما نصف قرن، بالكمال والتمام.
في السادس من أكتوبر 1973، نشبت بين العرب وإسرائيل رابع حرب نظامية.. وفي السابع من أكتوبر 2023، نشبت حرب (غير نظامية) بين الفلسطينيين (فصائل في غزة) وإسرائيل. في كلا المواجهتين كانت المبادرة بهما عربية، وكانتا تحدياً لمن تكون الهيمنة على مقدّرات المنطقة.. وكلا الموقعتين كانتا اختباراً لإمكانات الردع لدى الطرفين، وفي كلا النِزالين، كانت لهما أصداء عالمية ترددت في أرجاء المعمورة، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها.
هناك قواسم مشتركة، تجمع بين الحدثين، جميعها تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط هي: أكثر بقعة عدم استقرار في العالم.. وأنها: تاريخياً وثقافياً ودينياً، من أكثر مناطق العالم توتراً، ولها قيمة جيوسياسية، في قلب العالم، قديمه وجديده، من يتحكم بها تكون له اليد الطولى، ليس فقط السيادة والهيمنة الإقليمية الكونية، بل أكثر: القول الفصل في مستقبل سلام، المنطقة والعالم. المواجهتان اللتان وقعتا في المنطقة، خلال جيل واحد من تاريخ البشرية، تتحكمان في حركتهما العنيفة، معادلة صفرية، هي أكبر من حسمها في فترة تاريخية واحدة، حتى ولو كان يفصل بينهما، نصف قرن. هي مواجهة أزلية، تستمد تاريخيتها «الدياليكتية»، من عناصر تبدو كونها عصية على الالتقاء، بعيداً عن المساومة وغير قابلة للمزايدة.
لكن، كما أن لإرادة القتال، أجندة خاصة بها، ما أن تُطفأ نارها، إلا وتشتعل، ولو بعد حين، إلا أن إرادة التوازن والاستقرار ما تلبث وأن تثبت جدارتها، أيضاً، ولو لحين. في كل الأحوال يكون السلام بعيد المنال، لا يمكن حسم إرادته دفعة واحدة.
يبدو أن أطراف الصراع في المنطقة، لا تحكمهم قيم السلام، بقدر استسلامهم لغواية الاستمرار في الاقتتال، دون التبصر في عوائد السلام وفداحة سيطرة روح الاقتتال، ومعاودة الأخير، على حساب هدُن الهدوء والاستقرار القصيرة، في عرف قوانين الطبيعة وتوازناتها.
ليس مثل الحرب الطويلة والمريرة الأخيرة، التي استمرت لعامين، ولا يظهر في الأفق القريب أن لها عمراً افتراضياً تضع أوزارها فيه، نهائياً. حربٌ استنزفت الكثير من الموارد، كما كان الكثير من البشر وقوداً لاستمرار اتقاد لهيبها، والأهم: الأضرار الجسيمة التي أصابت استقرار المنطقة، بل وحتى أمن وسلام العالم. حربٌ تميّزت بطول حركة عنفها وشموليته وبعد امتداده، وعدم اقتصار لهيبها على ساحة نزالها الضيقة. حربٌ عجزت إمكانات النظام الدولي بمؤسساته وقوانينه، حتى أن تقترب من وضعٍ حدٍّ لها. غير سابقتها (حرب 1973)، التي نجحت مؤسسات النظام الدولي، في أقل من ثلاثة أسابيع أن تضع وزرها، كمؤشر لإفراغ كلا الطرفين لما في كنانتهما من عتاد، كما لخواء كليهما مما في جعبتهما من أهداف وحلول.
حربان كانتا تختلفان في هوية أطرافهما، كما اختلفتا، في سبل وطرائق إدارتهما. كانتا تختلفان في أهداف طرفيهما. حربٌ 1973، كان كلا طرفيها يتمتعان بهوية دولية متماثلة، كونهما أعضاء في مجتمع الدول، كلٌّ منهم يتطلع لتعزيز أمن حياضه السيادي، في منطقة رغم أنها فقيرة في مواردها، إلا أنها غنية في إمكاناتها الجيوسياسية والأمنية والتاريخية.
أما الحرب الأخيرة، فإنها بين طرفين، ينتمي أحدهما لمجتمع الدول يتذرع بقيمة حقه دفاعاً عن النفس، أما الآخر وإن كان ليس من مجتمع الدول، إلا أنه يستخدم مؤسسات وقوانين وأعراف وحراك مجتمع الدول، ليصبح عضواً دولياً معترفاً به.
حربُ أكتوبر 1973، كانت بين جيشين تحكم علاقتهما الصراعية، معادلة توازن قوى حسّاس، رغم أن أحدهما قد يكون ممتلكاً لرادع غير تقليدي لم يعلن عنه. بينما الحرب الحالية، تدور بين طرفين، لا جيشين نظاميين. أحدهما يمتلك أدوات ردع فتاكة، لا تردعه عن ارتكاب جرائم حرب، تسقط به إلى درك ممارسة إبادة جماعية ضد خصمه، بينما الآخر يمتلك من الصلابة والإرادة والتصميم، على خوض حرب غير متكافئة، بصبرٍ وجلدٍ منقطع النظير. أحدهما يتمتع بدعم النظامين الإقليمي والدولي، بينما الآخر يفتقد الاثنين معاً، إلا أنه لو كان وحيداً في مواجهة مؤسسات النظام الدولي الرسمية، إلا أن الشارع، على مستوى العالم، يتعاطف معه ومع قضيته.
مهما تكن نهاية الحرب الحالية، التي لن تشبه نهاية الحروب السابقة، إلا أنها، كما كانت الحروب السابقة، خاصةً تلك الأخيرة، قبل نصف قرن، ستكون أقرب للهدنة منها، لوضع حل جذري وحاسم للصراع. كما أن الحرب الحالية، وإن وضعت أوزارها، إلا أن ذيولها الإقليمية والدولية، ربما يراها البعض أنها انتصارٌ لقيم الإنسانية وحب السلام. الفلسطينيون ستحظى قضيتهم بتأييد العالم وتعاطفه، بينما ستواجه إسرائيل وقادتها صعوبات حقيقية، في إعادة استيعاب الدولة العبرية في مجتمع الدول، كما سيواجه قادتها دعاة الحرب وروّاد العنصرية، مصاعب حقيقية وملاحقات قضائية دولية، تمنعهم من الحركة وأداء مسؤولياتهم السياسية بهدوء وثقة.
حربان في نصف قرن، قد تحددان في أي مسار سيتجه النظام الدولي، تحملان علامات استفهام حقيقية، لمصير أمن واستقرار وسلام العالم.
00:00 | 14-10-2025

نظام دولي موازٍ

منذ نهاية القرن الخامس عشر تتعاقب نظم دولية قائمة ونشطة، تتبادل احتلال مكانة الهيمنة الكونية عليها، قوىً عظمى. حركة تاريخية «ديالكتيكية» تتعاقب الأنظمة الدولية خلالها، منذ بداية الاكتشافات الجغرافية الكبرى، التي كشفت العالم الجديد بقاراته الثلاث (أمريكا الشمالية والوسطى، ثم الجنوبية)، بين المحيطين (الهادي والأطلسي). من يومها والصراع بين الدول العظمى يتبلور حول موارد العالم على اليابسة والمياه، ولا تخلو بقعة على الكوكب، إلا وكانت ذات قيمة استراتيجية واقتصادية وجيوسياسية، تستحق الصراع عليها.

أهم سمات الأنظمة الدولية المتعاقبة، أن الصراع يدور فيها وحولها وبها، بين دول، من أهمها طابعها الرسمي، مكوّنة مما عُرف، لاحقاً، بالدولة القومية الحديثة، عقب صلح وستفاليا، الذي أنهى الحروب في أوروبا (أكتوبر 1648) التي من أهم خصائصها السيادة الوطنية، لدول علمانية، تدفعها غريزة سياسية راسخة، أنانية بطبعها، للصراع بينها، من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من الموارد الطبيعية والاستراتيجية واللوجستية، المحدودة بطبيعتها.

هذا يبدو في الماضي، حيث يبدو جوهر الصراع (سياسياً نظامياً) بين دول، وليس بين أمم وإمبراطوريات، كما كان الأمر في الماضي، حيث تدفع الصراع، آنذاك، قيم دينية ثقافية، في مجملها غيبية (ميتافيزيقية). لكن، منذ نهاية القرن الخامس عشر، أضحى هناك نظام دولي واحد أو متعدد الأقطاب، لكنه في النهاية، هو نظام رسمي، عضويته تتكون أساساً من دول ذات سيادة وطنية، يحتويها نظام دولي سائد، بقوانينه ومؤسساته، وقواعد للتعامل الدولي بينها، مُعترفٌ بها، بأعرافه المرعية.

باختصار: الأنظمة الدولية المتعاقبة هذه، عضويتها الأساسية، كانت تنحصر في الدول ذات السيادة، المتباينة في القوة والأوضاع الاقتصادية والأنظمة السياسية المختلفة (ديمقراطية أو شمولية أو أتوقراطية أو سلطوية... إلخ). لم يحدث أي تطوّر في الصورة النمطية للأنظمة الدولية، بطابعها الرسمي والنظامي المنحصر في أعضائه من الدول. لعلّ من بين علامات ضعف نظام الأمم المتحدة الحالي، ما يحصل الآن، داخل نموذج الدولة القومية الحديثة، ليكشف فعاليات مهمة، تتطوّر داخل نموذج الدولة القومية الحديثة، كاشفةً عن إرهاصات نظام دولي موازٍ يتحدى مكانة الدولة المرموقة، كضوء دولي حصري ووحيد، لنظام الأمم المتحدة القائم.

ما نشاهده اليوم من حراك شعبي للشارع في بعض الدول، مهما اختلفت أنظمتها السياسية، يتحدى الطابع الرسمي للعضوية في النظام الدولي، خارج نطاق المكانة الدولية (المرموقة)، تتحدى عضوية الدولة التقليدية، وتؤثر في حركة النظام الدولي، بعيداً عن الطابع الرسمي، ممثلاً في عضوية الدولة الحصرية للنظام الدولي، منذ نظام عصبة الأمم (1919- 1939) إلى نظام الأمم المتحدة الحالي (1945، إلى الآن)، حيث تنكرت الدول الأعضاء، لنظام الأمم المتحدة، سلوكاً وقيماً، ولم تلتزم بها، لا ضمن مجالها المحلي، ولا في مجال البيئتين الإقليمية والدولية، خارجياً.

قيم مثل: حقوق الإنسان.. والتحول الديمقراطي.. وتقرير حق الشعوب في تقرير مصيرها، بعيداً عن التبعية والخضوع للاحتلال.. وتصفية الاستعمار.. والبعد عن تسوية الخلافات بين الدول بالعنف، بل وباللجوء إلى الحلول والتسويات السلمية.. والدفع تجاه قيمة الحرية في مواجهة الاستبداد.. ومحاربة الفساد.. ووقف تسلط القوى الكبرى على مقدرات الدول الصغرى واستقلالية الأخيرة، في خيارات التنمية فيها وتوجهات سياستها الخارجية، وغير ذلك من القيم التي وردت نصاً في ميثاقي عصبة الأمم ونظام الأمم المتحدة، وفشل نظام الدولة القومية الحديثة، الامتثال لها، وإن تُشدق بها في الخطاب السياسي (العلني).

العدوان الإسرائيلي على غزة، كشف نفاق وسوء نية دول، بالذات الكبرى منها، الأعضاء في النظام الدولي الرسمي، المسؤولة عن استقرار النظام الدولي ومصير سلام العالم، مما نتج عنه حراك شعبي، عابر للقارات، في الشارع، وحتى في البحر، مثال: الرحلات الشعبية المتتالية لخرق الحصار الجائر الذي تفرضه إسرائيل على غزة، وكذا محاولات الهجرة غير الشرعية المتكررة هروباً بحثاً عن حياة أفضل، بعيداً عن أوطانها الأصلية، مما تجلى في ظاهرة سلوكية علنية، تعكس تحدياً سلمياً، وأحياناً، عنيفاً، لنموذج الدولة القومية الحديثة (العضو الوحيد الرسمي) في نظام الأمم المتحدة. المظاهرات والمَسِيرات، التي تجتاح بعض الدول، في شمال الكرة الأرضية وجنوبها، في السنتين الأخيرتين، إنما هي مثال صارخ، «للثورة الشعبية»، على نموذج الدولة القومية، قيماً وسلوكاً، التي حادت عن مسارها، وعن التزاماتها تجاه السلام واستقرار النظام الدولي. نظام موازٍ (غير رسمي)، بدأ يتشكّل على الساحتين الإقليمية والدولية، في تحدٍ صارخٍ لنموذج الدولة، كعضو وحيد وحصري، في نظام الأمم المتحدة القائم.

من الصعب القول، من الآن، أن هذا النظام الدولي غير الرسمي (الموازي) مرشحٌ ليُستبدل به النظام الدولي التقليدي القائم، ولكن كونه موازياً، من الصعب تجاهله، واستبعاد ما يمثله من تحديات للنظام الدولي القائم، بقيمه، ومؤسساته، وقوانينه، وأعرافه.
23:47 | 6-10-2025

الدولة المنبوذة

يوم الجمعة الماضي انسحبت وفود دول العالم، عدا قلة قليلة لا تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة من مئتي دولة، اختارت أن تبقى أثناء إلقاء رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

مشهد انعكس بجلاء على وجه نتنياهو، فبدا عبوساً قمطريراً. مشهد يفصح عن الكثير ويكشف مدى كره العالم لهذا الكيان المغتصب، حيث تجلّى هذا الغضب والامتعاض الأممي من أعلى منصة أممية.

بنيامين نتنياهو الذي تفاخر بعنجهيته المقززة، وجرائمه البشعة ضد الشعب الفلسطيني، في حربه على غزة.. وانتهاكه لسيادة دول عربية من العراق شرقاً للبنان مروراً بسورية وصولاً غرباً لتونس وجنوباً لليمن، غير مكترث لما تسبّبه دولته العنصرية من عدم استقرار وإخلالٍ بأمن العالم وسلامه، في تحدٍّ مقزز لأهم التزام مفروض على كل دولة عضو في الأمم المتحدة أن تكون محبة للسلام وتتجنّب العنف، لتسوية خلافاتها داخل مجتمع الدول بالطرق والوسائل السلمية.

بعد ما يقرب من ثمانين عاماً من إقامة إسرائيل بشهادة ميلاد مزورة صادرة- وللمفارقة- عن الأمم المتحدة، فشلت إسرائيل في استيعاب نفسها ضمن مجتمع الدول المتحضرة لتبقى منبوذة كأي كائن به مرضٌ معدٍ الكل يتجنّب الاقتراب منه وملاقاته. حتى أمريكا، الراعية الوحيدة، لهذا الكيان المنبوذ المغتصب، قال رئيسها، مرةً: إن إسرائيل فشلت في معركة العلاقات العامة، حتى أظهرت بجلاء ودون مواربة، وجهها القبيح بكل غطرسة وبلا حياء، في اجتماعات الجمعية العامة، في دورتها الحالية.

قد لا يهم هذا الكيان المغتصب المنبوذ، أن يتقبله العالم ويتغاضى عن جرائمه ضد الإنسانية والسلام.

هناك تحوّلات سياسية حقيقية في هذه البيئة الحاضنة لهذا الكيان المنبوذ، الذي كشفته هذه الحرب المجنونة، التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة. هذا العدوان، الذي يُشن على الفلسطينيين في غزة، ويقض مضجع الأمن والسلام في طول الشرق الأوسط وعرضه، وصولاً إلى الشمال الأفريقي (العربي)، ما كان له أن يستمر وأن يستشري، بهذه الشراسة والوحشية غير المسبوقتين، لولا هذا الدعم السخي من قبل الدولة المسؤولة الأولى عن استقرار نظام الأمم المتحدة، بوصفها الدولة الأعظم الوحيدة، المسؤولة عن سلام العالم وأمنه.

هناك تحوّل، على المستوى الاستراتيجي يتفاعل داخل المجتمع الأمريكي، لا تقوى إسرائيل على تجاهله. الاستطلاعات تكشف أن 60% من الأمريكيين، ضد ما تفعله إسرائيل في عدوانها على غزة.. وتقريباً الشباب الأمريكي حتى سن الثلاثين عاماً، غير راضٍ عما تقوم به إسرائيل من عدوان عنصري وحشي على غزة، يموّل من قبل دافعي الضرائب الأمريكية. أضحى من المفروغ منه أن القاعدة الشعبية للحزب الديمقراطي تحوّلت عن دعمها التقليدي لإسرائيل، بجهرها العلني شجباً لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. جرائم الحرب تلك التي تنحدر لدرك جرائم الإبادة الجماعية، لشعبٍ جريمته الوحيدة أنه يقاتل من أجل حريته، ضد احتلال بغيض لأرضه وتنكيل شرس بشعبه.

لكن الأخطر في كل هذه التحولات في المجتمع الأمريكي ضد إسرائيل وممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، مستخدمة السلاح والعتاد والدعم السياسي، تلك التحولات التي اخترقت سد التأييد الأعمى من قبل (اليمين الأنجلوساكسوني الإنجيلي المتطرف في الحزب الجمهوري). لم تحدث هذه التحوّلات في أعلى مستوى النخب السياسية في واشنطن، فحسب، بل وصلت لقاعدة الحزب الجمهوري العريضة، المؤيدة بشدة للرئيس دونالد ترمب، فيما يُعرف بتيار (ماجا).

اللوبي الصهيوني، لا يتسامح مطلقاً مع أي تحوّل ولو بسيط أو هامشي في التأييد المطلق لإسرائيل، خصوصاً في هذا التيار اليميني الإنجيلي. هناك من يعزو مقتل الناشط السياسي المؤيد لترمب تشارلي كيرك في 25 أغسطس الماضي، عندما طالب بفتح حوار لمناقشة العلاقة مع إسرائيل. هذا عند الصهاينة في إسرائيل من أمثال نتنياهو وبن غفير وسموترش، وكذا عتاة التيار الصهيوني في المجتمع الأمريكي، أمرٌ يستحيل التسامح معه ولا بد من وأده حالاً، ولذا: تم اغتيال كيرك.

إسرائيل دولة منبوذة، كمن أُُصيب بالجرب.. أو تفشى فيه الطاعون أو انتشرت فيه جائحة كرونا، لا يرغب ولا يريد أيُّ أحدٍ الاقتراب منها أو اللقاء بها، أو التطبيع معها. دولة منبوذة، يلفظها النظام الدولي بمؤسساته وسلوكياته وقيمه وقوانينه، لعدائها السافر للسلام ومروقها البَيّن، لكل ما يرمز إليه مجتمع الدول المتحضرة من قيمٍ، وسلوكياتٍ، وقوانينٍ، وأعرافٍ وقواعدٍ مرعيةٍ للتواصل بين الدول، لخدمة السلام وتعظيم مصالحها في مواجهة بعضها ببعض لتنظيم علاقاتها البينية، خدمةً لسلام العالم واستقرار النظام الدولي.
00:12 | 30-09-2025

من الفاشية للديمقراطية.. وبالعكس!

أيهما أطول عمراً وأكثر استقراراً وأسرع تحولاً: الديمقراطية أم الفاشية؟ تاريخاً: من السهل التحوّل من الديمقراطية إلى الفاشية.. ويصعب التحوّل من الفاشية إلى الديمقراطية. كما يسهل الانقلاب على الديمقراطية، ويصعب التحوّل إلى الديمقراطية. وفي كل الأحوال: المتغيّر الأساس هنا عنصر القوة، لا فقط من حيث امتلاكها، بل الإرادة (الماضية) في استخدامها. الديمقراطية، عموماً، تكاد تخلو من عنصر القوة (المادية) القاهرة، وبالتالي: يصعب التحوّل إليها، والأخطر فرض إرادتها. بينما الفاشية، يسهل التحوّل إليها.. ويصعب التخلص منها، وذلك لأن الفاشية تمتلك القوة (المادية) القاهرة، وكذا الإرادة في استخدامها، سواءً في الوثوب على السلطة، أو البقاء فيها.

لنأخذ، على المستوى الكوني، وإحداث تغيرات حاسمة على شكل وقيم ومؤسسات النظام الدولي، في إطار التحوّلات في هيكل النظام الدولي، قيمياً ومؤسساتياً، من نظام دولي لآخر. الحرب الكونية الثانية، على سبيل المثال: ينظر إليها البعض، من حيث أسبابها ونتائجها، أنها حربٌ بين الديمقراطية والفاشية، حصدت في أتونها أكثر من ستين مليون إنسان.. وكان يُنظر إليها، من حيث اللجوء إلى القوة القاهرة لحسمها خمس سنوات من عمر التاريخ الإنساني، ليتحقق انتصار الديمقراطية باهظ الثمن، حتى للمنتصرين فيها. صحيح أن الحلفاء انتصروا في تلك الحرب، لكن دولٌ عظمى، دخلت الحرب ولم تخرج منها بالوضعية التي كانت فيها قبل الحرب.

بينما لم يحتج هتلر سوى مناورات سياسية قصيرة، مع جرعات مكثفة من استعراضات إرهاب القوة المنظم في الشارع، ليصل إلى السلطة، ليحدث انقلاباً على الديمقراطية، انتهاءً بحرق البرلمان، الذي أتى به للسلطة، واعتقال رموز المعارضة وفرض إجراءات صارمة وحاسمة لسيطرة حزبه النازي على مقادير البلاد، بل والعالم، بأسره.

الفاشية تُقدّر أيما تقدير عنصر القوة الحاسم، مع توفر الإرادة الماضية لاستخدامها. بينما الديمقراطية تتطور ببطء متكاسل وبجهد يقترب من الرومانسية منه للواقعية، بشعارات تكاد تكون جوفاء، لدرجة إهمال متغيّر القوة في مرحلة إقامة الدولة، والمضي في وهم دوام استقرار ومتانة قواعد النظام الديمقراطي. بعبارة أخرى: النظام الديمقراطي يخلو تماماً من المخالب والأنياب، التي تضمن استمراره. الفاشية، في المقابل: تؤمن إيماناً راسخاً بعنصر القوة (المادية)، وهي متمترسة، بكل عزمٍ ومضاء وراء متغيّر القوة هذا، بقناعة مفرطة للاستزادة من موارد وإمكانات القوة، ليس فقط في مرحلة بدايات الوصول إلى السلطة، بل في كل مراحل البقاء فيها والتمترس داخل قلاعها المنيعة.

استراتيجية الفاشية في استخدام القوة للوصول للسلطة، ولو- بالعنف- والاحتفاظ بها، لا تتوفر في النهج الديمقراطي في الحكم. الفاشية، في مرحلة الاستيلاء على السلطة، قد تلجأ لـ «تكتيك» ارتقاء «سلم» الديمقراطية، وعندما تصل إلى السلطة، ترفع «السلم»، حتى لا يستخدمه أحدٌ بعدها، بما فيه رموز النظام الأتوقراطي القائم. بينما الديمقراطية، من ناحية أخرى: تُبقي ذلك «السلم»، ربما تستخدمه أطياف الديمقراطية المتعددة، في محاولة تبدو يائسة، للإيحاء بأن شرعية النظام الديمقراطي تعتمد على إرادة عامة أبدية، نجحت في إيجاد نظام سياسي، وجد حلاً (سلمياً) لحركة الصراع العنيف (الدموي) على السلطة، عن طريق تطوير آلية (سلمية) لتداول السلطة، تعتمد على التعددية السياسية، لا على عناصر عدم الاستقرار، له خلفيته الأيديولوجية المتزمتة، في كثير من الأحايين، التي لم تستبعد بعد متغير التحوّل (العنيف)، للحفاظ على الامتيازات الطائفية والعرقية والمذهبية والطبقية، المتجذرة في المجتمع، مع عدم التسامح، تجاه كل من يتحدى امتيازاتها ونصيبه الأوفر في موارد النظام السياسي القائم العصي عن التحوّل والتغيير.

مع الوقت، قد لا يبقى من نماذج النظام الديمقراطية سوى التجربة الديمقراطية البريطانية العريقة، مع جيوب متفرقة في دول شمال أوروبا المستقرة والغنية. وتبقى الديمقراطية البريطانية العريقة، التي أتت بمواطن بريطاني، من أصول هندية (هندوسية)، ليصبح رئيساً لوزراء بريطانيا، ولو لفترة قصيرة. هذا التطوّر المتماسك المتطرف في تسامحه وإيمانه بالخيار الديمقراطي، قد يكون سبباً، مع الوقت، في انهيار التجربة الديمقراطية العريقة، في بريطانيا العظمى.

وإن كان التاريخ، مع التحوّل الديمقراطي، إلا أن مسيرة حركة التاريخ، أمامها طريق وعر، مرصوف بالعنف وعدم الاستقرار والحروب حتى تستوعب الإنسانية فضيلة السلام والاستقرار والأمن، الذي قد يأتي به الحل الديمقراطي.
00:36 | 23-09-2025

معركة الدولة الفلسطينية الفاصلة

تبدأ في الرابع والعشرين من هذا الشهر الدورة التاسعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة وتستمر لستة أيام. القضية الأساسية في هذه الدورة، هي: القضية الفلسطينية، ولن تطغى عليها لا سياسياً ولا دبلوماسياً ولا إعلامياً أي قضية أخرى، سادت أروقة الأمم المتحدة في الماضي.. أو ممكن أن تهيمن على فعاليات الجمعية العامة، في المستقبل. قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي ستشعل أروقة الجمعية العامة، في دورتها القادمة قضية لها علاقة مباشرة بوجود النظام الدولي، الذي من أهم أولياته والوظيفة الأساسية لمؤسساته والالتزام الأول لأعضائه، هي: الحفاظ على سلام العالم وأمنه.

الدورة العادية القادمة للأمم المتحدة، لا تختلف في أجندتها عن الدورة الأولى الاستثنائية (28 أبريل-15 مايو 1947)، التي صدر عنها قرار التقسيم الجائر باقتسام فلسطين التاريخية بين اليهود والفلسطينيين (دولة يهودية ودولة عربية)، إلا ربما، وفي أسوأ الظروف: تأكيد على مشروعية دولة الاحتلال (إسرائيل)، والحؤول دون قيام الدولة الفلسطينية، لتبقى كالدولة المعلقة، لا هي قائمة، ولا هي معترف بها من النظام الدولي.

قد لا تطول هذه الدورة العادية عن فترة انعقادها؛ لأنها ببساطة لن تتعرّض لموجة علاقات عامة ولا مساومات التصويت وحملات جمع الأصوات وشراء ذمم الدول الأعضاء؛ لأن العالم، في معظمه، نظمه السياسية وحراكه الشعبي، مهيأ للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإن كانت هذه الدولة، بمساحة أقل وبمواصفات الدول أدنى، فهي ليس لها من مواصفات الدول، ما تتمتع به بقية الدول الأعضاء، من امتيازات السيادة ومعالم الاستقلال، إنما هي دولة والسلام!

حتى هذه الدولة الفلسطينية، إن حدث وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بها، فإن المعارضين لقيامها، سوف يجادلون ضد سلامة إجراءات طلب العضوية؛ لأن البداية لا بد أن تكون بتوصية من مجلس الأمن، للجمعية العامة، لا العكس. هذا الجدل المناوئ للاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى في إطار حل الدولتين، سوف تستخدمه إسرائيل والدول الداعمة لها والمناوئة لحل الدولتين، لإفراغ أي قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، من مضمونه، كمقدمة لمنح العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية، بالذات من الولايات المتحدة. حتى على مستوى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذا ما احتج المؤيدون بإقامة الدولة الفلسطينية، أن هناك بالفعل قرار سابق من الجمعية العامة للأمم المتحدة (قرار التقسيم)، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو أمر سيادي (فردي) تقوم به الدول، بصفة ثنائية، ولا يلزم المنظمة الأممية ولا أعضاءها، فالأمم المتحدة ليست دولة، يتطلب اعتراف متبادل بينها وبين أعضائها. كما أن على الأمم المتحدة ألا تُلزم بقرار به عيوب قانونية، لم يصدر وفق إجراءات محددة تضمنها الميثاق.

كذلك: فإن أي دولة فلسطينية، إن فُرض، وهذا مستبعد، أن وافق مجلس الأمن على التوصية بعضويتها في الأمم المتحدة، فإنها لا تتوفر بها عناصر الدولة المادية. لا أحد ينكر أن هناك شعباً فلسطينياً، عدا إسرائيل، وربما الولايات المتحدة، مؤخراً، فأين إقليمها، أليس محتلاً من قبل دولة أخرى (عضو في الأمم المتحدة)؟. وإن كان المجتمع الدولي لا يعترف بهذا الاحتلال، لكنه أمر واقع، يحول فعلياً، دون قيام الدولة الفلسطينية. ثم لنفرض أن هناك أرضاً، وإن كانت محتلة لا يعترف باحتلالها ولا يقر بذلك المجتمع الدولي ومؤسساته بواقع الاحتلال وربما يدينه ويشجعه ويطالب بزواله، فإين، إذن: السلطة الوطنية الفلسطينية (الحكومة) في هذه الدولة التي يُراد الاعتراف بها. لعل من أبرز صعاب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، من قبل الأمم المتحدة، راجعاً لقصور ذي صلة مباشرة، بتوفر ظروف ومستلزمات الدولة بها.

رغم العيوب العملية والقانونية، التي تصل لمستوى العدمية من أي محاولة، لا أساس قانونياً ولا سياسياً ولا مادياً، للاعتراف بها أممياً، ولو تحت مسمى وعنوان مختلف (حل الدولتين)، فإن العداء للقضية الفلسطينية وتقويض أية جهود دولية للاعتراف بها أممياً، يصل لدرجة الجرم الإنساني، بل لمستوى «الإبادة السياسية الجماعية»، لحق هذا الشعب المظلوم ممارسة تقرير مصيره، ولو بعرض قضيته على المجتمع الدولي. الولايات المتحدة لم تكتفِ بالتخلي عن مشروعها بحل الدولتين، الذي هو عنوان الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، هي تتمادى عندما ترفض منح تأشيرات للوفد الفلسطيني، حضور جلسات دورة الجمعية العامة، في مخالفة واضحة لاتفاقية المقر.

العالم لم يترك للشعب الفلسطيني.. ولا لضمير الإنسانية، ولا لأحرار العالم، حتى ولو بصيص أمل في آخر النفق المظلم يطل منه خلاص من الاحتلال بمستقبل أكثر أماناً وكرامة. ثم نلوم بعد ذلك الشعب الفلسطيني أن يأخذ قضيته بيده، ويتعامل معها، وفقاً لنصوص قانون ورسالة الأمم المتحدة، بمنهج: أن آخر الدواء الكي.
00:02 | 9-09-2025