أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/248.jpg&w=220&q=100&f=webp

محمد الساعد

كأس العرب.. وأحلام الوحدة والغزو وأشياء أخرى!   

مع بداية بطولة كأس العرب في الدوحة، فإن ما جرى على المؤسسات العربية من حساسيات مفرطة ومحالات استئثار يسري عليها، لكن الفرق تبدل المسؤولية، فالبطولة جماهيرية، وانعكاسها على العلاقات «العربية-العربية» تتحمّله الشعوب المندفعة والمتحسّسة التي ترى في الفوز على الجار العربي هو أقصى أمانيها، بينما هي في الحقيقة مخرجات يختزنها العقل العربي على مدى قرون.

وبالرغم من أن البطولة شعبية ومعظم من يقود اتجاهاتها الجماهير والأوساط الإعلامية الرياضية، إلا أنها لا تختلف عن مفاعيل النخب السياسية، بل إن ما تفعله الشعوب مع بعضها البعض أكثر فداحة من السياسيين الذين يتعاملون بالمصالح لا بالعواطف.

إنها نفس الشعوب التي تملأ الفضاء صراخاً بحثاً عن الوحدة العربية، مرة تلوم السياسيين، ومرة الصحافة والإعلام، وأحياناً الغرب، بينما هي تسل السيوف لقطع أواصر القربى، وتأكل لحوم إخوتها من بقية العرب، وهذا الفضاء الإلكتروني مليء بمخرجاتها.

العروبة ليست أماني رومانسية، ولا دعوة تختبئ خلفها نرجسيات التفوق والتنمر والتعالي الثقافي والفني، وليست أحلاماً بالاستيلاء على ثروات الآخرين تخرج حينا في فلتات اللسان وتختبئ حيناً آخر، ولا رقصات في حفلات الافتتاحات، وليست مهرجانات تقام ثم يذهب كل إلى بيته ليتآمر على جاره في اليوم التالي.

إنها مجموعة من القيم العربية التي قال عنها النبي العربي «إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق»، إنها الحضارة العربية غير المادية الحقيقية التي يجب التباهي بها، فالعرب الحقيقيون أسّسوا قيماً وتراثاً وإرثاً للتعاملات، إذا فقدوه تاهوا واندثروا، وهو ما حصل في أي مأساة عربية منذ سقوط الأندلس وقبلها وبعدها، إذا ترك العربي قيمه الحضارية فشل في التعامل مع مخرجات الحضارة المادية، وأصبح أسيراً للبغضاء والضغينة والأحقاد، مندفعاً لقتل ووأد ابن عمه العربي الآخر.

منذ نشوء الدولة العربية في شكلها الحديث بعد العام 1920م، ثم تأسيس جامعة الدول العربية العام 1945م، ثم بدأت المؤسسات المنبثقة أو الموازية بالظهور، سواء التابعة للجامعة أو المستقلة، إضافة إلى مؤسسات ثقافية وعلمية ومجتمعية، ومبادرات ومهرجانات مثل «الجنادرية والمربد وجرش»، هدفت جميعها لدعم الاتصال والتعاون وتسهيل الشراكات العربية.

كما أن منظمات مثل الاتحاد المغاربي، لم تخرج من دائرة لقاءات أولى سرعان ما انهارت بعدها تلك المنظمات، ولم يصمد حتى اليوم سوى مجلس التعاون الخليجي.

كل تلك المبادرات هدفت لتقريب وجهات النظر «العربية-العربية» وتأسيس منظومة للتعاون سعياً وراء حلم رومانسي اسمه «الوحدة»، لدرجة أن دولاً مثل مصر وسورية، وتونس وليبيا جربت الوحدة إلا أنها لم تأتِ كما صوّرتها الدعوات الرومانسية التي روّجت لها أحزاب وإذاعات وطبقات من المثقفين العرب، فالوحدة السورية المصرية لم تزد على سنتين، والوحدة التونسية الليبية لم تستغرق بضعة أيام.

أما الوحدة تحت تهديد السلاح وظهور الدبابات، فقد جربها العرب إثر قيام صدام ومؤيديه بغزو الكويت تحت مسمى الوحدة، وكاد يحوّلها إلى ركام لولا «القيم العربية» التي بنى الملك فهد بن عبدالعزيز مواقفه عليها، عندما قال في حديثه عن غزو الكويت: «يا نعيش سوا، يا ننتهي سوا»، وهي عبارة صغيرة لكنها غيّرت مجرى تاريخ المنطقة، لأنها مثقلة بقيم «الفزعة والمروءة والشهامة ونصرة المظلوم والحميّة»، قيم آمن بها الفهد ابن الجزيرة العربية وطبّقها، ولذلك نجح، ونجحت بلاده.

منذ يوم

العقيدة السعودية.. تتصدّى لحسابات بألف وجه..!

في منتصف ليل 12 مايو 2003 م، وقعت انفجارات ضخمة هزّت ليل الرياض الآمن إثر قيام عدد من الإرهابيين باستهداف ثلاثة مجمعات سكنية بسيارات مفخخة في وقت متزامن، وقعت التفجيرات في مجمعات سكنية مدنية يسكنها سعوديون وأجانب، منهم أمريكيون وأوروبيون، وهي على التوالي «مجمع درة الجداول، مجمع الحمراء ومجمع شركة فينيل».

التفجيرات وما تلاها طوال ثلاثة أعوام 2006م، كانت تستهدف الوجود السعودي، لقد استطاع «أعداء وأعدقاء» المملكة اختراق مجموعات محدودة من الشباب واستخدامهم لاستهداف المملكة التي بقيت عصية عليهم طوال عقود، فما كان منهم إلا القيام بعمليات عسكرية داخل المدن السعودية.

اليوم ومع تغيّر أساليب الحروب انتقل الأعداء من تفجير المدن إلى تفجير العقول والتحريض وتشكيك المواطنين في قيادتهم ومحاولة الفصل بينهم، إنه أحد عناصر الجيل الخامس من الحروب، التي تعتمد على التكنولوجيا في استهداف الدول.

وبلا أي شك فإن انكشاف مواقع الحسابات المعادية، التي استمرت على مدى سنوات تستهدف المملكة وقيادتها وشعبها ووجودها وإرثها الحضاري، لا يقل بشاعة عن عمليات التفجير التي قام بها إرهابيون في المدن السعودية، فجميعها عمليات ترهيب، وتشويه، وقتل، واغتيال سمعة.

لم تكن تلك التفجيرات عملاً فردياً، وكذلك الحملات الممنهجة على منصات التواصل – منذ العام 2011 وحتى اليوم- ليست فردية، بل انخرطت فيها دول، وأجهزة استخبارات، وتنظيمات، وخونة، اجتمعوا على كراهية السعودية والعمل على تجريف مكانتها أو إزاحتها إن أمكن، وهو ما تكرر منذ قصف المدن السعودية في الستينات وحملات الإذاعات الموجهة، إلى توظيف منصات التواصل لخلخلة البنية الاجتماعية وإشعال الفتن بين الشعوب ومحاولة عزل السعودية والسعوديين في دائرة نمطية مشوّهة داخل الإقليم العربي.

وهو أمر لا يمكن تصنيفه كمماحكات أو خلافات في ملفات، بل هي حروب أشد ضراوة من الحروب التقليدية، وكل دولة عدوة في الإقليم تعجز عن التأثير، تكمل دورها دولة أخرى في استهداف المملكة.

لا بد من الإقرار أن أعداء الدولة السعودية لن يتزحزحوا عن محاولاتهم استهداف المملكة العربية السعودية – وجوداً، وقيادة، وشعباً-، ولذلك فإن بناء «استراتيجية دفاع مستمرة» تستند على ما يمكن تسميته بـ «العقيدة السعودية»، سيبقى أولوية دائمة للتصدي للحروب وحملات تشويه السمعة الموجهة للسعودية، التي بدأت منذ الدولة الأولى ومشروعها الإصلاحي الفكري، مروراً بالتجنّي على الملك عبدالعزيز ومشروعه الوحدوي التنموي، وصولاً إلى الحملات الممنهجة الممتدة لليوم.

هذا الأمر وأقصد هنا التزوير والاتهام والحروب المباشرة وغير المباشرة الموجهة ضد البلاد السعودية، لم تتوقف منذ العام 1727م وحتى اليوم، انخرطت فيه دول وحكومات وأحزاب وتنظيمات وتيارات عربية وإسلاموية وعلمانية ويسارية، لأسباب عدة ابحثها فيما يلي:

أولاً: كراهية المشروع العربي الذي تمثّله السعودية في شكله «النقي»، وهو امتداد للمشروع العربي الذي قوّض الإمبراطوريات الفارسية والرومانية ومخلفاتها المتجذرة في وجدان الكثير من أبناء الجغرافيا التي كانت ترزح تحت الاحتلال الفارسي والروماني، والتي ظهرت كمشاعر شعوبية منذ الخلافة الأموية، ونجدها اليوم في السياسات والحملات مهما تخفّت وراء أرديةٍ أخرى.

ثانياً: كراهية للإسلام في شكله «السلفي النقي» الذي أطلق العقل وأبقاه «عربياً» خالصاً كما نزل في مكة والمدينة، بعيداً عن المذاهب التي اختلطت بثقافات قديمة من بكتاشية وصفوية وفاطمية!

ثالثاً: كراهية للمكانة التي اُختُصَّ بها السعوديون من خدمة للحرمين الشريفين، والثروات التي وهبها الله للبلاد التي تجلّت فيها العبقرية «البدوية» بتوظيفها لخدمة البلاد والعباد فيما فشلوا فيه، فضلاً عن الحجم الجغرافي للمملكة الذي يحسّون أمامه بأنهم صغار جغرافيّاً.

رابعاً: وقوفهم ضد التراث العربي الأصيل والحقيقي المتجذر في الأقاليم السعودية، وصدمتهم من الإرث المتنوع الضارب عميقاً بين القبائل والأسر، الذي يظهر جلياً في التراث الإنساني السعودي في قهوته وطعامه وطرازه العمراني وقصائده ورقصاته الشعبية.. إلخ.

خامساً: فشلهم الذريع وعلى مدى عقود في فك الارتباط الوثيق بين القبائل والأسر السعودية، والأسرة الحاكمة، فالولاء والالتفاف حول الدولة حمى المملكة العربية السعودية في كثير من الأحداث والمؤامرات الجسام.

سادساً: محاولة الوقيعة بين الدولة السعودية والولايات المتحدة الأمريكية –الحليف الأبرز-، وهو ما أشار إليه ولي العهد السعودي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، عند سؤاله عن قيام تنظيم القاعدة الإرهابي بهجمات الحادي عشر من سبتمبر.

سابعاً: الانخراط في مشاريع تعطيل النجاحات والقفزات التنموية والاقتصادية والتكنولوجية التي تستلهم قيماً وإرثاً حضاريّاً موغلاً في التاريخ، وعلى شباب متعلم ونابه من أبناء الأقاليم السعودية.

ولذلك كله سيبقى من يمكن تسميتهم بـ (الأعدقاء) يعملون ليل نهار على استهداف السعودية وقيادتها وشعبها، ومحاولة شيطنتهم واغتيالهم معنوياً، خوفاً من بروز شخصية المملكة وتفوقها حضاريّاً.

إن قدر هذه البلاد أن تبقى دائماً مستنفرة للدفاع عن مكتسباتها وعن وجودها، فأي غفلة مع هذا الكم الهائل من الأعداء والاستهداف قد تلحق بها الضرر، وهي في الوقت نفسه ميزة من حيث لا يريد خصومها، إذ تدفع «الأمة السعودية» للتلاحم الدائم حفاظاً على بلادهم ومكتسباتهم.

00:15 | 27-11-2025

واشنطن والرياض بين زيارتين وزعيمين !

هل تتشابه الأجواء المحيطة باللقاء المرتقب بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترمب مع الأجواء التي أحاطت بلقاء الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت العام 1945م.

بلا شك أن الأجواء تكاد تتطابق، فالعالم اليوم -كما كان حينها- يحاول بناء نظام دولي جديد، مثقلاً بتحديات أمنية كبيرة، وتحوّلات اقتصادية عميقة، ومع وجود قوى دولية وإقليمية تسعى أن تكون جزءاً من النظام الدولي القادم، لا أن تكون ضحية له.

مع التأكيد أن الزيارة القادمة وما سيصحبها من اتفاقات دفاعية وسياسية وأمنية ستشكّل العلاقات «السعودية الأمريكية» لمئة عام قادمة، متحصّنة بإرث سياسي واقتصادي يزيد على ثمانية عقود.

عندما جاء الملك عبد العزيز آل سعود إلى كوينسكي للقاء الرئيس فرانكلين روزفلت كان معه رصيده كزعيم استعاد ملك آبائه وأجداده وأسّس دولته الثالثة، ومعه حمايته للممرات المائية حول الجزيرة العربية التي كانت القوى المتصارعة تحاول الاستيلاء عليها خلال الحرب العالمية الثانية، ومعه الحرمان الشريفان بمكانتهما العظيمة في وجدان المسلمين، وبين يديه حقول من النفط قُدِّرَ لها أن تشكّل اقتصاد ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية حتى اليوم.

كانت أمريكا في حاجة للقاء الزعيم الجديد في الشرق الأوسط «عبدالعزيز آل سعود» أكثر من حاجته إليها، كانت تريد التعرّف على الزعيم الذي لفت أنظار العالم إلى بلاده وجعلها أول دولة تلتقي بها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

بالتأكيد لن تكون زيارة الأمير محمد بن سلمان عابرة، فاليوم يتشكّل عالم دولي جديد على خلفية حرب تكاد تكون عالمية بين الغرب وروسيا على الأراضي الأوكرانية، وسيولة هائلة في منطقة الشرق الأوسط، وطموح لقوى جديدة تريد أن تكون قوة عالمية جديدة.

السعوديون يقدّمون إلى واشنطن ومعهم زعيم شاب استطاع وضع بصمة بلاده في الاقتصاد والسياسة الدولية، بانياً رؤية اقتصادية لافتة، ومشاريع تنموية ضخمة، وصندوق استثمارات يعد من محركات الاقتصاد الدولي، ورصيداً موثوقاً في الحفاظ على إمدادات طاقة آمنة ومستدامة، كذلك زعامة إسلامية تقليدية ودائمة، ودور سياسي عاقل ومتزن في إدارة العلاقة مع القوى المتصارعة في الشرق الأوسط والعالم. ولعلنا نتذكر هنا أهم ما أسفرت عنه قمة (عبد العزيز – روزفلت 1945):

1- تحظى العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية باهتمام كامل.

2- يتعاون البلدان في كل المجالات بما يحقّق مصالحهما.

3- التزام أمريكي حول القضية الفلسطينية، ألَّا يتأثر موقفها من الحقوق المشروعة للعرب في فلسطين.

ولكل ذلك يمكن توقع ما ستسفر عنه قمة (محمد بن سلمان – دونالد ترمب 2025)، التي يمكن تلخيصها في (علاقة مستدامة وتحالف دائم)، في ظل صراعات وسيولة أمنية تحيط بإقليم الشرق الأوسط من جنوب السودان صعوداً إلى شمال سوريا، ومن غرب ليبيا إلى شرق أفغانستان.

فالسعوديون يصلون واشنطن وهم يستندون على إرث سياسي غير ملوث بالأجندات ولا الانخراط في المؤامرات ضد الشعوب والدول، فقد وصف الملك فيصل بن عبدالعزيز سياسة بلاده: «نحن أصفى من العسل الصافي لمن أراد صداقتنا.. ونحن السُّم الزعاف لمن أراد أن يعكر صفونا».

كما وصف الأمير بندر بن سلطان علاقة بلاده مع واشنطن، وهو المسؤول الدبلوماسي الذي قضى أكثر من عقدين في واشنطن سفيراً: «إن كثيراً من الرؤساء الأمريكان يصدمون بعد وصولهم إلى البيت الأبيض بأن السعوديين صادقون في مواقفهم يقولون في العلن ما يقولونه في السر».

00:04 | 17-11-2025

هل لا تزال الشيوعية تحكم العالم العربي؟!

مخطئ من يعتقد أن الشيوعية سقطت في العالم العربي مع سقوط الاتحاد السوفيتي 1991م، نعم سقطت الستالينية، لكن الشيوعية بقيت تزدهر وتعتاش في العالم العربي، فقد وجد الكثير فيها ملاذاً يعبّرون من خلالها عن الآلام التي شعروا بها تجاه الغرب المستعمر، وكما التقوا معها في كراهية الأغنياء في جوارهم، ونقصد هنا بها دول الخليج النفطية التي صدف ظهور النفط فيها مع بداية القرن الماضي، ووجد كارهوها في الشيوعية المبادئ التي تبرر لهم حلم الاستيلاء على تلك الثروات.

ولكي نفهم طريقة تفكير بعض العالم العربي بشقيه «الشارع» و«النخب المثقفة»، علينا أن نرجع مئة سنة للوراء، عندما ظهرت الشيوعية كعقيدة بديلة إثر انفراط القومية العثمانية التي سيطرت حوالي أربعة قرون على العالم العربي وفرّغته من قيمه وتراثه، وعند سقوط إسطنبول تلقفت موسكو أجزاء واسعة منه، لقد صدّق «عرب دول الانتداب والاستعمار» أن موسكو تقف مع قضاياهم.

حتى القومية العربية عندما تبنّتها دول عربية وتنظيمات مثل البعث واللجان الشعبية، كانت في جوهرها شيوعية المبادئ، يسارية الهوى، كارهة للمكوّن العربي الأصيل داخل الجزيرة العربية.

ظهرت الشيوعية لأول مرة بشكل مبكر في لبنان وفلسطين في أوائل القرن العشرين، حيث تأسس الحزب الشيوعي اللبناني العام 1924، تأسست على ضوئها خلايا شيوعية في فلسطين في نفس الفترة تقريباً، تطورت هذه الحركة السياسية لاحقاً في دول عربية أخرى مثل العراق وسورية وغيرهما، وظهرت أحزاب شيوعية في الأربعينيات والخمسينيات وأوائل الستينيات، مثل الحزب الشيوعي العراقي العام 1934م.

كان للتنافس السوفييتي مع الغرب في أوروبا صداه الواسع في إقليمنا، واعتبر الشرق العربي حديقة خلفية لتصفية الخلافات بين عقيدتين متضادتين، الأمر الذي دفع الحركات الوطنية العربية لأن تستدعي الشيوعية بحثاً عن حاضن أيديولوجي يعوّضها ويساندها في مقاومتها للمد الغربي الذي كان رأس الحربة فيه دول الانتداب.

لقد أثّرت الشيوعية في تشكيل طريقة التفكير العربية ومخرجاتها، وبقي هذا التأثير لليوم، ففي حرب تحرير الكويت -مثالاً- انكشفت تلك العقيدة بشكل فاضح، فقد نظرت بعض الدول والشارع العربي المتأثر بالعقيدة الشيوعية إلى الكويت باعتبارها مالاً مستباحاً للعالم العربي -حتى الدول الغنية منه، وأن احتلال بلد ومحوه من الخريطة مقبول ما دام ذلك يتقاطع مع الفكر الشيوعي الذي استوطن وجدان كثير من العرب، تحت أفكار تقاسم الثروات، وبترول العرب للعرب، الذي طبّقوه فقط على حقول النفط الخليجية كما طبق الشيوعيون أفكارهم على مصانع الصلب في روسيا.

التأثير الأقدم للشيوعية في العالم العربي تركز في دعمه لتنظيمات يسارية متطرفة اعتنقت الشيوعية روحاً وتحالفت مع موسكو تنظيماً، وهيمنت الأفكار الشيوعية واليسارية على سياساتها ومواقفها، كل ذلك أثر لاحقاً وخاصة على أساليب الحكم بظهور الأنظمة الاشتراكية ذات الحزب الواحد مثل دول «سورية والعراق وليبيا والسودان واليمن الجنوبي».

كما دمجت الكثير من النخب العربية بين الأفكار اليسارية الشيوعية وبين الأيديولوجيا الإسلاموية، وشكّلوا ما عرف فيما بعد بـ«الشيوعية الإسلامية» التي قادت أجزاء من العالم العربي لعقود منذ هزيمة 1967م، ولا تزال آثار ذلك التحالف بين اليسار والشيوعية والإسلاموية المتطرفة حتى اليوم.

وبالرغم من أن الشيوعية في شكلها السياسي انتهت، إلا أن الشيوعية كسلوك وطريقة تفكير لم تختفِ، بل توارت خلف مظاهر: يسارية، وإسلاموية، وقومية، واشتراكية مختلفة، وغالباً ما استوعبت أو تكيّفت مع الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية السائدة بدلاً من أن تختفي من المشهد تماماً.

لكن الأهم في نظري هو التأثير الفكري الذي استوطن بعض العالم العربي ولا يزال حتى اليوم، فعلى سبيل المثال.. تتسامح النخب السياسية والثقافية ومعها قواعد واسعة من الجماهير العربية مع وجود قواعد عسكرية روسية في سورية مثلاً، لكنها لا تتسامح مع قواعد عسكرية بريطانية أو أمريكية، معتبرة الأولى ميزة، والأخرى مسبّة.

هذا ليس مجرد رأي عابر، بل هي قناعات راسخة استوطنت وجدان معظم العالم العربي، ومنها تنطلق مواقفهم وقراراتهم تجاه كثير من القضايا، فهم يرون السعودية -مثالاً- كما كان يراها أجدادهم قبل 70 عاماً أو 90 عاماً، ويتبنون مواقف آبائهم التي أخذوها عندما كانت موسكو تبيع الوهم في شوارع بيروت ودمشق والقدس وبغداد وعدن وطرابلس باعتبارها دولاً طليعية، وتتهم السعودية ودول الخليج الأخرى بالرجعية.

في العلاقة مع إسرائيل، تتسامح «الشيوعية الإسلاموية» مع اتفاقيات السلام العديدة، والتطبيع الواسع، وتتفهم العلاقات الاقتصادية العميقة، وتتبنى مبرراتها بل وتدافع عنها ما دامت ليست سعودية، وفي الوقت نفسه تلاحق الرياض في كل تصرفاتها الثقافية أو الاقتصادية أو السياسية، حتى ولو كان الأمر مجرد دعاية أو كذبة تطير بها الركبان.

معتنق «الشيوعية الإسلاموية» يرى نفسه أكثر قرباً من الروس، والصينيين، والفنزويليين، والقاعدة و«داعش» والألوية الحمراء، وفي الوقت نفسه يحمّل «دول الرفاه العربية» كل مشاكله وإخفاقاته منذ الاستقلال لليوم، يحلم بالغنى وتحسّن أحواله، ولكن عبر احتلال دول الخليج لو أتيحت له الفرصة، كما أتيحت لصدام حسين.

وما نراه اليوم مع كل الاضطراب الذي يضرب الإقليم العربي هو في جوهره شيوعية تتستر وراء شعارات قضايا وطنية وأممية، بينما المشاعر الحقيقية تقف في الظلام تحمل سكيناً شيوعية وأمنيات ستالينية.

00:19 | 13-11-2025

بود كاست تحت البطانية !

من لم يعمل في الإعلام التقليدي لا يستطيع أن يفهم لماذا كل هذه الطوام التي يخرجها لنا إعلام (البود كاست)، وهو مصطلح يمكن أن يطلق تجاوزاً على كل هذه البرامج التي تستخدم الكاميرا في إنتاج محتوى وتصديره للمشاهد عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي طوام حقيقية من حيث المضمون والمعلومات والضيوف.

ولعلنا نتذكر حلقة «البطانية»، التي جمعت مذيعاً مع ضيفة على كنبة واحدة، دون أن يكون لديهما الحد الأدنى من التردد أو خشية ردة فعل الجمهور، ولعل هذا يأتي من جهل بالحدود الفاصلة بين الممكن تقديمه وغير الممكن، أو لعله البحث عن «الترند» حتى ولو كان كاسراً لكل قيم المجتمع.

بود كاست آخر يستضيف أحد الأشخاص، نفى فيه أن يكون «بخور العود» أحد عناصر التراث المحلي، ملغياً - دون وعي - موقع الجزيرة العربية كطريق ثابت على مدى 5,000 سنة لتجارة البخور.

وبلا أدنى شك هو لا يعلم أن اليونسكو تعتبر أن «التراث غير المادي» – مثل استخدام البخور والعود - يصبح تراثاً مسجلاً إذا مضى على وجوده أكثر من 75 سنة، فما بالنا بتراث يستوطن الجزيرة العربية منذ أكثر من 5,000 سنة!

قبل أشهر فوجئ الجمهور بخروج حلقة بود كاست يتحدّث فيها الضيف والمقدم عن أمور الصحة الجنسية للنساء، أمور لا تناقشها المرأة حتى مع طبيبتها الخاصة إلا في ظروف خاصة وخلف الأبواب المغلقة، ومع ذلك كانوا يتحدثون عنها بكل أريحية وكأنهم يناقشون موضوعاً عن القطط.

ولا ننسى الحلقة التي تهجم فيها ضيف على النساء، متهماً إياهن بكل أنواع التهم وتعدى عليهن بطريقة مهينة.

بالطبع الأمثلة من هذا النوع كثيرة، لكن الحقيقة التي يهرب منها الكثير هي: هل فكرة استبدال الإعلام التقليدي بالبود كاست صحيحة، دون التزام بمعايير ومنهجية المهنية الصحفية الصارمة، التي بقيت للأسف داخل أبنية المؤسسات الإعلامية المختلفة، لا لشيء إلا لأن أحداً ما قال عبر هذا العالم لقد انتهت الصحافة بشكلها التقليدي وبدا دور الإعلام الجديد، فصدقناه وتبنينا أفكاره دون أن نطالبه بشرح فكرته وما حدودها الأخلاقية والمهنية.

نحن نعيش اليوم في حالة فوضى «بود كاستية» لا يمكن تصورها؛ لان مهمة الإعلام انتقلت من المؤسسات إلى أفراد لا تراكمَ مهنياً لديهم ولا قيم وظيفية يرجعون لها.

ودعونا نقرّب المقال قليلاً: لنتخيل أن مهمة العلاج وإجراء الجراحات الطبية انتقلت من المؤسسات العلاجية إلى الأفراد العاديين، وأن مهمة الطيران بالطائرات يقوم بها كل من يستطيع فتح باب الطائرة، هل ستقبل عزيزي القارئ أن يجري لك عملية في القلب جرّاح لأول مرة يمسك المشرط؟ وهل ستقبل أن تسافر مع شخص كل تجربته مع الطيران أنه سافر ذات يوم؟

لقد استسلمنا لفكرة الإعلام الجديد، دون أن نتذكر رحلة المادة الصحفية في أي مؤسسة إعلامية تقليدية، التي تبدأ من صحفي ميداني لا يجرؤ على تقديم خبره قبل أن يتدرب لأشهر طويلة ثم تذهب مادته لمحرر الصياغة الذي يتأكد من سلامة المادة من حيث الأسلوب اللغوي، ومن مصداقية الخبر أو ما يتضمنه المحتوى، ثم تذهب إلى مستوى أعلى للإجازة، وهذا المستوى يوجد به على الأقل ثلاثة من الصحفيين الكبار ذوي الخبرات الطويلة، ثم رئيس التحرير ثم النشر، هذه الرحلة تستغرق بضع ساعات لكنها تشرح الكثير من المعلومات وتحد من الأخطاء والشائعات وتبعد الرأي الشخصي من المادة.

قيم مهنية غير موجودة اليوم في معظم الإنتاج الإعلامي، في سوق أقرب ما يكون إلى فوضى غير خلاقة، نعم تقوم الأجهزة الرقابية بملاحقتها مشكورة وعلى رأسها هيئة تنظيم الإعلام، لكنها ستبقى في دور الملاحقة فقط، ما لم تترسخ قيم المهنية داخل الإعلام الجديد، ونخرج من فردية الإعلام إلى المؤسساتية، ويمنع الأفراد من العمل في الإعلام دون خبرة أو معرفة أو مظلة إعلامية.

00:04 | 30-10-2025

الحضور الأمريكي في المنطقة من حرب 48.. إلى شرم الشيخ!

منذ وصول الأمريكان إلى المنطقة بشكل رسمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهم اللاعب الرئيسي القادر على تنظيم العلاقة بين الأطراف، بل وإيقاف الحروب، وبناء محطات السلام، سواء كانت محطات هشة أو مستقرة، وبالرغم من كل الدعايات التي يستخدمها بعض ممارسي السياسة في المنطقة، إلا أنهم يتمنون العلاقة معها، وكل ما ترونه مجرد استعراضات للاستهلاك المحلي وصرف النظر عن المشكلات الداخلية.

أتذكر هنا نقلاً عن دبلوماسي سعودي قوله إن الرئيس السابق حافظ الأسد قال يوماً للسعوديين: «إياكم أن تسمعوا أو تستجيبوا لما نقوله في الإذاعات عن علاقاتكم مع الأمريكان، كلها للدعاية الداخلية، بل أتمنى أن تقووا منها، حتى يمكن لكم لو احتجناكم أن تتوسطوا لنا». وهو ما حصل معه ومع غيره، فعندما تضيق الحلقات يبقى المفتاح عن السعوديين.

هذا لا يعني أن الأمريكان يريدون بناء منطقة فاضلة في الشرق الأوسط، بل لأن مصالحهم بالأساس تتطلب وجودهم، وتتطلب حمايتها. وكل من يقول إنه يكره أمريكا أو يعيب على الدول المعتدلة بسبب علاقاتها الجيدة معها، هم في الغرف المغلقة يتملقونها ويحتضنونها ويقدّمون لها من التنازلات ما لا تقدّمه الدول المحسوبة على علاقات وثيقة مع واشنطن.

بدأت أولى ملامح النفوذ الأمريكي تظهر بقوة في الشرق الأوسط مع نهاية حرب عام 1948م، بين العرب وإسرائيل، وهي الحرب التي هزمت فيها جيوش مصر والأردن والعراق وسورية، ونتج عنها سيطرة الإسرائيليين على نحو 60% من الأراضي التي كانت مقدمة للفلسطينيين قبل الحرب ورفضوها.

وفي العام 1949 م، ومع الهزيمة المريرة اضطرت الدول المهزومة والمحيطة بإسرائيل لعقد هدنة مع إسرائيل وضعت الخطوط الأساسية لإنهاء القتال بين كل من العراق والأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ضمن ما عرف باسم الخط الأخضر.

الدبلوماسية الأمريكية كانت حاضرة في هذه الهدنة وما تلاها، إذ دفع الأمريكيون عام 1950م نحو عقد اتفاق ثلاثي ضم كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، تعهدت فيه القوى الثلاث بالحفاظ على الحدود التي أفرزتها اتفاقيات الهدنة الموقعة بيت دول الطوق العربية وإسرائيل عام 1949م، كما التزمت بعدم تصدير الأسلحة إلى الدول المتصارعة خشية اندلاع الحرب من جديد.

لكن تأميم قناة السويس الذي اتخذه الرئيس جمال عبدالناصر في 26 يوليو 1956م، وتم بموجبه نقل ملكية شركة قناة السويس إلى الدولة المصرية، أدّى إلى اندلاع العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. حينها تدخلت واشنطن لإجبار القوى الثلاث المنتصرة على مصر؛ على الانسحاب وإيقاف الحرب، بل لأن الولايات المتحدة الأمريكية القادمة لتسود العالم كانت تريد القضاء على فلول النظام الدولي السابق (فرنسا وبريطانيا)، وطموحها في العودة من نافذة قناة السويس.

لم تكتّفِ الولايات المتحدة الأمريكية بذلك، بل استصدرت قراراً بالفصل بين مصر وإسرائيل عبر قوات الطوارئ الدولية، لكن إخراجها قبل أسابيع من يونيو 1967م، أدّى إلى الحرب والهزيمة المدوية واحتلال إسرائيل لثلاث دول عربية.

وفي أعقاب الحرب بدأت الدول العربية الفاعلة في الضغط على واشنطن لهندسة مخرج يؤدي إلى انتصار معنوي للعرب، والوصول لصيغة سلام. وفي العام 1978م، وقّعت مصر وإسرائيل في منتجع كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الاتفاقيات مهدت الطريق لمعاهدة سلام دائمة بين مصر وإسرائيل، بدأت فعليا في العام 1979م.

بعدها بسنتين انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع المملكة العربية السعودية (الدولة الفاعلة في الشرق الأوسط) للتوسط بين فرقاء الحرب الاهلية في لبنان، ثم إنهاء الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي طال حتى العام 1988-19889م.

وظّفت الرياض ثقلها الدبلوماسي وعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن للحصول على اعتراف رسمي من أمريكا بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني، الذي جاء إثر جهود طويلة أثمرت في العام 1988م، عن ذلك الاعتراف التاريخي.

كما وافقت الولايات المتحدة على بدء حوار مباشر مع المنظمة التي كانت تصنف بالإرهابية، كان ذلك نصراً دبلوماسياً كبيراً على طريق مشروع الدولتين وتحول القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى شعب يبحث عن إنشاء دولته المستقلة.

وما كاد العام 1990 يبدأ حتى احتل العراق الكويت، لتقوم الرياض بالشراكة مع واشنطن بتشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت، تلا ذلك مؤتمر مدريد للسلام 1991م، برعاية أمريكية، ثم اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي أثمرت عن سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع، ومع انهيار الاتفاق بسبب تصرفات الفصائل المسلحة في غزة وردود الفعل الإسرائيلية، بقيت واشنطن والسعودية حاضرتين في المشهد الفلسطيني من خلال مباحثات كامب ديفيد الثانية بين أيهود باراك وكلنتون وعرفات العام 2000م، وبالطبع كان السعوديون حاضرين لحلحلة المصاعب والدفع نحو إنشاء دولة فلسطينية لم يكتب لها النجاح؛ بسبب تفضيل عرفات عقد اتفاق مع أرييل شارون بدلاً من باراك المنتهية ولايته.

اليوم ومع اتفاق شرم الشيخ الأخير بين إسرائيل وحماس لإنهاء القتال وعودة المحتجزين الإسرائيليين، تبقى واشنطن هي الأكثر تأثيراً في المشهد بشكله العام الممتد من تطوان غرباً إلى كابل شرقاً، وبالرغم من كل الشتائم والتعريض بها وبالدول المعتدلة في المنطقة إلا أن أعداء واشنطن في الإعلام يبحثون عن رضاها في الغرف المغلقة.

00:04 | 23-10-2025

من أيهود باراك وعرفات.. إلى نتنياهو والحيّة!

المباحثات المنعقدة بين إسرائيل وحماس في شرم الشيخ اليوم 2025م، تشبه لحدٍّ كبير، مباحثات السلام التي عقدت عام 2000م في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية. 25 عاماً تلخّص بدقة قصة الصراع المرير بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، التحديات نفسها، العقليات نفسها، وربما تؤول إلى النتائج نفسها.

كما أنها تشرح أيضاً كيف انتقل «السلاح»، الذي ظنت الفصائل يوماً ما أنه سيحميها، إلى «القلم» الذي ظنت -أيضاً- أنه سيحقق حلمها بدولة، وموقّعة به اتفاقات سرعان ما تنهار، معيدة الجميع حجراً وبشراً إلى الخوض في الدماء والآلام، فلا السلاح فاد، ولا القلم جاء بنتيجة، فهل هي العقلية التي تديرهما؟ ربما تكون الإجابة عن السؤال هي المفتاح السحري الذي يبحث عنه الجميع.

إنها حكاية انتقال السلاح والقلم من كتف وأيدي «فتح» وشقيقاتها التنظيمات الليبرالية، إلى «حماس» وشقيقاتها الإسلاموية، لكن إسرائيل ستبقى هي إسرائيل لم ولن تتغير، من أيهود باراك إلى شارون مروراً بأولمرت وانتهاءً بنتن ياهو، بل قبل ذلك من غولدا مائير وبقية القادة الإسرائيليين.

كانت المفاوضات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عام 2000م، في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية، بحضور كلينتون وبندر بن سلطان، صعبة وقاسية بسبب فقدان الثقة بين طرفين بينهما بحار من الدماء، لقد تعرّضت محاولة ترميم السلام إلى فشل متتالٍ انهار في نهاية المطاف بشكل دموي إثر عمليات قتالية متعددة بين الطرفين، خاصة تفجير الحافلات والمقاهي في الداخل الإسرائيلي، التي قامت بها تنظيمات فلسطينية، والرد الإسرائيلي مفرط القوة عليها، وهو ما أدّى إلى انهيار اتفاقات أوسلو 1993م، التي عقدت بين الطرفين.

جاءت مباحثات كام ديفيد جزءاً من سلسلة جولات عديدة رعاها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، والأمير بندر بن سلطان ممثل المملكة العربية السعودية، وهدفت للتوصل إلى اتفاق شامل بين الطرفين يعطي الفلسطينيين دولة ذات سيادة بمطار وحدود معترف بها، وهي الجهود نفسها التي تبذلها المملكة حالياً بالشراكة مع دولة فرنسا بدعم من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

جولة مفاوضات «باراك - عرفات» انتهت دون التوصل إلى اتفاق، بسبب تدخل أطراف شرق أوسطية أقنعت ياسر عرفات بتأجيل الاتفاق مع أيهود باراك المنتهية ولايته، والتفاوض بدلاً من ذلك مع رئيس الوزراء المنتخب أيرييل شارون، لكن شارون جاء بأجندة مختلفة خدع بها عرفات وقوّض المشروع منهياً أهم فرصة في التاريخ الفلسطيني، وحاصر عرفات في مقر إقامته برام الله، إلى أن قضى نحبه في نهاية الأمر.

يا لها من 25 عاماً، تغيّرت فيها الوقائع ومراكز القوى على الأرض، وتقوّضت فيها السلطة الفلسطينية المدنية لصالح الفصائل العابرة ذات الأجندات المتنوعة والمختلفة؛ ولذلك فإن توقع نجاح مباحثات «شرم الشيخ» محدود ومشروط، فإسرائيل غالباً ما تطمح إلى تهدئة محدودة أو تسويات أمنية مع ضمانات صارمة، وليس حلاً شاملاً لمسألة غزة أو الاعتراف الكامل بحماس، التي تسعى إلى رفع مكانتها الدولية، وتحقيق مكاسب سياسية لعلها تزيح السلطة وتصبح هي الممثل الوحيد للقضية العالقة منذ أكثر من مئة عام.

كما أن العودة لجولات المفاوضات المباشرة الماضية بين حماس وإسرائيل، تظهر غالباً أنها تنتهي بتهدئة مؤقتة أو اتفاقيات قصيرة الأمد (مثل تهدئة 2014 أو 2021)، وليس حلولاً دائمة؛ ولذلك فإن المتوقع الأكثر واقعية هو اتفاق مؤقت أو تهدئة قصيرة الأمد، وليس اتفاقاً دائماً لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكأن كامب ديفيد 2000م، تتكرر مرة أخرى.
00:12 | 9-10-2025

السعودية وباكستان.. حسابات الردع ومنطق القوة!

بلا شك أن الاتفاق العسكري السعودي الباكستاني سيعيد ترتيب منطق «القوة والردع» في منطقة الشرق الأوسط التي استبيحت لعقود بسبب سوء تقدير القوى، أو تهورها، أو غرورها العسكري، التي ظنت أنها الأقدر على فرض أمنيات الهيمنة قبل منطق العقل والسياسة.

كما أنه سيبني توازناً للقوى فقدته المنطقة منذ ثلاث سنوات، إثر عملية السابع من أكتوبر، وهي اللحظة التي أحالت الإقليم إلى فوضى عارمة لم يتمكّن أحد من السيطرة عليها أو الحد من حرائقها حتى اليوم.

ولعل استعراض بسيط لبعض ما يدور في الإقليم سيعطينا لمحة عن تفكير غير منطقي يتم تداوله وترويجه بكثافة في محاولة لفرض هيمنة أو ابتزاز أمني، بسبب الاضطراب والفوضى، وهي في حقيقتها إما تدوير لأسلحة شرقية قديمة، أو استجلاب لإرث حضارة بائدة لم يعد لأدواتها أي تأثير في عصر الاقتصاد المتنوع والتكنولوجيا الدقيقة والذكاء الاصطناعي والحرفية العسكرية.

لقد كان من المنطقي جدّاً أن تنشئ المملكة العربية السعودية تحالفاً عسكرياً مع باكستان، فلطالما قدّمت المملكة نفسها حاضنةً للعالم الإسلامي، منذ أول قمة إسلامية عقدت في مكة دعا إليها الملك عبدالعزيز عام 1926م، مروراً بجولات الملك فيصل في العواصم الإسلامية دعماً لقضية فلسطين وتبنيه خطاباً إسلامياً متوازناً استمر مع كل الملوك السعوديين من بعده.

مع الإشارة إلى لحظة مهمة جداً تنبأت بانهيار منظومة الأمن الدولية، وضرورة الالتفات إلى تحالف عسكري إسلامي، عندما أنشأت الرياض تحالفاً إسلامياً عسكرياً عام 2015م، أعلنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز؛ بهدف توحيد جهود الدول الإسلامية في مواجهة الإرهاب، وتجيء السعودية وباكستان في قلب ذلك التحالف.

لقد كانت إشارة واضحة على أن الخيار الإسلامي بما فيه «الحضاري والثقافي والأمني والعسكري» لم يتراجع، بل هو الفضاء الأوسع، الذي تنتمي إليه المملكة العربية السعودية، فهي حامية الحرمين الشريفين، وهي حاضنة الإرث العربي والإسلامي، وكذلك الداعم الأول لكل قضايا العالم الإسلامي، وتحتضن على أراضيها أبرز المنظمات الإسلامية (البنك الإسلامي للتنمية، رابطة العالم الإسلامي، منظمة التعاون الإسلامي.. إلخ).

الرياض تعي جدّاً المخاطر الكبيرة التي تحاك للمنطقة وللسعودية نفسها، فأطماع الدول العظمى واضحة جداً، ومحاولات الفاشلين اقتصادياً متفشية، وأصحاب النزعات الحضارية البائدة تحيط بالإقليم من كل جانب، كما أن التنظيمات العابرة التي تعمل كمقاول من الباطن لدول معادية، تستهدف المملكة كما كانت تستهدفها منذ عقود، بدءاً من تفجيرات الستينات الميلادية، مروراً بتفجيرات القاعدة وداعش خلال عقدي التسعينات والألفية، فضلاً عن محاولات اعتداء قامت بها دول محيطة بالمملكة.

لقد جاء الإعلان السعودي الباكستاني عن إقامة تحالف عسكري في وقت حسّاس وسيولة عالية تشهدها المنطقة، ودون أن يكون هناك منطق للحرب والسلام، فخلال السنوات الثلاث الماضية رأينا كيف أن الاستقرار انهار بسبب عملية واحدة، لتتحوّل المنطقة كلها إلى ساحة حرب كبرى، ويتوقع أن تستمر هذه الفوضى العسكرية والأمنية لسنوات قادمة.

يدفع العالم اليوم ثمن أخطاء بعض التنظيمات والحركات، والاعتماد عليها في تشكيل ملامح القوة والابتزاز، لكن منطق السياسة يقول: إن تلك التنظيمات دائماً ما تتفلت من بين يدي مشغليها ولا يستطيعون ضبط إيقاعها كما هو مطلوب منهم، وبالتالي تعود بالكوارث والأزمات على مشغليها وهم من يدفعون ثمناً غالياً.

منطق الردع الذي نشأ غداة التوقيع على اتفاقية التحالف العسكري السعودي الباكستاني، يقول إن باكستان أضحت اليوم جزءاً من الإقليم العربي ودولة شرق أوسطية، بعدما كانت تنتمي فقط لدول «غرب آسيا»، كما أن الرياض أصبحت تطل على المحيط الهندي بأفق واسع، وهذا يغيّر كثيراً في معادلات الاقتصاد والتنمية، وكذلك الحرب والسلام في المنطقة، إذ يدفع بجيشين قويين إلى الواجهة لتشكيل قوة ردع هي في الحقيقة أهم من شن الحروب، وهي من تدفع الأعداء والخصوم للتفكير كثيراً قبل الإقدام على أي خطوة متهورة وما ينتح عنها من عواقب.
00:05 | 22-09-2025

سيولة الإقليم أخطر مما نتخيل!

بلا شك أن هذه النيران المشتعلة في المنطقة، التي تنتقل من بلدٍ إلى آخر ستنتهي يوماً، فمصير كل الحروب والأزمات إلى الانتهاء، لكن من الأفضل أن تنتهي بشكل سلمي قبل أن نجد أنفسنا في «فوضى غير خلّاقة» كما كانت أمريكا تدعو إليها ذات يوم، ومن الضروري أن يقتنع الجميع بضرورة التفاهم على قواعد اشتباك جديدة، يتم فيها تجنّب التعامل مع المليشيات والتنظيمات والاكتفاء بالدول المركزية القادرة على الوقوف عند الخطوط الحمراء، كما يجب عدم تعريض المدنيين لأي مخاطر، وتحريم انتهاك سيادة الدول، مهما كانت المبررات.

ولكن حتى نصل جميعاً إلى منطقة السلام تلك، فإن أمام الإقليم العديد من المصاعب والتحديات الخطيرة، من أهمها التخلّص من مجاملة المنظمات على حساب الدول والشعوب، واقتناع الدول العظمى ودول الإقليم بأن لا مكان لأي تنظيم مهما كانت المبررات والاختلافات، إضافة إلى التخلّص من ترسّبات الماضي وقناعته، بأن أي مجموعة أو تنظيمات قادرة على تغيير معادلات دولية بمجرد القيام بعملية هنا أو هناك.

المنطقة وصلت اليوم إلى مرحلة انسداد تام، وربما تنزلق إلى فوضى حقيقية لا تشبه أي فوضى سابقة، وسيصحبها بلا شك الكثير من الدماء والانفلات الأمني وانهيار بعض الدول، عندها سيصعب لملمتها أو معالجتها، هذه ليست من تهويلات إذاعات الوطن العربي خلال الستينات والسبعينات أو التنظيمات الما ورائية، بل نحن بالفعل على شفا انفجار ضخم إذا لم يتوقف إشعال الفتائل، والاختباء خلف مشاريع ضيقة، أو ممارسة المماحكات الصغيرة التي تقدّمت على المصالح العظمى.

بين العام 1980 و1990 مرّت المنطقة العربية بحالة من السيولة الشديدة تشبه إلى حدٍّ كبير ما نشهده اليوم، كانت هناك الكثير من التنظيمات متعددة الأيديولوجيات ذات أغراض ومشغلين مختلفين تعمل على الأرض وتقوم بأعمال مختلفة منها اختطاف الطائرات أو القيام بعمليات اغتيال مركّبة ومعقّدة، لعل من أبرزها محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، التي تسبّبت في الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كما تم تنفيذ العديد من العمليات الانتحارية، مثل ما قام به حزب الله من تفجير للسفارتين الأمريكية والفرنسية في بيروت، أما الحروب فقد شهدت المنطقة حرباً كبرى بين العراق وإيران، واشتباكات عديدة بين السوريين والإسرائيليين والفلسطينيين والإسرائيليين أيضاً.

إضافة إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، الذي تسبّب في انفراط أمنى أدّى إلى مذابح في مناطق ذات أغلبية فلسطينية أو سنيّة في لبنان. كما تصاعدت التوترات ليشهد العالم لأول مرة حرب ناقلات النفط في الخليج العربي، وانخفاض أسعار البترول لما دون خمسة دولارات، أدّى ذلك إلى اقتصاد عالمي متدهور، صاحبته حرب روسية أمريكية بالنيابة في أفغانستان، كما نفّذت إسرائيل وجبة من الاغتيالات لقيادات فلسطينية في تونس. فضلاً عن توتر حول الصحراء الغربية بين المغرب وجيرانها، وحرب بين ليبيا وتشاد.

لقد كُنّا في تلك الفترة من التنازع العربي العربي، والعربي الإقليمي، على شفا انهيار كامل من المغرب إلى الخليج، ولم تستيقظ المنطقة إلا عند احتلال العراق للكويت، ليصحو الجميع وبلد عربي كامل ابتلع، فهل تنتظر المنطقة سيناريو مشابهاً؟!
00:08 | 11-09-2025

المصالح قبل الشعارات.. الدرس السوري الجديد..!

تفاجئ سوريا العالم كل يوم بسرعة تحركها السياسي وانفتاحها على مصالحها العظمى فقط، سوريا فهمت عزلتها وغرقها في وحل قضايا المنطقة بسبب النظام السابق وخياراته الغريبة.

فالنظام السابق وعلى مدى خمسة عقود ادعى دعم القضية الفلسطينية، وجعلها قضيته المركزية، وزايد عليها، بينما لم تكن سوى شماعة يضع عليها رداءه المبتل آخر الليل.

كان لا يؤمن بوجود فلسطين بالأساس، ومدعياً دعم العرب، وهو يتحالف إستراتيجياً مع كل الشعوبيين حول الإقليم العربي، كان يدّعي محاربة إسرائيل، لكنه فعل كل شيء إلا العداء لها، نعم قام ببعض الاشتباكات الصورية لبناء تكتيكات مصلحية مؤقتة، بل الكثير من المراقبين شككوا دائماً في الحروب التي خاضها النظام ضد تل أبيب، وهي وإن حصلت لكنها لا تتعدّى الحصول على مكاسب عند القوى العظمى، وترسيخ وجود النظام داخل المجتمعات العربية داخل سوريا وخارجها، خوفاً من لفظه ذات يوم، وهو ما حصل لاحقاً.

اللقاءات التي يتحدث عنها الإعلام- مؤخراً- بين وفود سورية وإسرائيلية، ليست الأولى، فقد شارك النظام السابق في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، كما انضم وفده المفاوض إلى الاجتماعات الثنائية المباشرة -بعد انتهاء المؤتمر العام- مع إسرائيل إضافة إلى الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، وكذلك لبنان.

تلك لم تكن مداولات السلام الأولى بين العرب وإسرائيل، فقد سبقت مصر الجميع (1978) بعقد اتفاقية كامب ديفيد التي أسفرت عن مشروع سلام منفرد مع إسرائيل بعد خمس سنوات من حرب أكتوبر 73 التي شاركت فيها سوريا في محاولة منها لاسترداد الجولان.

مشكلة اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، أن معظم من وقع يزايد على من لم يوقع، وهم لا يريدون أن ينضم غيرهم إلى أي اتفاقات سلام، ويدعون أن تجربتهم فاشلة في السلام مع إسرائيل، لكن أيّاً منهم لم يُلغِ تلك الاتفاقيات، دافعين الآخرين لرفض السلام ويطالبون الجميع بدفع الفواتير بدلاً عنهم.

السوريون اليوم يرون أن بعض مكوّناتهم العرقية والدينية تكاد تتفلت من بين يدي الدولة المركزية، وربما تنسلخ منها تماماً باتجاه علاقة مع إسرائيل.

لكن أحداً من المزايدين العرب لا ينصح الدروز على اندفاعهم، بل يهاجمون الدولة السورية ويتهمونها بكل شيء، مع أن العلاقة التفاوضية بين دمشق وتل أبيب، علاقة ند لند، وليست علاقة أفراد من طائفة تبدّل ملفاتها وهوياتها وحتى انتماءها العربي عمالة لإسرائيل.

نحن أمام حالة من اختيار المصالح العظمى يؤسسها السوريون، وكأنهم يقولون لكل المزايدين وحتى المراقبين: «سوريا أولاً، ومصالحها الوطنية اليوم أهم من الجميع»، وهو مبدأ تأسس منذ عقود لكن أحداً لم يجرؤ على الإفصاح عنه.

سوريا اليوم تكاد تلغي بتصرفاتها السياسية الواقعية هامش المزايدة الذي كان منتشراً بكثافة في العالم العربي منذ ولادة القضية الفلسطينية 1948، حتى السابع من أكتوبر الذي يعد مفصلاً تاريخياً له ما قبله، وله أيضا ما بعده.

مزايدة استعان بها الكثير في خصوماتهم ضد دول تعاملت بواقعية مع قضية الشعب الفلسطيني، ولأجلها ارتفعت بندقية لا تطلق الرصاص إلا على أبنائها أو الدول العربية الأخرى، واحتلت تحت اسمها الكويت، ولبنان، ووُجّه إعلام الشتائم إلى الدول العربية وشعوبها تحت مُسمّى نصرة فلسطين، حتى الدول التي بذلت كل جهودها السياسية وأموالها لدعم القضية الفلسطينية، لم تسلم من المزايدات والاتهامات، وعند أول منعطف حقيقي انقلبت عليها دول الطوق ودول الضد الماهرة جداً في المزايدات.

دمشق في موقف إستراتيجي صلب، فلبنان الذي كان خاصرة رخوة لطالما خشي منها النظام السابق لم يعد موجوداً كدولة مهددة، والقوى الفلسطينية التي شاركت في قتل السوريين- خلال الثورة- هي من قوّض القضية باندفاع السابع من أكتوبر، ولعل الجميع يتذكر أن الفلسطينيين كانوا ثاني من وقّع مع إسرائيل في اتفاقيات أوسلو، وتتالت بعض الدول العربية في طريق العلاقة مع الإسرائيليين؛ ولذلك ترى دمشق أنها ليست استثناءً من طريق السلام الذي بدأ العام 1978 ولم يتخلَّ عنه أحد ممن سلكه حتى الآن.
00:01 | 1-09-2025