أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/okaz/uploads/authors/239.jpg?v=1763407290&w=220&q=100&f=webp

علي بن محمد الرباعي

البشريّة بين العدالة والإنسانية..

كانت المجتمعات البشريّة، بحكم رهبة السُّلْطَة، تعزو الخير والشر إلى من يحكمها، إذ ارتبطت شخصية الدولة، بشخصيّة الحاكم، وشخصية الحاكم، مرتبطة بغيبيات أو إلهيات؛ وبما أنّ عناصر المجتمع تتمثّل في الجغرافيا، والناس، والسُّلطة أو النظام؛ فإن الجغرافيا والبشر، وُجدوا منذ آلاف السنوات، ولم يكتسبوا أهميتهم، وهويتهم إلا إثر قيام الكيان (الدولة) حسب المصطلح الحديث، وبها انفك تدريجياً المعنى اللاهوتي أو السماوي عن الحاكم، ولم يعد هو (ظِلُّ الله في أرضه) بل ظلّ نفسه؛ فالدولة قرار بشري، وليست صُنعاً ربانياً، ومنذ خمسة قرون تقريباً؛ ظهرت إرهاصات تطوّر الدولة، ونما بتطلعات الشعوب مفهوم دولة المؤسسات، وغدا على ما هو عليه الآن، ما يؤكد أن الذهنيّة الآدمية مُلْهِمة، كونها تراكم الخبرات؛ وتستشرف التحديث والتطوير، ويمكن أن نلمس تطوّر آليات إدارة المجتمعات؛ باستعادة ما كانت عليه آلية الحكم، لإنسان ما قبل التاريخ.

ولا يمكن إنكار فضل البشر، بكل مآثرهم وموروثهم، في تطوير مفهوم الدولة، وطريقة الحُكم، إذ تنعكس تجارب الورى على طبيعة ونوع ومنهج الحكومات، والحكومات تطوّر شعوبها وتستوعب أشواقهم وتطلعاتهم؛ وقلّ ما يُمكن إغفال أدوار الدِّين، والفكر، واللغة، والآداب، والفنون (خصوصاً المسرح) في صياغة مفاهيم وأفكار سياسية، بحكم أن الإبداع يقوم على خيال ناقد ومُتطلّع، ومنه يتولّد الواقع، بما في ذلك الواقع السياسي.

وتكاد تُجمِع الرؤى على أنّ العدالة منطلق وغاية الحكم، بشقيه الرباني والبشري، كما جاءت بذلك النصوص المُقدّسة، ولم يتفق الشرعي والوضعي على شيء، أكثر من اتفاقهم على أهمية العدل، الذي كان في الإسلام روح الدِّين، وبنماذج من العدالة، دخل الناس في دين الله أفواجاً، علماً بأن الإنسانية والنبالة والعفو من مستلزمات الحياة الكريمة، إلا أنها لا ترقى لمكانة ومرتبة العدالة.

وعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها)، فلا شك أن هذه عدالة بل مثالية في العدالة، وعندما يقف عليه السلام؛ لجنازة يهودي؛ فيقولون، جنازة يهودي يا رسول الله؛ فيردّ عليهم؛ أليستْ نفساً؟ وعندما يصف رجلاً جلفاً بأنّ الله نزع الرحمة من قلبه؛ لأنه اعترف له بأن له عشرات الأولاد، ولم يقبّل منهم أحداً؛ وعندما يقول يوم الفتح؛ اذهبوا فأنتم الطلقاء؛ فهذه صور إنسانية لا تُخلّ بالعدالة لأنّ العدل في أصله؛

إنصاف جماله العفو لا الانتقام.

يستطيع صاحب سلطة أن يلُزم الناس بالعدل، ويتعذّر عليه إلزامهم بالإنسانية، ويمكن القول بأن العدل مُطلق؛ والإنسانية نسبيّة؛ ولا خلاف على أن العدل قيمة أخلاقية عُليا، متفق عليها بين الشرائع والأديان والمذاهب والنُظم والشعوب والمجتمعات لا تستغني عن العدالة، باعتبارها إحقاق الحق لكل مستحق، والتصدي للظلم، والتجاوز، وتمكين ذوي المطالبات المشروعة من حقوقهم، فالبشر دون عدل في خوف، ويعيشون حياة الغاب، والعدلُ ضرورة، والإنسانية حاجة.

من طبيعة الإنسانية؛ أنها تُعلي الجانب العاطفي، والإنسان دون عاطفة، يتوحّش، لكنّ اليوميات البشريّة، لو تعامل معها ذوي سلطة بعاطفته لن يُرضي أحداً، فالكل يرى أنه لم ينله نصيبه الأوفر من العاطفة؛ بينما يمكن أن يُرضي العدل على الأقلّ نصف المجتمع كما قال ابن الوردي؛ (إن نصف الناس أعداءٌ لمن، وَلِيَ الأحكامَ هذا إن عدل).

والحاكم العادل لا يُلام على عدله، ويمكن أن يكون عُرضةً للملامة بسبب إنسانيته، إذ ربما يتجاوز بالعاطفة، العدل إفراطاً أو تفريطاً، بأن يحلّ في حال محبته؛ وكاء الظرف، ويغضّ الطرف، وفي المثل الشعبي (يا من حبّه غطى عيبه) بينما عند فوران غضبه، ربما لا يرعوي ولا يرعى لإنسان إلّا ولا ذمّة، والوقائع والأحداث؛ يؤكدان أنّ الحاكم الذي يحكم بالعدل، يعلي شأن العقل والمنطق والمصلحة؛ بينما يشي تغليب الإنسانية، بشيء من رغبة كامنة أو هوى نفس (ولهوى النفوس سريرةٌ لا تُعلِم).

ولا شك في أنّه عبر التاريخ الطويل نسبيّاً للمسلمين، وقع الخلط بين العدالة والبشريّة؛ والخلط سببه اشتباك النظري بالتطبيقي، وهذا التعالق بين المُقدّس وبين الفهم البشري له أو استيعابه، ظاهر في تاريخ المسلمين، حتى غدا إسلام التاريخ، وكأنه إسلام نَصّ؛ ولعلّ العقل الجمعي تأثر بالتاريخ الاجتماعي (الناسوت)، أكثر من تأثره بالنصوص الدينية (اللاهوت).

تلويحة؛ يُمكن للعدالة أن تخدش حقوق الإنسان (ظاهراً) إلا أنها في العُمق؛ تحقّق الأمن وتعزّز أسمى معاني الطمأنينة والاستقرار، ومن قارن بين العدالة والإنسانية، يرى أنهما يتحدان في النوع، ويتفاوتان في الدرجة.

منذ 7 ساعات

حظّه يكسّر الحصى

مرّت الخطّاطة (قُذلة) بالقرية المنهمك أهلها في دياس الصيف، واستقر بها المقام في بيت الأرملة (شويلة) التي هلّت وسهّلت بها طمعاً في بشارات مستقبليّة، كونها في شهر حملها التاسع، دلّت تجمع لها من جماعة قريتها شُكادة، دحوة وإلا دحوتين من البُرّ اللي يشوق العين، لتفرّح الخطاطة، وتعود بما قُسم لها لزوجها وعيالها في البادية، والتزم لها العريفة بفَرَق وبيشده مع بقية الشكايد فوق الجمل، ويوصلها ولده إلى بيتها، دعت له شويلة، وطلبت ربي يجود عليه، ردّ عليها، أحسب جودي من ماجودي، واثر جودي من جود الله، وحلف عليها في فنجال قهوة، ونشدها، بشّريني عاونوك العيال بالدياس، قالت، بيّض الله وجهك، لو ما همب المطاليق، يكون أعشب العيش في المسطح، ثم قال، وش شافت الخطاطة يوم خطّتْ لك؟ ردّت، ما قالت إلا ، بيجي لي ولد حظه يكسّر الحصى، علّق، يا الله في الحيا، وأضاف، ها لا تقعديني تسحبين حواكك من بيت في بيت وبطنك قِرتك، تحاشي على عمرك، وعلى اللي حظّه يكسر الحصى، وإن جا كما قالت ( قذلة) فإن شاء الله لأعطيه وحدة من بنات ولدي (مبخوت).

وفي ليلة بدريّة، والسكون يعمّ الدار ومن فيها، داهم المخاض، العِرْبيّة، وما عندها لا رفيق ولا معين إلا الله: فشبّت حطبها، وأسندت ظهرها إلى زاوية قريبة من الملّة، ويمّمت وجهها للقبلة، وعضّت على شرشفها بأسنانها كي يخفت زحيرها، خشية سماع جيرانها استغاثاتها، وسبحان من قاله، جاء الولد كنه شقفة القمر، وما شقشق نور الصباح، إلا ومولودها يرضع اللبا، ولأن حدس الجارات ما يخيب، أقبلن عليها، اللي بقشرها، واللي بحُلبتها، واللي بطاسة فتّة، وكنّ عويناتها وسندها، خصوصاً أنهن شعرن بالتقصير عندما غبن عنها ساعة الولادة.

سمّته على خاله (جودان) وطلبت من إحدى جاراتها، ترسل ولدها ليبلّغ أهلها، بأن الكبار والطهار رأس الدور، وعنّزت على زوجة الفقيه، تأخذ الثور عندها، إلى يوم الخميس، وتوصّي على الفقيه، يحدّ الشّفار، وينبّ النشامى يجمعون القدور والصحون، وطلبت من زوجة الشاعر، تبلّغ زوجها يولّف قصايد، وكسوته عُكة سمن عامي، وانعقد المرسام، وتوافد الأخوال بالكساوي، اللي قدّم جنبيّته، واللي أهدى بندقته، وقامت الحفلة اللي أبد لها وخيّل، ومدح الشاعر السمي والمسمّى، وكّل ما عبى قصيدة يلمح في الخال (جودان) الذي قرب منه ودسّ في جيبه ورقة حمراء، فصار يقصّد ويدبك بقدميه على أرض الغابرة، التي احتكم فيها معراض لا قبله ولا بعده.

صحّت النبوءة، وكان حظّ (جودان) فوق رأسه، انتقل مع أمه عند أخواله، وتعلّم المراجل، والمراجل ما هي لـ( اللاش واللي ماش، وما تجي بلاش) وراعي المرجلة يدوّر الحاسد عليه زلّة، وغدا (جودان) من كبار تجار القبيلة، وفي يوم شؤوم التقى بمؤذن قرية أبوه، في سوق الثلاثاء، وتحرى المؤذن الحسود، لين فضي الدكان، واقترب منه وقال: سمعت ناس من الجماعة، يقولون خلقتك ما هي كما خِلقة أبوك، وعذربوا في أمك، لأنها شردت بك عند أخوالك، حتى ما يحقّرونك السفان، ويلصقون فيك عيرة، ردّ عليه، سوّد الله وجهك؟ فأقسم، أن الجماعة كلهم ما يجيبون سيرته إلا وينعتونه بابن الحرام، فوقف، واستحبه من ذراعه، وقال: بيننا وعد قريب.

قفل باب الدّكان، ولا اثنى ركبته إلا عند أمه، والأم بلّغت خاله، بما نقل لها، فلزم الصمت، وما أضحت إلا وهم في بيت العريفة، وحاول المذّن يتملّص، ويجيب أعذار ملشلشة، فخسّوا به الحضور(تخسى في وجهك) والتزم العريفة بالحقّ وما يلحق، وأرسل الفقيه، يفتك ثور ديكان، ويزهّب غداء الرجاجيل، وبعدما تغدّوا وكثروا بالخير، طلب من زوجته تطلع العالية هي وجاراتها، وينشرن البيضاء لجودان وأمه وأخواله، وقال ، ترى بنت ولدي مبخوت حليلة لجودان، مثل ما وعدت أمه وهو باقي في بطنها، وتجدّدت الأفراح، وشدّ المؤذن، وحلّ في ديرة غير الديرة.

00:26 | 28-11-2025

الحقد الدفين على البلد الأمين

ليس من المهارة إيلاء صوت نشاز ينبعث من هنا وهناك كبير اهتمام، طالما الكيان يسير بهدي خطى واثقة، تحقق له ما يصبو إليه، وتنقله من حال قوة إلى أقوى، ومن حضور تقليدي إلى حضور نوعيّ مُشرّف، ومن ثبات إلى ديناميكية، فصوت الحاقد، لا يرحم في كل الأحوال، ومن الكياسة حرق المزيد من أوراقه ومشاعره بمراكمة النجاحات، والاستفادة من بعض الانتقادات التي ربما تكون في محلّها، ومما قاله أبو حيّان الأندلسي: «عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ، فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا، همُ كشفوا لي زلَّتي فَاجتَنَبتُها، وَهُم نافَسُوني فَاكتَسَبت المَعاليا».

ومن الصعب جداً تشخيص أسباب الحقد والحسد، فهناك بواعث غامضة تسكن بعض النفوس البشرية، ومثلما هناك حسد للأفراد، هناك حقد على البلاد، خصوصاً في ظلّ تميّز بلد عن آخر، والأيامُ دُوَل، ومما يُروى عن الشافعي رحمه الله: «كُلُّ العدوات قد تُرجى مودّتُها، إلا عداوة من عاداك عن حسد»، وفي رواية «قد تُرجى إماتتُها»، إذ لا شيء يُرضي الحاسد، إلا زوال النعمة، والنعم من عند الله؛ ولذا يقع الحسود في سوء أدب مع الله كما قال الشاعر: «أيا حاسداً لي على نعمتي، أتدري على من أسأت الأدب؟ أسأتَ على الله في حُكمِه؛ لأنك لمْ ترضَ لي ما وهب: فأخزاك ربّي بأن زادني، وسدّ عليك وجوه الطلب».

والإمام أبو حامد الغزالي عدّ الحسد من أمراض القلوب، التي محفّزها العداوة والبغضاء والكِبر، وخوف فوات مطلب مقصود بسبب منافسة، وحُب الرئاسة والجاه، وخُبث النفس.

ولا أستغرب ما منحته الثورة الرقمية من تمكين لكلّ من هبّ ودبّ، ممن أُوغرت صدورهم بالحقد والضغينة، على بلاد الحرمين، لينفثوا سمومهم عبر وسائل تواصل واتصال بشائعات تفتقد الموضوعية والمصداقية، في ظل غياب المهنيّة، وموت الضمائر، ولعله لا يعلو نعيق النكرات، إلا عندما يحقق وطننا نجاحات تُرسّخ خطواته، وحيثما تعلو راية التوحيد خفّاقة، لا تستغرب من صفيق صفاقة.

ربما غدا واضحاً للمراقب المُنصف أنه عندما تكون فعلاً، يُجنّ جنون من اعتادوا على أن تكون ردّة فعل، ومن يتابع المشهد السعودي، اليوم، لن يخامره شكّ أن السعودية في هذه المرحلة جدّدتْ حضورها وحضارتها على المستويات كافة، وحاديها الثقة بالله تعالى، ثم قدرات رجالات الوطن، الذين اضطلعت بهم المسؤولية، وهم أهل لها دون منازع.

ومن قرأ ورصد مسيرة الدولة سيلحظ أن الحاقدين عليها غالباً هم الذين استفادوا منها مباشرة أو بطرق غير مباشرة، ونعموا بخير مكّنهم من شحذ ألسنتهم الوالغة في مستنقع الضغائن، وما شأنهم إلا شأن القريب الذي تحسن إليه فيجحد ويتنكر، وعلاجه كما قال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، عندما سأله سائل: «يا رسولَ اللهِ إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطَعوني وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لئنْ كان كما تقولُ لكأنَّما تُسِفُّهم المَلُّ، ولا يزالُ معك مِن اللهِ ظهيرٌ ما دُمْتَ على ذلك»، والملّ رماد ساخن.

بالطبع هؤلاء «شرذمةٌ قليلون»، إما أنهم لا يعرفون المملكة، بقيمتها وقامتها، ومواقفها وبسالة رجالها، أو أنهم يعرفون ولا يعترفون، وإما أنهم مُوَجَهُون، ومدفوعون من جهات ناقمة، والمتميز سهل اقتناص مثالبه، باعتبارها نادرة «ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كُلها، كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ».

لن تتغيّر مواقف المملكة من قضايا العرب والمسلمين، ولن تتوقف شراكاتها، ودعمها لدول الإقليم، بسبب حماقة وسفاهة جماعات وأفراد انكشفت أوراقهم، وانتهى الرهان عليهم، ولو كان منهم من يحمل الجنسيّة السعودية، ويُحسبون على البلد، إلا أنهم عملٌ غير صالح، وهم أداة سوء يستثمرهم خونة، ونحن نعلم أنهم ومن سبقهم ومن يلحق بهم لم يزعزعوا الانتماء قدر أنملة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي ردّه إلى الوسوسة»، و«إن كيد الشيطان كان ضعيفاً».

نعلم أن الحقد الدفين ليس وليد اليوم، بل هو تراكمي، وكم كان وسيظل العفو والتجاوز من صفات حكام المملكة «وما قتل الأحرار كالعفو عنهم، ومن أين بالحُرّ الذي يحفظ اليدا، إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا، وقيدت نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً، وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا».

ولو عدنا إلى أزمنة ليست بعيدة عن عدسة الإعلام سنرى أن دعاة القوميّة، ورموز البعثية، وجماعات الإسلام السياسي، لم يروا من المملكة إلا كل خير، رغم كل ما فيهم من شرّ، وحاولوا جاهدين، أن ينالوا من البلد الأمين، إلا أنهم تبخروا وخابت تطلعاتهم وأحلامهم، وظلّ البلد الأمين يحتفل بمنجزاته، ويُسهم بالخير والحُبّ والعطاء، وظلّ الحاقد الحاسد يأكل في نفسه، ولا يفكّر في شيء أكثر من الإساءة، فهو كما قال الشاعر: «أريد حياته ويريد قتلي، عذيرَك من خليلك من مراد، فمن ذا عاذري من ذي سَفاه، يرود بنفسه شر المراد، لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت، ولكن أنت تنفخ في الرماد».

00:04 | 21-11-2025

العرب من الشظافة إلى الخلافة

ربما يتساءل البعض عن مفردة (الشظافة) المشتقة من شظف العيش؛ ولماذا لم تكن الصلافة والجلافة؟ وأرى أن الصلف والجلف كلاهما؛ نتاج الشظف، فالفقر والحاجة يغيّران أخلاق الناس، وما أبلغ قول القائل (إذا أقبلتْ الدنيا على شخص كسته محاسن غيره، وإن أدبرتْ سلبته محاسن نفسه). ومن الطبيعي تفهّم ما كانت عليه طباع الإنسان العربي القديم من غلظة وأنفة وقسوة نقشتها في وجدانه الظروف الاقتصادية، وطبعت بصمتها التضاريس الحادّة، والمناخ متقلّب المزاج، ولعلّ ذلك من أسباب النفعيّة التي ظهرت فيهم، فعلاقاتهم ببعضهم وبالسُّلْطَة والآلهة التي أشركوها مع الله مصلحيّة، ولشُحّ الموارد، وقلّة ذات اليد، ولذا كان أحدهم يذبح لربٍّ من تمر، طمعاً في جلب منفعةٍ أو دفع ضُرّ، فإذا جاع أكل ربّه.

تدفقتْ؛ لأيام عبر الوسائل والوسائط فيديوهات حوارية عن الجهاد في أفغانستان إبان الثمانينيات الميلادية من قرنٍ مضى، وتابعتُ بشيء من التأمل ما دار من سجالات تنبئ من أحد وجوهها، أن بعض المشاريع والأفكار والقناعات تنطلق لغاية وهدف، ثم تنحرف بقدرة قادر إلى مسارات إما أنها مرسومة مُسبقاً، أو أنها قدريّة، والنوايا التي دفعت البعض للإسهام في تلك الحرب، لم تكن سيئة، ولم يكن لها من هم إلا نُصرة شعب شقيق، وبحكم تحقيق مكاسب محدودة حضر الوهم بالربط بين انتصارات المسلمين التاريخية، وبين تلك الانتصارات الشكليّة، فصُوّر للبعض أن حرب العالم ممكن؛ والظفر بفتوحات جديدة أو متجددة ليس مستحيلاً، وهناك من كبّرها في روس بعض رموز المرحلة، فحَلُم أولئك النفر بعودة الخلافة، والحكم الرشيد، وإخضاع الشرق والغرب لخليفة يرتدي عِمّة وله لحية كثيفة، فانصب العذاب على العرب المسلمين صبّا؛ بسبب حماقات ومنازلة غير متكافئة.

عاش النبي صلى الله عليه وسلم منذ البعثة إلى وفاته بين الصحابة رضي الله عنهم ما كان كفيلاً بتجذير روح الوحي في نفوسهم، إلا أن المدنيّة، والتحضّر، يحتاجان إلى زمن، كافٍ للتخلّص من إحن الماضي، ومحنه، وربما لم يتوفّر الزمن الكافي؛ أو أنه توفّر ولم يُستثمر؛ لتبدأ السياسة تلعب دورها في زمن صعب، تولّد بوفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم حروب الردّة، بفرضها سياقات صارمة، استدعتها المرحلة، وما تبعها من استلهام عنصر العائلة والقبيلة، وخوض معارك باسمهما، وإن كانت غير معلنة، وربما المؤامرة قائمة من ذلك الزمن.

عرف دارسو الشريعة؛ قاعدة (المعلوم من الدِّين بالضرورة) ومنه الصلاة والصيام والحج، ولم تكن الخلافة من المعلوم بالضرورة، كونها عُرفاً اجتماعياً اجتهادياً؛ ولكنّ المصطلح حضر وترسّخ منذ العام الحادي عشر الهجري، ويمكن وصفه بأنه أوسع من مصطلح الدولة، وأضيَق من لفظة (إمبراطورية)، وهو مستمد من قوله تعالى (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة)، وظلّ مصطلح الخلافة؛ أو الخليفة قائماً طيلة ثلاثة عشر قرناً، وترسّخ باعتباره الأمثل لجمع كلمة المسلمين، عند من توارثوه وتعلّقوا به؛ ولذا ليس مستغرباً أن يراود الحُلم مجدّداً ذهنيات جابت الأرض من البوسنة إلى الشيشان بحثاً عن نموذج لم يعد موجوداً، ولا يُمكن إيجاده؛ إلا صوريّاً لغايات استخباراتية.

ربما لم تكن الخلافة دائماً، باستثناء الخلافة الراشدة، في أحسن أحوالها، وأعني أنها لم تتمثّل الروح الإنسانية التي جاء بها ولأجلها الإسلام، وتفانى في سبيل إعلائها نبيُّ الإسلام عليه الصلاة والسلام، فالتسمية التي تحمل معنى طوباوياً، مرّت بمراحل، وتلبسها لبوس حظوظ النفس، ولم تسلم من تحميلها من الآثام ما تحتمل وما لا تحتمل.

ومن يقرأ (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبدالرحمن الكواكبي، سيدرك حجم الويلات التي عانت منها البلاد العربية طيلة ستة قرون زمن الخلافة العثمانية، فالاستبداد كما أورد، لم يكن سياسيّاً فقط، بل استبدّ الجهل بالعلم، والهوى بالعقل، والعنف بالرحمة، ومن خامره الحلم بعودة أو إعادة الخلافة، لا يملك مؤهلات استعادتها، فالنمط الإسلامي الخيالي للحكم قائم على عاطفة جياشة وحنين لأيام صُوّرها التاريخ الذي كُتب لصالحها بأنها مثالية؛ ولو عادت الخلافة فلن تكون ندّاً لأُمم اتخذت من العِلم والمعرفة سلاحاً قادراً على إلغاء توازن الرُعب.

كل نظام حكم، هو نتاج ظروف عصره، ولو افترضنا جدلاً أن الخلافة، راكمت عبر سيرورتها نجاحات، متوالية لكانت أدخلت العرب في مدنيّة مُبكّرة، ولبنت مؤسسات مجتمع أهلي متحضّراً، منذ القرن الأول، إلا أنّ الوعي الشعبي، احتفظ بعناصر العصبيّات، والنزاع والخلاف والنقمة، وهو عاجز عن النجاح في التخلص من عِلله؛ علماً بأنّ الإنسان لديه قابلية الاستفادة من المقاربات والمقارنات؛ إلا أنّ البعض مغرم بإطراء مرويات الماضي وتفضيلها بكل مآسيها على حاضره، الذي يوسعه تشويهاً وتقبيحاً، في ظلّ عبث الإسلام السياسي بالأفكار والأفئدة.

تلويحة؛ يظلُّ البعضُ تراثيّاً أكثر من التراث، علماً بأن جماليات الحاضر لا تكتمل إلا بتصحيح أخطاء الماضي، وكان بإمكان العرب أن يعيشوا عصرهم في كل حقبة، وهم بكامل اللياقة والطاقة؛ بعيداً عن التشبّث بنماذج حكم، ليست صالحة لكل زمان ومكان.

00:12 | 14-11-2025

حشوان المهفوف لا صوف ولا معروف

سرتْ الرياح الباردة على قرية ثاوية، على تلّة لا ساتر لها، إلا ستر اللي ما تسهى عينه ولا تنام، كأنها بصفيرها وهبّاتها؛ عدوٌ غاشم هاجسه الانتقام، زعزعت البيبان، ونترت الطيق، وقلّعت الزنق، ونفرت بغُطيان الكُتَر؛ فتكالبت على (أم حشوان) رهبة الظلام، وخرعة الوحدة، ووحشة ليل الشتا، وسُمطة فراشها، الذي آثرت بأغطيته، وحيدها (حشوان المهفوف) اليتيم الذي خلّفه أبوه قطعة لحم في طمرة، والتحق بالسماء، قبل أن يسمع مغاغاته، فأوقفتْ عُمرها وجهدها عليه؛ تدجّن فيه، دجانة البدوان في حشيّه.

ومن شدّة فزعها من الرياح، وما وراها من محاذير وأطماح، لاذت بابنها الغارق في سابع نومة، ورسابه يتقاطر من شدقه كما فحل البعارين، من كثرة ما تلخلخ قبل النوم، ردّت طرفي الكسا على جسده المُوحي بفحولة مبكّرة، ولكي تؤنس وحدتها، مدّت كفها إلى شُقاق الحطب، واختارت منه أعواداً جافة، على أمل أن يتوارى، دون طقطقة ولا روائح، تثير انتباه جيرانها، وتحرّك شكوكهم الجاهزة، شعُرت بوخزة في رأس إبهام يدها اليمنى، فلم تعرها اهتماماً، وانهمكت في نفخ الوارية، بعدما أغلقت على ضنينها، وعلى نفسها كل المناسم، دفيوا؛ واقترب الدِّيك منها، فحكّت أطراف المجرفة بأظافرها، وألقت له ببقايا عجين يابس، بغت القطة تشاركه فنقرها في راسها فتراجعت، وسرح خيالها، وهي تتأمل منقار الدّيك، والتقاطه الحثر في الظلام، ودرجت بصرها في ابنها المنبطح، وقالت في نفسها «ما خلق الله شدق، إلا قسم له رزق».

أصبحت أصبعها متورّمة، والحمى تتوسد مفاصلها التي كأنك رضيتها بودِي، وفي أطرافها رعشة، ولمحت بين أعواد الحطب، عقربة سوداء، تبسّمت وهي تردد؛ (قالوا؛ اقرب يا موت، فقال؛ اقربي يا عِلّة) ونادت بصوت منهوك؛ فسمعتها جارتها (المهفوفة) النازلة بالقرية من أعوام؛ و(حشوان) المتكعفل إلى جوارها صمّها وطمّها؛ والذُّبان لاطية فوق وجهه؛ ولا يحرّك ساكن، فجاءتها حامشة؛ ودقّت لها فصّ ثوم، وحزمته على أصبعها، وغادرت لبيتها، وعادت بزبديّة سمن؛ حمّتها حتى دفيت؛ وأسقتها، وجلّتها ببطانية، وتحرّك النائم، فانقشع الكسا من فوقه، وهالها ما لمحت، فقامت وأعادت الكسا بسرعة، وكادت تسقط خجلاً من هول منظر شاهدته، بودها لو امتد لساعات.

طلبت (أم حشوان) من جارتها تخرج غنمها من المراح، فقالت؛ ولدك الرقّاد يقوم يسرح بها، فقالت؛ قيميه ولا تخرعينه، فلبّت الجارة طلبها بامتنان كبير، واقتربت منه، ونادت عليه، وطرف الكسا يرتفع وينخفض، فزّ مرعوباً، وفرّك عيونه، متسائلاً ؛ وين أُمي؟ جاوبته؛ لقصتها عقربة؛ قم سرّح غنمي وغنمك، وانا بالحقك بالفال، تمعّن فيها، وإذا بها مركّزة نظرها على محزمه، ولهيب أنفاسها يلفح وجهاً بينه وبين الماء فُرْقه، وزفير أُمه يتعالى، فقام ورائحة كادي جارته المُنعش، يفور في دماغه، وخطّى العتبة، ثم استقام طرف الجناح، واحتفش مستجيباً لنداء الطبيعة، وسوّت نفسها ما تشوفه، وردّت شيلتها على فمها، وعينها قاطعة في طول وعرض رجّال، أمه تعافر الشرّ، وهو يناتر.

ساق الأغنام، ولاحظه الفقيه، وتذكّر أن أمّه ما صبّحت عليه عادتها كل يوم، فنشده؛ وين أمك يا حشوان ما لها بديَة، أربّها هبطت، وكان منكّس راسه، فنظر إليه، وردّ؛ انت يا فقيه فقيه رجاجيل وإلا نسوان؟ وشبك؛ ما تتنشد إلا عن الحريم، سرحت راحت، هبطت صدرت، نكحت تطلقت، ما تمزى على شيبتك وتحشم نفسك، يا ضعيف العقل؟ استحى الفقيه؛ فأدخل يده في مذرى مليان عذوق ذرة، دوبه قصّعها، أخرج له ملء كفيه، وقال؛ تحمّص يا المهفوف وخل غنمك ترعى الركيب غلّقنا صرامه، وأضاف؛ ما نشدتك إلا مراعاة لحقوق الجار، فقال في نفسه؛ حقّ لك العذاب.

تسامعت القرية بلقصة العقرب، فتقاطروا على بيت جارتهم الطيّبة، اللي بعسيّه واللي بردّ التحيّه؛ وخطّ لها الفقيه محوة بالزعفران وذوّبها في طاسة، واسقاها وعيناه على صدرها الوافر الحظّ؛ مردداً؛ (باسم الله الشافي المعافي، وباسم القازي التازي ما يرزاك رازي)، وتعمّد يهزّ يده، ليتقاطر الماء فوق نحرها وسحرها، وانتبه للمهفوفة، تفتّ قرصاً في زبديّة السمن؛ فقال؛ لقّمِيها ولا تكثرين، فردّت بصوت حازم؛ هذا فال حشوان، سرح بالغنم ما فك الريق، خلك عند أمه، وإذا فطّرت حشوان، وعوّدت ولّمت فطورك وفطورها، فانتشى وكأنها أعطته بندر عدن.

اكتشف (حشوان المهفوف) دواءً لجوع النجوع، ومسكّن النزق، فاعتزل عن والدته؛ في العُليّة، وتناغمت مشاعره، مع أعضائه؛ فخشيت أمه الفضيحة، وقررت تزويجه، خصوصاً وأن جارتها المهفوفة؛ صارت تلح في طلبه؛ مرة خليه يجي يطحن لي الحبّ، ومرّة يحدّ الفاس، ومرة يشدّ على الحمارة، فطلبت من الفقيه يدوّر له عروس، وبشّرته بخروف من خيرة غنمها، فندف صدره قائلاً؛ ولدك ولدي، وما لك إلّا بخدلجه ما دخل قُرانا كماها، وساعة ما طرق الخبر سمع المهفوفة، حبكت له، ودقّت تالي ليل، على جدار خشبي مخلوب بطين، يفصل بيتها عن بيت أم حشوان؛ فأيقظته أمه؛ يبدي يلمح وش سنع دقّ جارتهم، فخرج وهي خرجته اللي ما دخل بعدها، أمسى ولا أصبح، لا هو ولا المهفوفة؛ اللي قال؛ جنيّة سرت به، واللي يقول؛ أقحم نفسه في غدير الملقّى؛ واللي يقول؛ سافرت به المهفوفة إلى بلادها، وغدت الأم تندب، و تردد (الله يسامحك يا حشوان المهفوف، ما فيك لا صوف ولا معروف)، ردّ عليها الفقيه؛ أبشري بالصوف والمعروف، ونقع الدفوف، وحنا الكفوف، ولمع السيوف، وفقّ الغضروف، وغنّى (يا ناكح أم اليتيم، كم لك من أجر عظيم، كنّك تسقّي حجيج، بين الصفا والحطيم) فحذفته بخوط ريحان مغرهد، مرددة؛ الله ربّنا وربّك.

00:16 | 7-11-2025

مناقشة الأفكار.. الجدل أفيون الشعوب

ليس من السهل الوصول إلى حقيقةٍ ما، وليس مستحيلاً إلا على عقل كسول، والأفكارُ شُعلةٌ، يمكنها أن تؤجج حريقاً، ويمكن أن تخبو. والحكمةُ في السلامة من الاحتراق، والعف عن الجناية عليها بالإطفاء، ومثلما تتطوّر المجتمعات، وتتمدن، وكما يجري تحديث الدُّول، كذلك تتطوّر الشعوب، وعياً وأفكاراً ومواطنة.

وتنتصر الأفكار ولو بعد حين من الدهر، بانتصار الإرادة على الهوى، وتغليب الموضوعي على الذاتي، وبقوة التشريع المدني الذي يُلزمْ كل مواطن بحدوده؛ ومن يريد رصد تطوّر وتمدّن مجتمع، فعليه أن يستمع لطرحه ومناقشاته، ويُدقق في سلوكه، وأخلاقه، فمفهوم التنمية أوسع وأشمل من الاقتصاديات المادية، فالغاية التنموية؛ هي الإنسان الذي يُفترض أن تنمو بالتنمية طريقة تفكيره، وأساليب تعامله، وينضبط سلوكيّاً بالقوانين التي تُعزز مدنيّته ورُقيّه.

ولا يمكن أن يتحرر الإنسان من جهل، ويتعافى من أمراض أخلاقية، دون أن تتلبسه أفكار وأدبيات تلامس وجدانه، وإن لم يجرؤ على البوح بها، ولعل الفئات، التي اعتادت مناقشة الأفكار، بحدّية؛ تحُيي رسوماً درست، بمناقشة موضوعات قديمة، في زمن حديث، بذات اللغة والوعي والهوى التالدة، ومعنى ذلك أن التنمية البشرية لم تحقق مستهدفاتها بصورة كُليّة، فالحكم الذي ينطلق من هوى؛ حكم اعتباطي، لأن الهوى إرادة متحررة من التفكير، ومن الطبيعي أن لا يثبت صاحب هوى على قرار ومشاعر اعتباطية؛ فسرعان ما يعدل عنها إلى غيرها، أو نقيضها، وصاحب الإرادة الحُرّة لا يتعامل مع القوانين والأنظمة بهواه، فالأخلاق لا تعني السيطرة على الموضوعات، بل التحكّم في ذاتٍ مُغرمةٍ بالهوى.

ولقبيلة الثقافة في عالمنا، أو عوالمنا، نزعات وتوجهات في التعاطي مع فكرة أو طرح، بحكم الميول، أو التحاسد، أو الصّلات الروحية والنفعية، والرغبات، والأنا، وحظوظ الدنيا، فينساق البعض، بهوىً أو مخزون تراكمي شاق، إلى نسف كل ما لا يتسق مع قناعاته؛ البائسة أحياناً، والناقمة في كثير من الأحيان، وهناك من تشغله الأفكار انشغالاً سلبياً لا يعبّر عنه، فيلزم الصمت، وهناك من يتفاعل بعدوانية، وهناك المُتلطّف وإن لم يُنصِف، وهناك المُنصِف.

والقادر على إنتاج الأفكار غالباً، أكثر المعرفيين قدرةً على مناقشة أفكار الآخرين، دون استعلاء عليها، ولا دونية، فالمستعلي على الأفكار يلغيها بكلمة أو جرة قلم كما يقال، والذي هو دون وأقل مستواها ولا يمكنه استيعاب محتواها وما تؤمي إليه، يجنح إلى تشويهها ويحمّلها من التهم والإدانات ما لا تحتمل، في ظل محاولات الموضوعي إنصاف ما هو عقلاني دون تجنٍّ على النصّ أو الشخص.

ويتمثّل لي المُفكّر والكاتب، في صورة صائد صقور، أو طيور نادرة، فهو حريص أشد الحرص على حياة وسلامة صيده؛ إلا أن أدواته يمكن أن تؤذي الطير، فيفقد قيمته، أو تنقص، والفكرة أشبه بالطير المُقتنص، بأدنى تشويه، أو مغالطة؛ تضعف وتمرض، وإن كانت الأفكار لا تموت، والإنسان خليط من مشاعر وخطابات، وتديّن، وما فيه من الأديان وما جرى لها وعليها؛ ينعكس عليه بصورة ما.

هناك عبر التاريخ البشري، طوائف وأطروحات جدليّة، والقرآن الكريم نبّه على سلبية الجدل (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)، فالمُجادل العقيم غالباً لا يريد الوصول إلى حقيقة، ناهيك عن اقتناعه بما يغلب على الظن بأنه حق، وعلى الجدل، يتأسس الرفض؛ إما رفض الفكرة الصحيحة، أو السليمة، أو الناضجة، أو رفض المفكّر، أو رفض تسليم المجتمع بالأفكار؛ إما لأسباب شخصية، أو أيديولوجية أو حزبيّة، أو عدم الارتياح لصاحب الفكرة، أو كراهيته، أو استكثار الأفكار على شخصه؛ كونها لا تنطبق عليه معايير الناقم الحاسد المُشوّه الذي يرى نفسه فوق الأفكار، وإن كان دون مستوى المُفكّر.

هناك مناقشة للأفكار وحوار معها، تنتج أفكاراً لم تخطر على بال المتحاورين، وهي صفوة وخلاصة ربما تكون أقرب لديالكتيك هيجل، وتنفع في الخروج من أسر أزمة معرفية إلى أفق أرحب، فتفعيل الأفكار يخلق مرونة مواكبة عصر، ولا يرضى العقلاء أن تكون الأفكار مثل المقترحات؛ إن صدرت من ذي شأن لقيت التهليل والتمجيد، ولو كانت عادية أو تقليدية، وإن صدر مثلها أو أحسن منها، عن كادح، قالوا؛ قديمة أو مسروقة؟!

ووصف الجدل بالأفيون المخدّر، مُستعار، فالبعض يتنفس احتقانه بالجدل، ويشعر بارتياح؛ وتخمد ناره، وينطفئ ضوءه؛ وينام عميقاً، ويصحو متأخراً للبحث عن جدل جديد أو متجدد في مواقع التواصل، ولأنه غالباً غير منتج، فهو معني بتحطيم مراكب المُنتجين؛ أو تكسير مجاديفهم، والجدل المشهود غايته الوصول إلى لا شيء، عدا الجحود.

تلويحة؛ (رب حامل فكر إلى من هو أعمق منه) وهنا تحضر حكاية فيلسوف، كان يحمل شمعة؛ فسأل أحد مريديه؛ من أين أتى الضوء؟ فنفخها المريد وانطفأ الضوء، فسأل الفيلسوف؛ إلى أين ذهب؟.

00:12 | 31-10-2025

انفقعتْ عين الشيطان

انتبه (أبو مبروكة) أن الديك، له دور ما يوذّن، فنشد مرته؛ وشب الديك قَلَب دجاجة، وإلا لطي لسانه في منقاره؟ وأضاف؛ ديوك الخلق تكاكي من صباح العالمين، وهو كما المضيّع؟ فقالت؛ يا مخلوق، ولدك (المنفّر) أدخل كلبة بجروتها، في السفل، وآهو رابض عندها، وأضافت؛ الكلاب تطرد الملائكة من البيت، وتدخل الشياطين، تشره على ديك، ما عاد شاف ملايكة ربي.

طلب منها تكبّ على خبزة حنطة، وتحتصي عشرة، وقال؛ بيجينا خطّابة في مبروكة، ومدري يتفاولون معنا، وإلا نخليها فال غداء. سألته؛ فيش يبتلّون الخبزة؟ ردّ عليها؛ السمن والتمر والعسل في العُلّية! علّقت؛ يفقدني المنفّر؛ ما عاد منها زفرة ولا حثرة، فتغيّرت ملامحه، وحندر فيها بعينين ينزّ منهما شرر، قائلاً؛ وثاقة البيت يا هَمَلة فين أغديتيها؟ أجابت؛ والله ما حلّت عليّه، الطرعين ما خلّوا سِكنه، واستدركت؛ يكون يا ربي؛ أمي مرضت، فسويت لها عيش، وجليته بملعقة سمن، ولُحسة عسل.

نفض الحلس، ولبس ثوبه، وارتدى عمامته وعقاله، وركب حمارته، وطول الطريق، ما فتر لسانه؛ (يا الله بلحمه زينه؛ من عند ولد القينه) صدر بطفيتين؛ من ثور مِشحم، وقال؛ انصبي بطفيَه؛ والثانية ملحيها، وانشريها فوق الحمّالة؛ وما كسرت الشمس، إلا وقلاقل الحمير لها أزله، في مساريب القرية، ما نزل الأرحام من فوق ظهورها، إلا والكلبة المجرية خارجة من السفل، وبهشت بهم؛ فلزمها بذنبها، وحدحد بها بين فروخها، ولاح الباب، فخفت نباحها وتراجع إلى صواء.

رحّب وسهّل، وغمز لولده (المنفّر) فاقترب منه؛ فقال: اعلف حمير أرحامك واسقها، تحرّك بتثاقل، فحداه بالزنوبة، قدام ضيوفه؛ وقال؛ أعجل يا كلبان، ما وقّعت فيه؛ فانطلق؛ وتفاول الجميع وتقهووا؛ وأبدوا جوابهم؛ أعلامنا خير، من الله ومن هذي الساعة؛ جيناكم لا جاكم شرّ، نطلب ملزمة ربي، في بنتك (مبروكة) لولدنا (مشاهق)، وسمعت مبروكة العائدة للتو بغنمها، من المسراح، فانفرجت أساريرها؛ وطلبت الله يتمها، ممنّية نفسها؛ تنتسم من الشقا، ولاحظت أن الخاطب ما يبصم شدقه مفتوح، ويزرق عينه ويليها، وسنونه كما سنون مقصب الخريف، متباينة، وبارزة للأمام.

ترددتْ في القبول به، فانفرد بها أبوها، وقال؛ إن طعتيني وخذتيه لتسمينها سُعدى؛ وأضاف؛ انتي تبغين ابن حلال يناني بك، والا ابن حرام يلزك عند عينك؟ وسرد عليها مكانة وميلان أهل خطيبها، ونشدها؛ ما شفتي حميرهم كما الخيل، وهما يأخذان ويعطيان؛ على دخلة (المنفّر) وفروخ الكلبة ساقته؛ فتناول العرقة؛ وقام عليه؛ يهبد ويحنم عليه؛ وثاقة البيت يا طرع كلما وِقِعْ لنا شوية سمن، وعدلة تمر وإلا عكة عسل، اندعيت عليها، فصاح الولد؛ الله يفقدني أمي وآبي ما دبت ثمي، فانفعل أكثر؛ تفقد بي يا منفّس الكلبة، وشمّطه وملّخه وفين اللي ما يوجعك. أرسل نداء استغاثات لأمه؛ وهي لاهية، وترد بصوت هامس؛ ليته يتويك يا العنز السّرِفه.

درت (الشبّارة) شقيقة أبو مبروكة؛ أنه أخطب بنته لأجنبي، وما ذاقت الذُّوق، ولا بلّت العروق، فهي سبق وصهّرت عند أمها لولدها (المندس) فأقبلت عليه بشونها، ومسبحتها تسحب في الحيله؛ سلّم عليها؛ وترضّاها، ولم يُفلح في اقناعها تزلّ؛ وانفرطت؛ أرخصت مبروكة رُخْص التراب الله يرخصك؛ وطقّت بيمين تحجّ بها البلّ؛ لو ما يعطيها المندس؛ لتقطعه قطع الدلو في البير، وتبدي له السوداء من فوق المسيد ليلة ما يروّحها.

التقى بعد العصر، زوج أخته الشاعر، معتنزاً على شماغه، في ظُلة المسيد، ويتّنبك دخان عثري، ومن ساعة ما شافه كركر لين دمّعت عيونه؛ وبدع له (انتبه لاختك يا بو مبروكة، لا تهب لك قَبْعَةً في راسك، مدْمِيَه والا معجْرِمه) فعزمه للعشاء؛ وطاب لهما السمر؛ وأحسّ الشاعر بالبرد؛ فقال؛ يا مبروكة وأنا خالك، اندري جُبّة أبوك المعلقة من يوم خِلقت الخلوق، لا دِفي بها ولا صخي يدفا بها غيره؛ كلتها الرِبية، كما جُبّة الضبياني.

وهو ساري، حذّره، وقال؛ أختك يا الرحيم مشعوذة، وكل خميس تلقى (قطير السحار) في السوق؛ وتعقّدْ وتربّط هي واياه؛ شعران وأظافير؛ قدام الله وخلقه، فحرّز على بنتك وملابسها، ووصّ رحيمك لا جاكم فلا يأكل ولا يشرب من بيتي، فقرر أبو مبروكة، يتفادى الشرّ بالمرواح؛ وقصد أرحامه؛ وقال؛ دور اليوم عروسكم عندكم؛ والبنت إذا راحت كسّوها وحلّوها؛ وحنّت الدففه؛ ورمى ثلاث طلقات من بندقه المحدّش، وقال للموذّن؛ إن كان تبغاني أبقي لك من اللزومة يا ديكان؛ أزرب درجة المسيد بطلح؛ لا تغدي المطنقرة، تفضحنا وتشرّه بنا قدام الحاير والباير ورديف الحظ العاثر.

راحت العروس؛ وشروح وفروح، وظلّ رأس العريس منكّساً؛ طوال أيام الأسبوع، فأبلغ أمه؛ وقال؛ الفِرَاص ينكب، يا البنت ملزومة، وإلا أنا مبرود؟ تكتموا على الموضوع؛ وأبو مشاهق، عارفة قوم، ترقّب فقيههم لين صار لحاله؛ فقال؛ تنجدني والا زيّ ما فقّهتك أخلعك واندرك من المنبر باذنك؟ ردّ؛ أبشر بي تقول وتطول لو على واحد من سفاني؛ فأبدى له ما جا عليهم، وما جرى على ولده وعروسه؛ فدلّه على بيت (قطير السّحار) قصده في مسحرته، وكسر شوكته بخمسين ريال فرانسي؛ وصار كما الخاتم في أصبعه، وصباح اليوم التالي؛ لمحوا مشاهق وعروسه سارحين، وطشت الغسيل فوق رأسه والسراويل مدلدلة من طرف؛ فالتقاه الفقيه ونشده؛ بشّرني وآنا عمّك قطاب؟ فأجابه؛ انفقعتْ عين الشيطان.

00:04 | 24-10-2025

تمسّك الإخوان بمكتسبات قرن من الزمان  

من المتعذّر جداً وربما المُبكر، إن لم يكن من المستحيل، الحكمُ على ذهنية وآلية تفكير جماعة الإخوان ومن شاكلها من تنظيمات الإسلام السياسي، والتأكد من إيمانهم بالدولة الوطنية، وقابليتها الانخراط في منظومة العمل الوطني، والسبب في هذا التعذر أن نشأتهم وتاريخهم يحملان الكثير من الغموض والشكوك والريبة، ولعلّ الغرب بعدما رفع قبضته عن الدول التي كان يستعمرها، ترك مسمارين، أو وتدين في جدار وحدتها؛ مناطق حدودية إشكالية، قابلة للتنازع وإشعال فتيل صراع بين الجيران العرب متى ما أراد أن يشغلهم، وجماعات وأحزاب وتنظيمات ليزعزع بها الداخل، ويهدّد بها من الخارج.
ولو سألنا، مُصغياً للسؤال من جماعة الإخوان، وبقيّة تنظيمات الإسلام السياسي؛ هل أنتم مُسيّرون أم مُخيّرون؟ فما تكون إجاباتهم؟؛ مؤكد أنّهم لن يقولوا؛ لا هذه ولا تلك! فإن كانوا مسيّرين فلمَ لم يمكّنهُم مَنْ أسّسهم وسيّرهم ورعاهم وموّلهم منذ العام 1928م،؟ وإن كانوا مخيّرين؛ لماذا لم يَصْدُقوا مع أنفسهم، ويؤمّنوها بسياجٍ وطني، يعزز ثقة أوطانهم بهم؟ وإن قالوا إنهم ليسوا طُلّاب حكم، فلماذا أقاموا الدنيا ولم يقعدوها منذ إسقاط الشعب المصري حكمهم، وهدّه معبدهم على رؤوسهم؟ وإن قالوا إنهم طامحون للعرش الرئاسي فما هي الشرعيّة التي يستندون عليها؟ وما هي الحيثيات والمسوغات المُقْنِعة، كي يكسبوا قضيّة ليس لها سياق تاريخي، ولا قبول آنٍ؟.
ولعل جماعات الإسلام السياسي تغفل عن خلل وقعت فيه منذ التسمية؛ فهم جماعة، والأوطان مجتمعات، والمجتمعاتُ أطياف، والأطياف مشارب وأفكار وقناعات وعادات وتقاليد وموروث، وثقافات، ولن يحكمها بعدلٍ وإنصاف من يختزل الثقافة العربية بكافة أبعادها وطاقتها ويقدمها على أنها دِين، ثم يجعل من الدِّين؛ مانيفيستو ليتحكّمَ بالسرائر والظواهر والضمائر، وينعت أخلاق الشعوب، بجاهلية يجب اجتثاثها ومحاربتها وتقويمها بالسيف.
لجماعة الإخوان، مكتسبات أفنوا أعمارهم في سبيلها، وبعضها يمتد عمره إلى قرن من الزمان؛ منها التغلغل في حياة المسلمين، من المهد إلى اللحد، ومن الشارع إلى المصانع، ومن تفاصيل اليوم إلى غُرف النوم، واخترقوا مؤسسات التعليم والإعلام والدعوة والإرشاد، ومكّنتها الظروف والسُلطة حينها، ليغدو سُلطة موازية، تؤثر في القرارات، وتعطّل مشروعات، وتُدني وتُمكّن من تشاء، وتُقصي وتشوّه من شاءت، وغيري وأنا لا نتصوّر أنّها تتخلى (مسيّرةً أو مُخيّرة) ولا تكف يدها، وتعف لسانها، وتعود إلى رُشدِها لا إلى مُرشدها، في ظل توفّر بنيتها البشريّة التي بذرت فيهم هوساً بالوعد الحقّ، وإن كنت أرجو صلاح حالهم وعودتهم إلى الإيمان بالأوطان، وإن راودتهم بين حين وآخر أحلام اليقظة، وهذا عندي من باب حريّة التفكير، لا تحرر التدبير.
للإنسان السوي طموح العيش في ظل أسرة ومع مجتمع، وينتمي لدولة، كي يحقق ما يطمح إليه من تطلعات، وحقوق، ويفي بما عليه من التزامات وواجبات، فالأسرة تضمن الطمأنة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية أحياناً، والدولة تكفل الأمن والاستقرار، وتضبط التصرفات، وتعزز الكرامة، وتحافظ على سلامة الناس بالقوانين، والمجتمعات، لا تطمح لأكثر من دولة تؤمّن لها حياتها ومعيشتها، فيما نقاء العقيدة، وسلامة التديّن، واستقامة السلوك، يتحقق في ظل دولة تزرع الحُبَّ، وتغرسُ المودّة، وترفض كل ما يعكّر صفو شعبها، أو يُخلّ بسلْمِهِ وإسلامه.
ولن تفلح جماعة، تحلم وتتطلّع أن تكون وصيّة على أفكار وقناعات، ودنيا وآخرة، فهذا هو الكهنوت الطارئ على الإسلام منذ العصور المُظلِمة، ومن غُرّر به، والتحق بركبهم، ونافح عنهم، دفع ثمن ذلك باهظاً، وهم يتفرجون على المشهد؛ من المصائف والمشاتي، منعمين في أحضان (الشيطان) الذين يلعنونه علناً ويوالونه سِرّاً؛ كونه يعينهم على مناوئة الأهل والأحباب، وليس من عاقل يودّ أن يقضي حياته مُشتتاً بين المنافي والمعتقلات بسبب فكرة لا شرعية لها من الأصل، بل هي من الضرر الذي يجلبه الإنسان على نفسه، واهماً بحُسن ظنه، أنه أهل للحُكم، خصوصاً أن صورة الخليفة التي رآها في المسلسلات تنطبق عليه! علماً بأن الحكم عبر تاريخه لم تكن أهليّته تتمثّل في التديّنِ فقط، والمرجع في الحاكميّة، المجتمع؛ الذي ارتضى من يحقق مصالحه، ويفكه من النشب.
وإذا كان من الطبيعي والمنطقي أن ينطلق السياسي من أجندة دنيوية خالصة، تدفعه إلى مراعاة توازن القوى، والاستفادة من كل الأوراق، دون حرق أي كرت منها، حاديه في ذلك ودافعه الأول، الحفاظ على كيانه من أي اختراقات أو زعزعة؛ فإن جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسهم الإخوان ينطلقون من أجندة دينية؛ بل عقديّة، وأيديولوجية يرون من خلالها وعداً بالتمكين في الأرض، ما يبرر لهم أن يلاعبوا السياسي، ولهم أجر على لعبهم (بحسب ظنهم الخطاء) فيهادنون ولا يتنازلون، ويعدون ولا يوفون، وربما لا يتخلون عن أحلام لطالما رأوها أقرب من حبل الوريد، ولا يمكن لأحد أن ينافسهم في المسلّمات واجتراح المصطلحات، فالهارب من القانون عندهم مهاجر، والسجين بحكم القضاء أسير، والميّت منهم شهيد، والخائن منهم مظلوم، والسارق بريء وهلّم جرّا.
** تلويحة؛ (وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗوَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
00:08 | 17-10-2025

النقنوق

انكفت الفقيه بعد شهر مرض، وما صدّق (النقوق) أن الله وخّره من طريقه، فانصرفت إحدى عينيه للفقاهة، والأخرى لأرملته الماهرة بفنون الحياة، من خياطة، وزخرفة ونقش وطيب مرقد، ومرّت أيام العزاء على النقنوق ثقيلة؛ مع أنه سجّل حضوراً عاطفياً، لفت أنظار أهل القرية، يتلهلب من عند الطباخ، إلى القهوجيّة، ويقف على رأس العريفة وكل ما فنجال العريفة غلّق عبّاه، وينحني له، قائلاً؛ فنجالك يا كبيرنا.

كان ما يتروّش بالأسابيع، ولا يلام قطرة على جسده، صار ما يخرج من الطشت النحاسي؛ وأشغل زوجته، كُدّي ظهري بخيشة، وافركي كعوبي بحجر، وامرخي وجهي بالسُّذاب؛ لين يذلّي يصطفق، وأدركتْ المسكينة، أن مبالغته المباغتة في التنظف، وعنايته بغسل ثوبه كل يوم وراها سرّ؛ فتقول له؛ كيف لك، بيجي المطر، وتضيف؛ ما خبرتك تحبّ الهيالة، ولا أنته من أهلها، فيردّ عليها؛ النظافة من الإيمان، وإن كان على الماي ما يستقي لك إلا أنا وحماري، وكلما سرح وشاف شجرة عُتم؛ يفتصخ له منها عشرة مساويك، ويرصها في جيبه؛ ويسابق على المسجد، وكثيراً ما تناشب مع المذّن؛ لأنه يرفع الأذان.

لاحظ العريفة؛ أن (النقنوق) من ساعة دخوله المسيد، منكبّ على المصحف اللاطي في حُثله، يحنم بالتلاوة وينغّم، ويتمسوك، والعريفة فطن، يوم يقدمه يصلّي بهم، ويوم يقدّم المذّن، وإذا صلّى بهم الفجر، يقنت ويتباكى، فينحرق المذّن، وبعد الصلاة ينفر فيه؛ ليش تقنت، وفقيهنا الفاني الله يرحمه ما كان يقنت بنا إلا في رمضان؛ وانت اهدنا فيمن هديت؛ وانت ما خليت بيت ما نقنقت فيه وعليه؛ ولأنه ذهين؛ يكتفي بالقول؛ اشهد عليه يا كبيرنا، انحن منحن شوافع؟ والعريفة يتبسم ويقول؛ ادعوني أستجب لكم.

في عصر يوم شاتي؛ طلب من زوجته تحدّ الشفرة، وقبل المغرب نزل المراح، وانتقى أسمن الرّخال، ولمس ضرّتها كي يتأكد أنها سليمة من الدفاع، يممها للقبلة في السفل، وذبح وسلخ، وفصّلها في قشبي، وغطى على اللحم بشرشف، وامّرش بها من المسراب في الغُدرة لبيت العريفة؛ الذي كان ينتظر جحل الطبيخة يفور، ولا عبّى ولا ثبّى إلا والقشبي بلحمه وشحمه ورأس غير مشوّط بين أياديه؛ فقال لزوجته؛ اندري جحلك واغرفي الطبيخة لاهلك.

أبى يقعد النقنوق، بغى فيه العريفة، فأقسم ما يتواسى؛ إلا في وقت غير ذا الوقت؛ وأشعره أن صلاة العشاء حانت وبيغدي يوذّن؛ والعريفة عندما أدخل يده من تحت الشرشف ولمس اللحم الطري والكبدة بشحمها اتخذ قراره؛ وعندما قامت الصلاة، وتقدم المذّن للمحراب؛ شدّه العريفة من كُمّ كوته؛ وقال؛ المحراب ما هو لك؛ من اليوم حدّك؛ حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، واهي كثيرة عليك؛ أدرج النقنوق المسواك على أسنانه المُفرّجة ونادى؛ استوا واعتدلوا؛ فقال المذّن بنستوي ونعتدل بالمشعاب.

طوّل العريفة، والفقيه الجديد في التسنان. خرج المذّن قبلهم، ولم يجرؤ على العودة، وسمعهم يتجادلون؛ ودّه يلتقط وش يقولون؛ فانزوى في الغدرة وراء حماطة الظُّلة عريضة الجذع، وتيقّن أن بينهم دسدسه من يوم خرجوا متلازمين بالأيادي، ورصدهم لين ضوّاهم بيت العريفة؛ وطُل يا ليل واقصر يا ليل؛ وهو داخل خارج من الشقيق إلى الرعش؛ يتبدّى ويترقّب متى يسري النقنوق، وغلبه النوم وهو منبطح في فتحة الخلف، فغطته زوجته الحانق عليه؛ بجودري؛ وهي تقول؛ مرقاد أهل الكهف يا ديكان.

سرى العريفة، والفقيه الجديد، والشاعر، على مزوح وفروح، وقرض يطقطق؛ اشتووا الكبدة، وشوّطوا رأس الرخل، وتعشوا، والشاعر يمعني للعريفة بالقصايد؛ (يا رخل ما ناشها طُرقي ولا عضّها ناب؛ هني لمن مصّ عظمتها وزمّ السبالي) ولكي لا ينساه النقنوق دقه بالقصيدة (يا راعي الغنم وين انت عنها؛ ضاعت ما ضوى منها رعيّه) فتعالت الضحكات، وزوجة العريفة تملّح اللحم وتعلّق على الحمّالة.

فزّ المذّن قرب منتصف الليل، ونادى على زوجته؛ (يا شرقه) أشمّ لي ريحة شواط؛ فقالت؛ تتحلّم، اللي يرقد ما يتعشى يشبّره شبّار الموت؛ وتلقى لحيتك قربت من جهنم؛ وتقذقذت، وأضافت؛ بقيت لك فريقه في الطاسة، تلحّسها إن كان سلمت من البساس، وفي صلاة الفجر؛ نصّب العريفة (النقوق) إماماً للقرية، فقال المذّن بينه وبين نفسه؛ ورث الفقاهة؛ ولكن وأنا ولد أُمي ما يرث أرملة الفقيه؛ لو ما يبقى من لحيتي شعرة؛ فلقيها صبح، بعدما انتهت العدّة تنقّي في ركيب الدجر، فسلّم قائلا (ولعون يا دلّة الرسلان) ردّت؛ الله يعينك يا الصديق الصدوق؛ فحط ايده مع ايدها، وانتبهت أن وده بهرجة؛ فقالت؛ هات علمك؛ فأقسم لها؛ إنه ما يشوفها إلا كما عيونه؛ فقالت؛ كمّل النِقّاي؛ واصرم لي قصبة قضب لبقرتي وروّحها لي، وما كمّل إلا مع الظهر؛ وراح والحزمة فوق رأسه؛ ورشوحه تقطر؛ ورمى بالقضب فوق العابر؛ وإذا بالفقيه الجديد معتنز جنب الزافر، ودلّة الرسلان تفوح قبالته بالزعفران.
00:16 | 10-10-2025

تحقيق مُستهدفات بالمؤشرات

منذ أعوام، أحاول مع أُسرتي تبنّي سياسة اقتصادية، متناغمة مع التحوّلات؛ لمجابهة التحديات الاستهلاكية، ما يمكن معه حماية الوضع المالي من مخاطر غير مأخوذة في الحُسبان، فالمبالغة في التفخيم والاقتناء من الكماليات يوقع في الحرج، وتلافي ذلك يحتاج إلى جراحات تجميلية مكلفة، والشفافية تقتضي أن أكون صريحاً مع منظومتي العائلية، ولا أُسرف في إشعارهم بأن الوضع دوماً على ما يرام.

وعندما يقول ابني وبنتي، لدينا مصروف كافٍ ليوم أو أسبوع أو شهر، لتفادي زعلي، فمن الطبيعي أن أفرح أو أشعر بشيء من السعادة، كونهما يطبّقان ثقافة الترشيد، ويوفّران لخزينتي مبلغاً يمكن أن يسد عجز الميزانية المقترحة، للشهر أو السنة، أو الفصل، ومن الأنصف أن أُجدّد بهم الثقة، وأرفع سقف طموحي مع عائلتي المُرشّدة، في ظلّ وفرة أبناء وبنات إيجابيين، لربما بحكم ظروف المراحل يُبالغون في رسائلهم التطمينية.

ومن لوازم ملكيّة أي فرد للمال، واستغنائه عن مصروف يحصل عليه، سؤاله؛ عن المصدر، فهل هناك توفير غير مُعلن؟، أو دعم من أطراف متعاطفة مع هذا وتلك؟ ولعل ما يخشاه الأب الكادح أن يدعي أولاده أن لديهم ما يكفيهم، ثم يكتشف أنهم يهايطون ولا أقول؛ يكذبون، فالمصارحة بين أهل البيت أسلم للجميع، المُنتج والمُستهلك، ولعلّ مما يُبهج الأب أن تطلب منه أسرته ما تحتاج من الضرورات، ويشعر بامتنان فذلك من لوازم القِوامة، شرط ألا تكون طلبات مرهقة.

بالطبع ممكن أن يمرر الأب، على أسرته، ادعاءات وأنباء لا تمتّ إلى الواقع بأيّ صِلة، ويشعرهم أنه حقق مستهدفاته السنوية وأزيد، وإن لم يظهر شيء أمام أعين الناظرين، بدافع تطمينهم، والحفاظ على موقعه القيادي، وإيلائه ثقةً، ولتجاوز الاتهامات، وردود الأفعال التي يمكن أن تتسبّب في ربكة ميزانية، أو تعثّر مشروع، أو تعطيل غاية تنموية مستدامة، أو سحب الصلاحيات الممنوحة من مجلس إدارة المنزل.

قال لي قيادي في إحدى الإدارات؛ تعرف لماذا تفوز مدن أو مناطق بدعم سنوي ربما يفوق احتياجات مؤسساتها؟ فقلتُ، ربما حظوة! أو كرامة، أو جدارة، فقال، كلا، بل لأنهم يصفّرون المستهدفات، وإن حققوا منها ما يفوق المتوقع؛ إلا أنهم لا يكشفون أوراقهم، فيحظون بالدعم مُضاعفاً، في حين تدّعي مؤسسات، في مناطق أنها حقّقت المستهدفات ويرفعون بالمؤشرات الإيجابية، التي تدل على الاكتفاء أو التشبع برغم الحاجة الماسة للدعم، وهذا يتنافى مع واجبات العمل، ويُخلّ بجودة الأداء.

لا أتخيّل مسؤولاً يغضب من إدارة تابعة لإدارته أو وزارته؛ لأنها طلبت منه دعماً، أو اعتماد مشاريع، فالإدارات المميّزة تحقّق فائضاً من الإنجازات، بالاعتماد على مصادر ذاتية، ولوجستية، وكلّما طالب مسؤول بمشاريع وتحقّقت سيكتبها له التاريخ، ويذكره المجتمع بخير.
00:03 | 3-10-2025