أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/okaz/uploads/authors/1776.jpg?v=1764017646&w=220&q=100&f=webp

فراس طرابلسي

محامي | كاتب رأي

حين يكون المواطن في مقدّمة الأولويات.. تتحدث الميزانية بلغة مختلفة

حين نتأمل مسار السياسات المالية السعودية في السنوات الأخيرة، ندرك أن ما يميزها ليس حجم الإنفاق ولا توزيع البنود، بل الفلسفة التي تقف خلفها. فكل ميزانية تصدر ليست وثيقة حسابية، بل انعكاسٌ لرؤية قيادة تعرف أن استدامة التحول لن تتحقق ما لم يكن المواطن في صدارة الأولويات. وهذه ليست عبارة تُقال في مناسبة، بل منهجٌ تُثبته القرارات منذ أن رسّخ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مبدأ أن «المواطن هو محور التنمية»، وأن الدولة لا تعيد تشكيل اقتصادها فقط، بل تعيد ترتيب علاقتها مع المجتمع على أساس مركزيته في كل قرار.

ومن الزوايا التي تستحق التأمل أن الميزانية لا تُقرأ فقط بوصفها خطة مالية، بل باعتبارها توجيهاً مباشراً للمسؤولين بأن يبقى المواطن في صدارة أولوياتهم عند تصميم السياسات وتنفيذ البرامج.

فالمسألة هنا لم تعد مرتبطة ببند مالي أو برنامج تنموي، بل بمعيار يُقاس به الأداء المؤسسي: كيف ينعكس القرار على حياة الناس؟ هذا المبدأ، الذي أكد عليه ولي العهد مراراً، تحوّل من قيمة معنوية إلى التزام تنفيذي، يظهر أثره بوضوح في طريقة بناء الميزانية وفي آليات الإنفاق الحكومي.

وفي قراءة الميزانية الحالية، تبدو هذه الحقيقة أكثر وضوحاً. فالأرقام الواردة فيها ليست مؤشرات محاسبية، بل ترجمة دقيقة لتوازن صعب بين إدارة التحوّل وحماية مستوى المعيشة. فالإنفاق لم يعد قائماً على منطق «تغطية الاحتياجات»، بل على بناء منظومة تجعل المواطن قادراً على مواكبة التحوّل دون أن يشعر بأن وتيرته تتجاوز إمكاناته. وخطاب الأمير، في كل محطة مفصلية، يوضح أن التنمية ليست هدفاً بذاتها، بل وسيلة لرفاه الإنسان الذي يعيش داخل هذا الوطن.

ولذلك، لم تعد «أولوية المواطن» عبارة تُرفع في الخطاب العام، بل أصبحت حقيقة يمكن قراءة ملامحها في تفاصيل الميزانية: استمرار الإنفاق على الخدمات الأساسية، تحسين البنية التحتية للمدن، دعم جودة الحياة، حماية الفئات الأكثر تأثراً بالتحول، وتحويل الاستثمارات الكبرى إلى فرص مباشرة للمجتمع. هذه المؤشرات جميعها تعكس أن المجتمع ليس متلقياً للتحوّل، بل شريك في تشكيله.

وفي هذا السياق، يبرز التوجه نحو تطوير القطاعات المرتبطة بالصحة والتعليم والخدمات العامة باعتباره إعادة بناء للبنية التحتية للحياة اليومية، لا مجرد تحسين لوضع قائم. فالدولة لا تتعامل مع هذه القطاعات بوصفها مصروفات، بل بوصفها أساساً لقدرة الإنسان السعودي على النمو والتأقلم في اقتصاد سريع التحول. هذه المقاربة تختلف جذرياً عن منطق الموازنات التقليدية التي تفصل بين التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية.

كما أن التوسع في برامج جودة الحياة، بمختلف مساراتها، يشير بوضوح إلى أن الدولة تدرك أن الاستقرار الاجتماعي عنصر أساسي لنجاح أي تحوّل اقتصادي. فالمدينة الأكثر قابلية للعيش، والمجتمع الأكثر نشاطاً وثقافة، والبيئة الأكثر توازناً جميعها عوامل تبني الثقة، وتخلق حالة من الطمأنينة تُشجع الناس على التفاعل الإيجابي مع التغيير بدلاً من مقاومته.

أما من ناحية الإيرادات، فيكشف تنامي الاعتماد على مصادر غير نفطية عن تحول عميق في فلسفة إدارة الاقتصاد الوطني. فتنويع الدخل لم يعد خياراً مالياً بل أصبح جزءاً من حماية المجتمع من التقلبات العالمية، وضمان استدامة البرامج والخدمات التي يقوم عليها مستوى المعيشة. وهذا النهج يعكس رؤية قيادية تعتبر أن الاستقرار لا يتحقق بالأرقام وحدها، بل بنموذج اقتصادي مرن لا يهتز مع تغيّر الظروف.

هذا التوازن بين التحوّل والحماية لا يأتي من ردود أفعال قصيرة المدى، بل من رؤية واضحة ترفض التغيير المتسرّع كما ترفض الجمود. فالميزانية لا تقدم أرقاماً لاستعراض القوة، بل تُعيد تعريف دور الدولة: دولة تستثمر أكثر مما تصرف، تخطط أكثر مما ترتجل، وتضع المواطن في قلب كل مشروع، لا على هامشه.

ولعل سر الاطمئنان الذي يشعر به الناس اليوم هو أن القيادة، رغم قوة التحوّلات، لم تبتعد عن مبدأ مركزية المجتمع. ومن يتتبع الخطابات الرسمية سيجد خيطاً ثابتاً لا يتبدل: المواطن ليس عنصراً تجميلياً في رؤية 2030، بل مادتها الأساسية. وهذه الحقيقة هي ما يمنح ميزانية هذا العام لغتها المختلفة.. لغة دولة تغيّر اقتصادها دون أن تغيّر مكان الإنسان فيه.

منذ 7 ساعات

لا تظلموا أوراق التوت.. لقد سقطت ورقة الزقوم

لم يكن الإعلان الأخير لمنصة «إكس» عن تفعيل خاصية إظهار المواقع الجغرافية لحسابات المستخدمين مجرد تحديث تقني عابر؛ كان أشبه بإضاءة كاشفة على مساحة اعتاد كثيرون التخفّي فيها واستخدامها سلاحاً للغمز واللمز تجاه المملكة. وكان المتوقع بطبيعة سياق المنصات، أن تظهر بعض الحسابات المنتمية لبيئات لا تخفي عداوتها، أو تلك التي لا يُفاجأ أحد أن تخرج منها أصوات الحقد التقليدية. لكن المفاجأة لم تأتِ من الضفة المتوقعة، بل من مواقع يفترض منطق العلاقات الإنسانية والسياسية أنها الأقرب، ومن دول تُعد في الأصل دولاً صديقة تربطها بالمملكة مسارات تعاون طويلة؛ غير أن ما ظهر لم يكن موقفاً رسمياً قط، بل سلوك أفراد اختبرتهم المنصة فسقط ما كانوا يستترون به. وكان من الطبيعي، في أي بيئة تحترم قوانينها الداخلية، أن تُفعّل أدواتها القانونية تجاه من يسيء من داخل أراضيها تماماً كما تفعل المملكة مع أي مخالف، لكننا لا نعلم، ولا نزعم العلم، إن كانت تلك الأصوات قد خضعت لأي مساءلة بعد انكشاف مواقعها. ما نعلمه فقط أن القوانين حين تُحترم تضبط السلوك، وحين تتراخى، يتكفل الزمن بفضح من يسيء إليها قبل أن يسيء إلى غيره.

وما إن بدأت المؤشرات الجغرافية بالظهور حتى تكشّفت حقيقة لم يكن السعوديون غافلين عنها تماماً، بل كانوا يشعرون بها دون أن يملكوا دليلاً رقمياً مباشراً. هنا فقط، انتقل المشهد من حدس إلى يقين، ومن شكٍّ إلى مشاهدة، وظهر أن بعض الأصوات التي ملأت الفضاء ضجيجاً بمحتوى عدائي إنما جاءت من أماكن لا يشبه سلوك أصحابها ما يفترضه المنطق من وئامٍ واحترام متبادل.

ومن هنا بدأت مرحلة الانكشاف الحقيقي. فالعالم الرقمي لم يُظهر لنا مواقع الحسابات فقط، بل كشف ما هو أعمق: كشف النفوس. ومع تفعيل الميزة الجديدة، انفضح خطاب ظل طويلاً يحاول الاستتار خلف شعارات الانتماء المصطنع، واتضح أن ما كانت تخفيه تلك الحسابات لم يكن موقفاً سياسياً ولا رأياً حراً، بل شيئاً آخر تماماً... شيئاً يشبه سقوط الغطاء عن النيات حين تُختبر فجأة.

لم يكن السعوديون بحاجة لمن يخبرهم بهوية تلك الحسابات، فقد كانت لغتها كافية لفضحها منذ البداية. لكن المفاجأة كانت في المواقع التي خرجت منها هذه الأصوات، وهي مواقع لا يفترض منطقياً وأخلاقياً، أن تنطلق منها إساءات كهذه، لا بحكم القرب ولا التاريخ ولا المصالح المشتركة. ومع ذلك، فإن السعودية بما اعتادته من صراحة وثبات فرّقت كعادتها بين السلوك الفردي وبين المواقف الرسمية، وبين من يمثّل دولة وبين من لا يمثّل إلا نفسه وحدود وعيه.

السعودية لم تكن يوماً دولة تتدخل في شؤون الآخرين، وهذه قاعدة ذهبية راسخة منذ عهد الملك المؤسس. مبادئها واضحة: تحترم الجميع، وتطلب احتراماً مماثلاً، وتحاسب كل من يتجاوز لديها وفق القانون، سواء كان مواطناً أو مقيماً. وهذه السياسة لم تتغيّر، بل ازدادت رسوخاً اليوم. ولهذا، فإن ما ظهر من إساءات لا يمكن أن يُحمَّل على أي جهة رسمية أو كيان مؤسسي، بل يُحمَّل على أفراد اختبرتهم اللحظة الرقمية فسقط عنهم ما كانوا يستترون به.

والحقيقة أن ما سقط لم يكن ورقة توت، فالتوت يغطي سهو الجاهل إن زلّ زلة عابرة، أو يستر خطأً بشرياً يمكن تجاوزه. أما ما رأيناه، فلم يكن خطأً عابراً ولا زلة قلم، بل كان أشبه بسقوط ورقة زقوم؛ ورقة لا تستر جهلاً، بل تكشف خبثاً دفيناً، وتفضح ما في بعض النفوس من سوء متجذّر تجاه المملكة. لقد ظهر بوضوح أن ما كان يُغطّى بالادّعاء والانتحال لم يكن عيباً يُستَر، بل نية تُخفى، وأن انكشافها لم يكن على حساب السعودية، بل على حساب من حملوها.

وفي النهاية، يكفي أن ننظر إلى أين تقف السعودية اليوم، لنعرف أن كل هذا الصخب لا قيمة له. درعها سميك، وسورها عالٍ، وصوتها يصل أبعد مما يصل ضجيج الآخرين. والمنصات التي كشفت مواقع الحسابات، كشفت قبل ذلك شيئاً أهم: أن المملكة ثابتة، وأن غيرها هو من سقط.

00:26 | 28-11-2025

سر حبنا له واضح

لا يحتاج السعوديون إلى تفسير ليشرحوا علاقتهم بولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ فالحب الذي يتحدثون عنه ليس إحساساً عابراً أو انفعالاً مرتبطاً بلحظة، بل هو ولاء وشعور وطني تكوّن عبر سنوات من التحوّل الحقيقي والمجد الذي حققه الأمير الملهم ومرت به المملكة. قد يشدو أبو بكر سالم: في مقطع من أغنيته الشهيرة «سرّ حبي فيك غامض»، لكن حبّ السعوديين لولي العهد.. واضح، تماماً كما هو مشروعه، ووضوح رؤيته، وصدق مقصده.


وجاءت زيارة الأمير إلى واشنطن لتؤكد هذا المعنى. لم تكن زيارة بروتوكولية، فطريقة الاستقبال وما رافقها من حضور استثنائي عكسا مستوى من التقدير لم يُمنح لقائد دولة في السنوات الأخيرة داخل الولايات المتحدة. كانت لحظة بدت فيها السعودية بثقة دولة تعرف موقعها الجديد، ويظهر قائدها بثقة من يعرف أين يأخذ بلاده. وفي الصور التي انتشرت، التقط الناس ما هو أبعد من السياسة: طريقة وثبات الخطى بثقه الزعماء، هدوء الحركة، النظرة الثابتة، والابتسامة التي تأتي في موضعها. كانت تلك التفاصيل بمثابة لغة غير منطوقة، يشعر بها الناس لأنها تشبههم، وتمثلهم، وتختصر كثيراً مما يريدون قوله.


ومن بين التفاصيل التي شغلت السعوديين، تلك اللقطة التي ظهر فيها الأمير حاملاً فنجان قهوته، والثوب بأناقته المميزة، والانسجام بين المظهر والرسالة. لم يكن ذلك انشغالاً بالشكل، بل تعبير عن أن الأمير أعاد من دون تصريح أو ادعاء تعريف القدوة في الوعي السعودي الحديث؛ قدوة تُبنى على المعنى لا على المظهر. شباب يلتقطون الصور بالطريقة ذاتها، آخرون يستلهمون الألوان، وغيرهم يعيدون إنتاج اللحظة بإحساس فخر لا يحبّ التقليد بقدر ما يحب الاقتداء. وهذه القدوة ليست مظهرية، بل حالة رمزية تكتمل فيها عناصر الأصل والمهابة والقوة والأمانة.


ولعل سر هذا الحب أن الأمير منح المجتمع بأكمله ما كان يبحث عنه طويلاً: مستقبل يمكن الوثوق به. جعل تمكين المرأة واقعاً طبيعياً، وفتح الفرص للشباب حتى لم يعد الطموح موهبة فردية بل سمة وطنية. أعاد الاعتبار لكل ما هو سعودي في الصناعة والفن واللغة والمنتج حتى أصبحت عبارة «صُنع في السعودية» علامة ثقة لا شعاراً. ومع هذا التحول، نشأ شعور أعمق بأن السعودية أصبحت هي الأولوية في القرار، في الهوية، وفي نظرتها إلى ذاتها، وأن صورتها في الخارج باتت مرآة لطموحها لا لوزنها الاقتصادي فقط.


هذا الإحساس أن الدولة تريد أن تكون في المقدمة هو ما جعل العلاقة بين الناس وولي العهد مختلفة. فحين يرى الشباب أن قائداً بهذا الوضوح يراهن عليهم، ويفتح لهم أبواب الحلم بدل أبواب الانتظار، يصبح الارتباط به شعوراً طبيعياً. ليس حباً مبنياً على المديح، بل على معنى المشاركة: قائد يقود مشروعاً، وشعب يرى نفسه شريكاً فيه.


واللافت أن الأمير جمع معادلة كانت تبدو مستحيلة: هيبة الدولة في الخارج، وقرب القائد في الداخل. ليست هذه شعبوية، ولا «كاريزما اللحظة»، بل أسلوب قيادة جديد يليق بدولة فتية وواثقة. الهيبة التي يراها العالم اليوم ليست مصادفة، بل نتيجة ثقة داخلية بأن القائد يقف على قاعدة شعبية صلبة.


لذلك حين نسأل: لماذا حبنا له واضح؟


فالإجابة ليست في الخطابات، بل في الواقع. لأنه أحب السعودية بعمق، فأحبه الناس بصدق. لأنه قال الصراحة، فأعطوه الثقة. لأنه لم يقدم مشروعاً تنموياً فحسب، بل مشروعاً وطنياً يلامس أحلام المواطنين مباشرة.


بعد زيارة واشنطن، لا يسأل السعوديون «ماذا تحقق؟» بقدر ما يسألون بطموح: «إلى أين سنصل معه؟». والإجابة، كما يشعر بها كل سعودي، أن الطريق أصبح واضحاً.. تماماً كما هو حبّهم له.

19:43 | 24-11-2025

من يضمن بقاء الشركة عندما تتغيّر الأجيال؟

الشركات العائلية في السعودية ليست مجرد منشآت اقتصادية؛ إنها جزء من تاريخ الاقتصاد الوطني، وامتداد لجهد مؤسسين بنوا أسماءهم بحكمة التجربة وخبرة السنين. ورغم أن تأسيس الشركة قد يكون سهلاً على يد شخص واحد، إلا أن بقاءها لثلاثة أجيال متعاقبة هو المهمة الأصعب على الإطلاق. فالتحدي الحقيقي لا يبدأ عند التأسيس.. بل عند انتقال الملكية والإدارة من جيل إلى آخر.

وقد أصبح واضحاً خلال السنوات الأخيرة أن الشركات التي تبنّت الحوكمة بشكل مبكر نجحت في حماية نفسها من التقلبات، لأنها لم تترك قراراتها للمصادفات أو الارتجال، بل بنت أسساً واضحة تُنظم علاقة العائلة بالشركة، وتحدد من يملك ومن يدير، وكيف تُصنع القرارات.

وتبدأ هذه الأسس من خطوة جوهرية: فصل الملكية عن الإدارة. فوجود أبناء العائلة في المواقع التنفيذية ليس خطأ بحد ذاته، لكنه يصبح كذلك حين تُدار الشركة بمعيار القرابة لا بمعيار الأداء. ومن هنا، جاء الاتجاه نحو جعل مجلس الإدارة مركز القرار، وترك التشغيل للمهنيين، بحيث تكون القرارات محكومة بالخبرة وبنظام واضح، لا بالروابط العائلية. هذا الفصل لا ينتقص من دور العائلة، بل يحميها من أعباء التفاصيل اليومية، ويعطيها مساحة للرقابة والتوجيه بدلاً من الصدامات الداخلية التي تظهر عند غياب الحدود.

وتتسع هذه الحدود بوجود أعضاء مستقلين داخل مجلس الإدارة؛ أفراد لا يحملون إرثاً عائلياً ولا تحيّزاً تاريخياً، ويستطيعون تقييم القرارات بصفاء وموضوعية. حضور المستقلين في المجلس لا يُعد ترفاً تنظيمياً، بل هو أداة تضمن أن تكون القرارات مبنية على الوقائع لا على الانفعالات، وأن يكون المجلس قادراً على أخذ مواقف حازمة في الوقت الذي قد تتردد فيه العائلة بدافع العاطفة أو المجاملة. كثير من الشركات التي استعانت بمستقلين مبكراً وجدت أن القرارات أصبحت أكثر هدوءاً، وأكثر اتزاناً، وأقرب إلى لغة السوق الحديثة.

وفي المقابل، يظهر عنصر دقيق كثيراً ما يغيب عن النقاش: المركزية في اتخاذ القرار. فالمركزية التي كانت عنصر قوة في يد مؤسس الكيان التجاري بفضل قربه من السوق، وخبرته، وقدرته على الحسم لا تعمل بالطريقة نفسها حين تنتقل الإدارة إلى الجيل اللاحق. ومع توسّع الأعمال وازدياد التعقيد، تصبح الإدارة المعتمدة على الذاكرة أو على أسلوب المؤسس غير قادرة على مواكبة السرعة التي تتحرك بها السوق اليوم. وعندما يستمر الأبناء في تقليد النموذج القديم بدافع الوفاء لتجربة المؤسس، تتحوّل المركزية تدريجياً إلى إطار يحدّ من قدرة الشركة على التوسّع، ويؤخر قراراتها، ويجعلها أقل استجابة للتحوّلات. أما الشركات التي تتبنى آليات واضحة للتفويض وتوسيع الصلاحيات، فتكون أكثر قدرة على بناء إدارة تتناغم مع العصر دون أن تفقد روح العائلة.

ويأتي بعد ذلك دور لا يقل أهمية: الميثاق العائلي. فالعائلة التي تضع مبكراً قواعد انتقال الملكية، ومعايير دخول الأبناء، والضوابط المنظمة للعلاقة بين الشركة والورثة، تحمي نفسها من الكثير من التوتر المستقبلي. الميثاق ليس وثيقة عقابية ولا بروتوكولاً للتجميل؛ هو ببساطة اتفاق يحدد كيف تتصرف العائلة حين تختلف الآراء، وكيف تُدار الشركة عندما تتعدد الرغبات. وقد أثبتت التجربة أن الأسر التي أعدّت ميثاقاً مبكراً، حتى وإن كان مختصراً، استطاعت أن تمر بمرحلة التعاقب بأقل قدر من الاحتكاك وأكثر قدر من الوضوح.

وعند النظر إلى العائد الفعلي لهذه الممارسات، لا تعود الحوكمة مجرد إطار تنظيمي؛ بل تصبح وسيلة عملية لتحسين الوصول إلى التمويل، وجذب الشركاء، ورفع قيمة الشركة عند البيع أو التوسع. فالسوق اليوم تتعامل مع الشركات بقدر مستوى تنظيمها، وليس بقدر شهرة مؤسسها. وعندما تُربط القرارات بنظام واضح ومستقر، تستمر الأرباح حتى مع تغيّر القيادات، لأن الأداء لا يعود مرتهناً لشخص أو لأسلوب، بل لآلية عمل قابلة للبقاء.

والخلاصة أن مستقبل الشركات العائلية لا يُحمى بالنية الطيبة أو بتاريخ المؤسس مهما كان لامعاً. الاستمرارية الحقيقية تتطلب الانتقال من مرحلة «القرار الشخصي» إلى مرحلة «النظام المؤسسي».

الشركة التي تقوم على فرد.. تنتهي بانتهائه.

والشركة التي تقوم على نظام مؤسسي مرن.. تبقى مهما تغيّر الزمن وتغيّرت الأجيال.

00:04 | 21-11-2025

5 تحولات استراتيجية بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن

لم تكن زيارة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن حدثاً يمكن وضعه في خانة العلاقات الثنائية التقليدية؛ فقراءتها تأتي في لحظة دولية دقيقة، وتحت سقف بروتوكولي استثنائي يعكس أن العاصمة الأمريكية لا تستقبل ضيفاً مهماً فحسب، بل تستقبل دولة دخلت مرحلة إعادة تشكيل موقعها داخل النظام الدولي الجديد.


وفي الزيارات التي تتكلم فيها المراسم قبل الكلمات، يصبح التحليل الحقيقي هو قراءة ما تكشفه اللحظة من اتجاه استراتيجي لا يظهر في البيانات اللاحقة.


ولأن العلاقات بين الدول تُبنى على قواعد المصلحة لا المجاملات، جاءت هذه الزيارة كاشفة ومؤكدة لخمسة تحولات استراتيجية تُعيد تعريف موقع السعودية في العقد الدولي القادم، وتُظهر بوضوح، أن المملكة لم تعد تنتظر موقعها، بل تصنعه وفق رؤية متماسكة تقودها الدولة من أعلى مستوياتها.


التحول الأول: من شراكة أمنية إلى شراكة تقنية وصناعية:


تصدّرت ملفات الذكاء الاصطناعي، والصناعات المتقدمة، ومراكز البيانات، ومفاعلات الجيل الجديد جدول الزيارة بصورة لم تُطرح بهذا الاتساع في تاريخ العلاقة بين البلدين. فقد انتقلت السعودية من مرحلة استيراد التقنية إلى مرحلة إعادة إنتاجها وبنائها محلياً، في إطار يعزّز أمنها الرقمي والصناعي وقدرتها على التحكم في مفاصل اقتصاد المستقبل.


ومن زاوية المصلحة الوطنية، يوسّع هذا التحول قاعدة استقلالية القرار السعودي في ملفات التقنية والصناعة الحسّاسة، ويضع المملكة في موقع «المنتج المركزي للتقنية» لا «المستهلك الكبير لها».


ولعل انعقاد منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي مباشرة بعد الزيارة يؤكد أن الملفات التقنية والصناعية ليست عناوين ظرفية، بل مسار مؤسسي طويل المدى تُبنى عليه شراكات اقتصادية وتقنية أكثر عمقاً.


أما واشنطن، فترى في هذا الاتجاه شراكة تضمن لها توازناً استراتيجياً في سباق القوى الكبرى، خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتقدمة.


التحول الثاني: تقدّم الدور الإقليمي للسعودية.. شريك يصنع الاستقرار:


في الماضي القريب، كانت النظرة الأمريكية لعلاقاتها مع المملكة تقوم على فهم أمني أحادي الاتجاه. أما اليوم، فتتعامل واشنطن مع السعودية بوصفها ركيزة استقرار إقليمي لها دور مباشر في أمن الطاقة، والممرات البحرية، وتوازنات الخليج، وإدارة علاقات القوى الدولية في الشرق الأوسط.


هذا التحول يحمل وزناً قانونياً وسياسياً بالغ الأهمية؛ فالسعودية لم تعد طرفاً يحتاج ضمانات، بل دولة تنتج الاستقرار وتعيد تشكيل بيئتها الإقليمية عبر أدواتها ومبادراتها، وهو ما يعزز موقعها كمركز تفاوض وحضور مؤثر في القضايا الكبرى. ومن منظور المصلحة الوطنية، يمكّن هذا التقدم المملكة من حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية عبر أدواتها الذاتية، ويقلل من اعتمادها على أي ترتيبات خارجية منفردة.


التحول الثالث: تكريس الندية الاستراتيجية:


لم تكن الزيارة لقاء مطالب، بل جلسة لإعادة تعريف قواعد الشراكة. وهذه الندية ليست مواجهة، بل اعتراف بأن الرياض تمتلك من أدوات القوة الاقتصادية والسياسية ما يجعلها شريكاً يُعاد معه بناء المعادلة، لا تابعاً ينتظر دوره. وقد تجلّى هذا التحول في الطابع الودي والاستقبال الحار الذي شهده اللقاء، والذي حمل رسائل تتجاوز البروتوكول إلى مستوى يفيد بأن العلاقة تُدار باعتبارها شراكة ناضجة بين طرفين يدرك كل منهما وزن الآخر ودوره.


وفي جوهر هذه الندية بعدٌ قانوني مهم؛ فالتحالفات المتقدمة تقوم على «التزامات متبادلة» وإطار طويل المدى يحدد مسؤوليات الطرفين. وهذا ينسجم تماماً مع منهجية الدولة السعودية الحديثة في بناء علاقات تقوم على قواعد مؤسسية واضحة.


ومن زاوية المكاسب الاستراتيجية للمملكة، تضمن هذه الندية أن تكون المملكة شريكاً في صياغة الإطار الناظم للعلاقة الاستراتيجية، لا مجرد طرف يتأثر بتقلّبات المشهد الدولي.


التحول الرابع: التموضع السعودي كعقدة اقتصادية عالمية:


لم يعد الاقتصاد السعودي مجرد قوة إقليمية، بل مركز ثقل دولي يتحرك عبر المشاريع العملاقة، والاستثمارات العابرة للقارات، وملفات الطاقة النظيفة والهيدروجين والمعادن الاستراتيجية والتمويل العالمي.


وقد تجلّى هذا التحول في النقاش الذي دار داخل المكتب البيضاوي، حيث لم يكن الحوار بين الرياض وواشنطن حوار دولة منتجة مع دولة مستهلكة، بل حوار قوتين اقتصاديتين ترسمان اتجاه الاقتصاد العالمي لعقود قادمة. كما ظهر بوضوح في إعلان رفع حجم الاستثمارات المشتركة إلى تريليون دولار، وهو رقم يعكس ليس فقط عمق المصالح المشتركة، بل حجم الثقة في مستقبل الاقتصاد السعودي-الأمريكي، ودور المملكة في إعادة تشكيل خرائط الاقتصاد الدولي.


وقد أوضح الأمير محمد بن سلمان أمام القيادة الأمريكية أن هذه الخطوة تنطلق من مبدأ المصلحة الوطنية العليا، لا بوصفها مجاملة سياسية لأي شخص أو جهة، بل باعتبارها استثماراً في مستقبل اقتصادي ترى المملكة أنه يخدم موقعها ومصالحها ودورها العالمي.


وعلى صعيد النفوذ الاقتصادي للمملكة، تُعزز هذه الاستثمارات مكانتها داخل سلاسل الإمداد العالمية، وتمنحها وزناً تفاوضياً أعلى في الملفات الاقتصادية الدولية.


التحول الخامس: تشكُل إطار دولي جديد يربط الخليج بالقوى الكبرى:


في الإطار الدولي الأوسع، يتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب؛ تصعد فيه الصين والهند، وتتبدل فيه أدوار أوروبا، وتبحث فيه الولايات المتحدة عن شراكات مستقرة. وفي خضم هذا التحول، تتحرك السعودية بثبات على قاعدة مصالحها الوطنية، وتستخدم وزنها السياسي والاقتصادي لإعادة تشكيل شبكة علاقاتها الدولية، بحيث يصبح الخليج جزءاً من الهندسة الكبرى للنظام الدولي لا من هوامشه.


ومما يعزز هذا الاتجاه، إعلان الرئيس الأمريكي عن تصنيف السعودية «حليفاً رئيسياً خارج الناتو» ليعزز هذا الاتجاه، باعتباره خطوة تعكس وزن المملكة في منظومة الأمن الدولي، وترسّخ موقعها كشريك يُبنى عليه في الترتيبات الاستراتيجية للمنطقة.


وفي قلب هذا التحول، أثبت الأمير محمد بن سلمان، مجدداً، قدرة الدولة السعودية على توجيه مسارات السياسة الدولية بثقة واتزان، وبمقاربة تستند إلى المصلحة والقدرة على التأثير لا إلى ردّ الفعل؛ وهو ما يجعل زيارة واشنطن حلقة ضمن تصميم استراتيجي أوسع لموقع المملكة خلال المرحلة المقبلة، لا مجرد محطة ثنائية عابرة. وقد جاءت الزيارة كخطوة عملية في هذا المسار، إذ رفعت مستوى التنسيق السياسي والاقتصادي مع واشنطن، ورسّخت حضور المملكة في النقاشات المرتبطة بإعادة تشكيل الترتيبات الإقليمية والدولية.


وعوداً إلى بدء، فإن القراءة المتأنية لمسار الزيارة تُظهر بجلاء تجاوزها إطار العلاقات الثنائية إلى ما هو أبعد، حيث إن دلالات ما جرى في واشنطن لا تتوقف عند ما أُعلن من اتفاقيات، بل تمتد إلى ما أثبتته من أن السعودية أصبحت لاعباً يصنع توازناته، لا مجرد متأثر بها.


وتكشف هذه النظرة الشاملة أن العلاقة مع واشنطن تدخل مرحلة تُبنى فيها القرارات على موازين مصالح واضحة، ورؤية استراتيجية تقودها الدولة بثبات، وتستند إلى بناء القدرات الذاتية وتنويع الشراكات وصياغة الأطر التي تحفظ مكانة المملكة في عالم سريع التحوّل.

00:04 | 20-11-2025

واشنطن حين ترفع السقف.. قراءة في توقيت الزيارة ومعطياتها السياسية

قبل أيام من زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في الثامن عشر من نوفمبر، أصدر البيت الأبيض بياناً لم يزد في كلماته، لكنه زاد في دلالاته. فالإعلان أشار بوضوح إلى أن برنامج الزيارة يتضمن عشاءً رئاسياً رسمياً من فئة الـBlack-Tie؛ وهو نمطٌ بروتوكولي لا يُستخدم في العاصمة الأمريكية إلا في المناسبات التي ترغب فيها الإدارة في إرسال رسالة سياسية من خلال الشكل قبل المضمون. فهذا النوع من الاستقبالات ليس طقساً احتفالياً، بل إشارة تُفهم ضمن سياقها، وتتحرّك عادةً في طبقات السياسة لا في قاعات الضيافة.

وما يزيد من دلالة هذا الترتيب أن البيت الأبيض لم يلجأ خلال ما يقارب العقدين الماضيين إلى تنظيم فعالية من هذا الوزن لزعيم قادم من المنطقة، إذ تعود آخر مرة جرى فيها استقبال رسمي مماثل إلى عام 2005، وفي ظروف سياسية دولية مختلفة تماماً. ومنذ ذلك التاريخ، ظل هذا النوع من المراسم محصوراً في نطاق ضيّق للغاية، الأمر الذي يجعل الإشارة اليوم أكثر وضوحاً دون حاجة إلى مقارنات أو إسقاطات على أن زيارة ولي العهد تُعامل في واشنطن بوصفها حدثاً سياسياً مهماً قائماً بذاته.

وليس سراً أن واشنطن لا ترفع مستوى الشكل إلا عندما ترى أن التوقيت جزء من الرسالة. والمنطقة اليوم تمرّ بلحظة تتبدّل فيها خرائط النفوذ، وتُعاد فيها صياغة مراكز الثقل، وتتحوّل فيها بعض الدول إلى قواعد ارتكاز في الاستقرار الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، تبدو السعودية كما تراها المؤسسات الأمريكية دولة خرجت من نطاق «التأثير الإقليمي» إلى نطاقٍ أوسع، تدفع عبره مسارات الاقتصاد والطاقة والاستثمار والتقنية، وتعيد عبره تنظيم علاقاتها وشراكاتها بطريقة تؤثر في المشهد الكلي على مستوى أعمق مما كان عليه في السابق.

أما شخصية الضيف، فهي عنصر أساسي في قراءة الزيارة. فالأمير محمد بن سلمان بات حاضراً في الملفات التي تُشكّل الاهتمامات الأساسية لواشنطن: مستقبل الطاقة، الاستثمارات العابرة للقارات، إعادة صياغة الاقتصاد الإقليمي، العلاقات مع القوى الكبرى، وتوازنات الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الاضطراب. ومن الطبيعي بل من البديهي في لغة الدول أن ينعكس هذا الوزن على شكل الاستقبال. فالبروتوكول في البيت الأبيض لا يُرفع للزينة، بل يُرفع حين يُراد تثبيت معيار أعلى لطبيعة العلاقة، أو فتح فصل جديد في مسار الشراكة.

اللافت أن الإعلان الأمريكي جاء خالياً من التفصيل، وهو خلوّ مقصود. فواشنطن تعرف أن الإشارة تكفي، وأن الشكل وحده يُرسل ما لا يحتاج إلى شرح. وفي تقاليدها، يبدأ تفسير الزيارة من الباب الذي يدخل منه الضيف، ومن طبيعة المناسبة التي تُنظم على شرفه، ومن كيفية ترتيب الجدول في الأيام التي تليها. وهذه كلها عناصر تشير إلى أن الزيارة ليست بروتوكولاً متقدّماً، بل محطة سياسية تُبنى عليها ملفات أكبر.

ومن الواضح أن العاصمة الأمريكية اختارت أن تُظهر هذا الرفع في الشكل في لحظة تريد فيها أن تبعث برسالة مزدوجة: رسالة للداخل الأمريكي بأن العلاقة مع الرياض تستعاد بمستوى أعلى، ورسالة للمنطقة بأن واشنطن تقرأ التحولات الجارية بجدية، وترى في السعودية شريكاً يُعاد بناء السياسة من خلاله، لا مجرد طرف في معادلات الأمس.

وعليه، فإن أهمية الزيارة لا تكمن فقط في اللقاءات الثنائية أو التصريحات اللاحقة، بل تكمن أولاً في الطريقة التي صيغ بها الاستقبال. فالبيت الأبيض لا يرفع السقف عبثاً، ولا يعدّل مراسمه دون قصد، ولا يدخل في نطاق الـBlack-Tie إلا عندما يرى أن الحدث سيكون له أثر يُقاس بما بعده لا بما يسبقه. وما جرى الإعلان عنه في هذه الزيارة يوحي بأن واشنطن تقرأ لحظة سياسية مختلفة، وتتعامل معها بأدوات تُشبهها في مستوى الشكل وفي مستوى المضمون.

ما بعد الثامن عشر من نوفمبر لن يكون كما قبله. فالصياغة التي بدأت بها الزيارة صامتة في نصها، عالية في دلالتها تكشف أن العلاقة السعودية الأمريكية تُعاد هندستها من مستوى أعلى، وأن السقف الذي اختارت واشنطن أن ترفعه اليوم ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل مفتاح لفصل جديد من قراءة السياسة، تُكتب فيه الشراكات بقدر ما تُقرأ فيه المراسم.

00:12 | 14-11-2025

حين يتكلم الواقع.. تسقط نظريات التشكيك

في زمن تتسارع فيه التحوّلات، وتُختبر فيه القرارات بالنتائج لا بالوعود، يبقى الواقع هو المعيار الوحيد للحكم على جدوى المسار. لم تعد الدول تُقاس بما يُقال عنها، بل بما تُنجزه فعلاً على الأرض؛ بالأثر الذي يمكن رصده، لا بالتصريحات التي يمكن تكرارها. والمملكة اليوم تقدّم نموذجاً واضحاً لدولة اختارت أن تجعل من التنمية مشروعاً قابلاً للقياس والمراجعة، لا موضوعاً للجدل والإنكار. فمن يتابع المشهد بعين مهنية، لا بعاطفة أو ضجيج، يدرك أن التحول الجاري ليس حدثاً عابراً، بل انتقال من مرحلة التوقع إلى مرحلة البرهان.


ولا يحتاج الأمر إلى شروحات مطولة أو مقالات تفسيرية، فالمشهد أوضح من أن يُشرح. يكفي أن تُفتح صور الأقمار الصناعية لتُرى خريطة التغيير وهي تُعيد رسم العاصمة بمشروعاتها الكبرى: حديقة الملك سلمان، وبوابة الدرعية، وروشن، والمربع الجديد، ومدينة محمد بن سلمان غير الربحية؛ ثم تمتد الصورة غرباً نحو القدية والبحر الأحمر وآمالا وسندالة، وشمالاً حيث تتشكّل ملامح نيوم كمدينةٍ تتجاوز المفهوم التقليدي للعمران. تلك المشروعات ليست عناوين صحفية، بل شواهد ماثلة تقول بلغة واحدة إن ما كان يُسمّى حلماً أصبح واقعاً يُرى قبل أن يُروى. فالتنمية هنا لم تعد فكرةً على الورق، بل مشهد مرئي يمكن رصده من الفضاء قبل أن يُقرأ في التقارير.


منذ إطلاق رؤية 2030، كان الهدف الأوضح هو بناء اقتصاد متنوع يقوم على الكفاءة لا على الاعتماد. وفي أقل من عقد، تغيّر هيكل الاقتصاد الوطني بصورة غير مسبوقة: ارتفعت الإيرادات غير النفطية من 163 مليار ريال إلى أكثر من 411 مليار ريال، ونما الناتج المحلي غير النفطي بنسبة تجاوزت 5.8% في الربع الثاني من عام 2023، وتجاوز الناتج المحلي الإجمالي حاجز التريليون دولار لأول مرة في التاريخ السعودي. ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن يصل إلى 1.3 تريليون دولار بحلول عام 2028. هذه مؤشرات لا تصنعها المجاملة، بل تُثبتها التقارير الدولية التي تتابع التجربة السعودية بوصفها واحدة من أسرع عمليات التحوّل الاقتصادي في المنطقة.


وعلى المستوى الاجتماعي، تحققت تحولات نوعية في بنية المجتمع ذاته: ارتفعت مشاركة المرأة في القوى العاملة إلى 36% متجاوزة مستهدف عام 2030 بسبع سنوات كاملة، وارتفعت نسبة تملّك المساكن إلى 67%، في طريقها نحو الهدف البالغ 70%. وهي أرقام تعكس أن التحوّل ليس مالياً فقط، بل مجتمعي شامل، يطال طريقة الحياة نفسها، ويعيد تعريف علاقة المواطن بالدولة عبر جودة الحياة وفرص العمل ومفهوم الشراكة الاقتصادية.


وفي فلسفة الرؤية، لم يكن المطلوب أن تُقدّس المشاريع أو تُحصن من النقد، بل أن تُدار بالمراجعة والتصحيح المستمر. فالدولة التي تراجع مسارها لا تُضعف نفسها، بل تُثبت نضجها. ولهذا كان الموقف واضحاً: النقد الموضوعي مرحّب به متى استند إلى حقائق، أما التشكيك المتكرر بلا معرفة فليس رأياً بل عجز عن قراءة الواقع. فالرؤية بطبيعتها مشروع حيّ، يتطوّر مع الزمن، ويتسع لتصحيح نفسه كلما اقتضت التجربة، لأن غايتها ليست الكمال، بل الاستمرار في التحسّن.


وفي عمق هذا التحوّل، يقف قائد الرؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بعقليةٍ تُدير التغيير لا تكتفي بالتخطيط له. فهو لا يتحدث عن الطموح بقدر ما يُمارسه؛ يعمل في صمت منظم، ويُخضع الحلم لمقاييس التنفيذ، ويقود منظومةً تُفكّر كما يفكّر هو: بلا حدودٍ مسبقة لما هو ممكن. وفي وقت تتجنب فيه القيادات حول العالم اتخاذ قراراتٍ كبرى خشية الكلفة السياسية، مضى صاحب الرؤية الذي أعاد تعريف الممكن، ليصنع معادلةً جديدة عنوانها: الجرأة المدروسة. ولعلّ أعظم ما يميّز هذا القائد أنه لا يطلب التصفيق، بل النتائج، مؤمناً بأن المشروع الحقيقي لا يُقاس بالكلام، بل بالقدرة على تحويل الصمت إلى إنجاز.


وقد تجاوزت الشهادة المحلية حدود الداخل؛ فصندوق النقد الدولي أقرّ بأن المملكة تقود أسرع عملية تنويع اقتصادي في الشرق الأوسط، والبنك الدولي صنّفها ضمن الاقتصادات الأكثر كفاءة في استثمار مواردها وتحقيق الاستقرار المالي، فيما وصفت تقارير أوروبية التحول السعودي بأنه «التحول الهيكلي الأكثر جرأة على مستوى العالم». هذه ليست عبارات مجاملة، بل تقييمات موثقة تُبنى على نتائج ومؤشرات، لا على الانطباعات.


إن ما يجري اليوم في المملكة ليس تراكماً في المشروعات فقط، بل في منهج الإدارة ذاته. فالمؤسسات تُبنى على قياس الأداء، والقرارات تُراجع بمؤشراتٍ معلنة، والنتائج تُعرض بشفافية أمام العالم. وهذا ما يجعل «الواقع» ذاته المتحدث الرسمي الأصدق للدولة الحديثة. فلم تعد هناك حاجةٌ إلى الرد على كل رأي سلبي، لأن الرد أصبح يُرى ويُقاس ويُوثق. وحين يتكلم الواقع، تتراجع النظريات القديمة، وتسقط معها أدوات التشكيك، لأن الحقيقة لم تعد وجهة نظر.


المشاريع التي تُقام اليوم ليست مباني فحسب، بل رموز لمرحلة جديدة من الوعي الوطني، حيث صارت التنمية جزءاً من الهوية، والإنجاز لغةً رسمية للدولة. ومن يشكّك في هذا التحول، يكفيه أن ينظر إلى ما تصوّره الأقمار الصناعية قبل خمس سنوات وما تُظهره اليوم، ليدرك أن المسافة بين الحلم والواقع لا تُقاس بالمسافات، بل بالإرادة.


وحين يتكلم الواقع.. تسقط نظريات التشكيك، لأن المملكة ببساطة لم تعد تُقاس بالقول، بل تُحترم بالنتائج.

00:05 | 12-11-2025

ما بعد التحالف التقليدي: الزيارة التي تعيد صياغة التوازن

لا تحمل زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن هذا الشهر طابع البروتوكول، بقدر ما تعبّر عن لحظة مراجعة استراتيجية في شكل العلاقات بين البلدين. فالمملكة التي كانت تُرى لعقود كحليف يعتمد عليه، أصبحت اليوم مركز ثقل يُعاد عبره تعريف موازين الاستقرار في المنطقة والعالم.

منذ زيارة ولي العهد الأولى عام 2018 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تغيّر العالم، وتغيّرت معه المعادلة السعودية. فبينما تتسارع التحوّلات في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي والتقنية الدفاعية، أعادت المملكة صياغة علاقتها بواشنطن على قاعدة «المصالح المتوازنة» لا «التحالفات الثابتة». لم تعد الرياض تنتظر إشارات الخارج لتتحرك، بل أصبحت هي من يُعاد حساب خطواته في مراكز القرار الدولي.

الولايات المتحدة، من جهتها، تدرك أن الزمن الذي كانت فيه تحدد اتجاه المنطقة قد انتهى. فالدور السعودي اليوم لا يُقاس بقدرته على الاستجابة، بل بقدرته على المبادرة: في تهدئة النزاعات، وفي قيادة ملفات الاقتصاد والطاقة، وفي رسم علاقة جديدة بين الشرق والغرب قوامها الاحترام والمصالح المتبادلة.

ومن المؤشرات اللافتة التي تسبق الزيارة، التقدّم في المباحثات بين الرياض وواشنطن بشأن صفقة مقاتلات (F-35) التي تُعد من أكثر الأنظمة الجوية تقدمًا في العالم. هذا التطور لا يُقرأ كصفقة تسليح فحسب، بل كتحوّل نوعي في بنية التحالف ذاته، إذ يعكس إدراك واشنطن أن الشريك السعودي لم يعد تابعاً في منظومة الأمن، بل شريكاً في تطوير أدواتها ورسم موازينها.

فالمملكة التي ربطت تطلعاتها الدفاعية برؤية 2030 تسعى إلى الاكتفاء الذاتي في التصنيع العسكري، وإلى أن تتحول من مستورد للسلاح إلى شريك في هندسة معادلات الردع الإقليمي.

الزيارة المقبلة، إذن، لا تُقرأ في سياق الملفات الثنائية فقط، بل في إطارٍ أوسع عنوانه: إعادة ضبط النظام الإقليمي. فمن فلسطين إلى البحر الأحمر، ومن أمن الطاقة إلى سباق التكنولوجيا، تقف المملكة في موقع من يقود لا من يتابع. ومن هنا تأتي أهميتها بالنسبة لواشنطن التي تبحث اليوم عن شريك يملك القرار والاتزان، لا مجرد حليف يحتاج إلى الضمان.

ومن خلال هذه الملفات المتعددة السياسية والدفاعية والتقنية، تتضح ملامح مرحلة جديدة في العلاقة السعودية-الأمريكية: مرحلة تنتقل فيها الشراكة من «حماية المصالح المشتركة» إلى «صناعة المستقبل المشترك». مرحلة تُدرك فيها واشنطن أن الرياض لم تعد «صوتاً إقليمياً» فحسب، بل «معادلة عالمية» تُحسب حسابها عند كل قرار دولي.

00:16 | 7-11-2025

من الملك المؤسس إلى ولي العهد.. الدولة التي تؤمن بشعبها

ليست العلاقة بين القيادة والشعب في المملكة علاقة مجاملة أو تزيين خطابي؛ بل هي عقيدة حكم تأسس عليها الكيان منذ عهد المغفور له الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حين قال عبارته الخالدة: «إن خدمة الشعب واجبة علينا، لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم شعبه بعينيه وقلبه ناقص». هذه الجملة التي تبدو بسيطة في ظاهرها، هي في حقيقتها وثيقة تأسيس مبكرة تضع الشعب في قلب الدولة، وتجعل من خدمته معياراً للشرعية والكرامة القيادية.


في مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، حين قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن «رهاني في سورية هو على شعبي»، لم تكن تلك العبارة لتثير تصفيق ولي العهد لو لم تلامس في داخله جوهر ما يؤمن به. كان تصفيق الأمير محمد بن سلمان تعبيراً عن التقاء فكرتين: أن الشعب هو الأصل، وأن أي مشروع نهضوي لا يكتمل إلا بفاعلية الإنسان الذي يصنعه. لم يكن التصفيق سياسياً، بل كان إنسانياً، وامتداداً طبيعياً لفكر مؤسس الدولة الذي قال إن خدمة الشعب واجبة على القيادة، وإن من يقصر في حقه يَفقِد من كمال مسؤوليته. فالمشهد بكل رمزيته لم يكن تقاطعاً بين موقفين، بل تواصل بين جيلين من القيادات العربية في الإيمان بأن الشعوب هي القوة الحقيقية لكل نهوض.


في الفقه الدستوري الحديث، يُعدّ مفهوم «المصلحة العامة» (Public Interest) حجر الأساس لأي نظام رشيد، لكن السعودية كانت تطبقه قبل أن تدونه؛ فالقيادة السعودية، منذ تأسيسها، جعلت خدمة المواطن واجباً لا منّة، ومسؤولية لا شعاراً، حتى أصبحت «خدمة الشعب» نهج دولة راسخ لا توجه عابر. ومن هنا يتضح أن المملكة ليست في سباق مع الزمن بقدر ما هي في تجديد دائم لمعناها المؤسسي، إذ تعيد تعريف دورها في كل مرحلة من خلال علاقتها بشعبها لا من خلال صورتها لدى الآخرين.


ولي العهد اليوم يجسد تلك العقيدة بروح معاصرة. فعندما يقول: «أنا أعمل لهذا الشعب، وشعبي شعب طويق، لا يرضى إلا بالقمة»، فإنه لا يكرر خطاباً وطنياً، بل يعيد تعريف القيادة في زمن الدولة الحديثة؛ أن القيادة ليست سلطة فوقية، بل تحفيز متبادل بين القائد وشعبه. ومن هنا تتبلور فكرة «التمكين المتبادل» التي أصبحت عنواناً للعصر السعودي الجديد، حيث يتحرك القائد والمجتمع في اتجاه واحد نحو الرؤية ذاتها.


منذ قرن مضى، وضع الملك عبدالعزيز أساس الدولة قائلاً: «إن خدمة الشعب واجبة علينا». واليوم، يؤكد ولي العهد هذا المعنى بتصرفاته لا بكلماته، حين صفّق احتراماً لشعب آمن بأنه مصدر النهوض والكرامة. وبين الكلمتين ـ الأولى في التأسيس، والثانية في الحاضرـ تتجسد هوية المملكة: دولة تُبنى بالشعب، وتزدهر من أجله، وتستمد قوتها من إيمانه بها.

18:37 | 30-10-2025

حين يختلط التطوير بالتحايل.. من يحمي المستثمر؟

في كل دورة من دورات السوق العقاري، تعود بعض الممارسات القديمة بثوب جديد. مشاريع تحمل أسماء براقة ووعوداً ضخمة بالعائد، لكنها في جوهرها ليست إلا جمعاً للأموال دون ترخيص أو حساب ضمان أو إفصاحاً حقيقياً. تغيرت الشعارات، لكن المضمون واحد: استغلال الثقة والطموح العقاري لتحقيق مكاسب على حساب وعي المستثمر البسيط.


ما يجري اليوم تحت مسمى «التطوير العقاري» يستدعي وقفة جادة. فبعض الشركات تُمارس أعمالاً أقرب إلى جمع المساهمات دون أن تدخل تحت المظلة النظامية التي حددها نظام المساهمات العقارية. النظام واضح في اشتراط الترخيص المسبق، وفتح حساب ضمان بنكي، وتعيين مشرف معتمد من الهيئة العامة للعقار، وتقديم إفصاحات مالية دورية. وكل من يتجاوز هذه المنظومة لا يُعد مطوراً، بل مخالفاً يعرض نفسه والآخرين للمساءلة.


وجاء تحرك الهيئة العامة للعقار مؤخراً بإحالة عدد من الحالات إلى الجهات المختصة ليؤكد أن زمن التساهل قد انتهى، وأن جمع الأموال خارج الأطر النظامية لم يعد يمر دون مساءلة، في خطوة تُترجم إرادة الدولة في ضبط القطاع وحماية السوق من الممارسات العشوائية.


ورغم وضوح الأنظمة، ما زالت بعض الإعلانات تُغري الناس بعوائد خيالية، ومواقع «قيد التطوير» لم تُصدر لها أي تراخيص. وقد يظن البعض أن المخالفة شكلية، لكنها في الواقع بوابة إلى خسائر كبيرة، لأن أي مشروع بلا حساب ضمان رسمي أو إشراف من جهة مرخصة يعني ببساطة أن أموال المساهمين خرجت من المظلة القانونية. وهنا تتضح أهمية الوعي الاستثماري بوصفه شريكاً للنظام لا بديلاً عنه.


الحماية الحقيقية لا تبدأ من الجهات الرقابية فقط، بل من وعي المستثمر نفسه. حين تُعرض عليك فرصة عقارية، اسأل عن رقم الترخيص، واطلب الاطلاع على مستند فتح حساب الضمان، وتأكد أن التحويل البنكي يتم باسم المشروع لا باسم شخص أو شركة غير مرخصة. لا توقّع ولا تدفع قبل أن ترى الوثيقة النظامية التي تربطك بالمشروع. فكل عقد واضح يحميك، وكل غموض هو إنذار مبكر.


الهيئة العامة للعقار بخطواتها الأخيرة أثبتت أنها تتحرك بحزم؛ إذ أحالت حالات عدة للنيابة العامة بعد ثبوت جمع أموال بطرق غير نظامية. لكنها لا يمكن أن تلاحق كل إعلان أو كل وعودٍ عبر المنصات، ما لم يتحرك وعي السوق. فالمسؤولية هنا مشتركة: جهة تنظم، ومستثمر يتحقق، وسوق يبني ثقته من خلال الشفافية لا الوعود.


والحل المستقبلي يكمن في أداة بسيطة وفعّالة: منصة تحقق وطنية تتيح لأي شخص إدخال اسم المشروع أو الشركة فيظهر له فوراً مدى نظاميته، ورقم الترخيص، وبيانات حساب الضمان، واسم الجهة المشرفة. حينها فقط تتحول الثقة من عاطفة إلى نظام.


إن أخطر ما يواجه سوق العقار اليوم ليس قلة المشاريع، بل كثرة الطامحين الذين يختبئون خلف شعار «التطوير العقاري» دون أن يدركوا أن التطوير لا يكون إلا بالترخيص والحوكمة والالتزام. وحين يختلط التطوير بالتحايل، تصبح الحماية مسؤولية الجميع: الدولة التي تنظم، والمستثمر الذي يتحقق، والإعلام الذي يذكر بأن المال بلا نظام هو أول طريق الخسارة.

01:19 | 29-10-2025