-A +A
ريم بنت عبدالخالق
رغم عشقي للسفر بكل طقوسه بدءاً من حيرة اختيار الوجهة ومواعيد رحلات الطيران وحجوزات السكن والحماسة الطفولية التي تصاحب ترتيب الحقائب في كل الرحلات الاختيارية، وحتى بعدما فقدتُ رفاهية الاختيار وأصبح السفر ملزماً بحكم واجبي تجاه تنقلات عمل زوجي ودراسة أبنائي الجامعية، ولما سلمَت الحماسة مكانها للصبر، وثقل وقع خطواتي في صالات المطارات بعدما كانت لسرعتها تكاد تسابق وقع ضربات قلبي في صباي حتى لكأنها تريد أن تطير بي إلى وجهتي قبل أن أتخذ مقعدي على الرحلة.. أصبحت الآن ألصق أنفي وجبيني بزجاج نافذة الطائرة في لحظات إقلاعها من الوطن أو هبوطها فيه بعدما كنت أفعل ذلك فيما مضى فقط حين أصل إلى وجهتي في الخارج أو أغادرها.

وكلما عبر بي الزمن إلى محطة جديدة تكبر بداخلي مساحات الحنين، فأصبحت أعود لتفاصيل العمر الذي قضيته داخل الوطن حين أتجول في شوارع المدن الأخرى وشواطئها، وفِي كل نجمة أسامرها في غربتي، وفِي رائحة العشب المبتل ولفحة شمس الصيف ورعشات البرد وأنا أتمشى على الأرصفة في الشتاء، ورغم زحام الوجوه والأجساد وصخب الأحاديث والموسيقى وصوت الخطوات أشعر بالرغبة في أن أغمض عيناي لثوانٍ أسافر فيها لمكان نشأتي وكأنما أهرب من التمدن والأضواء إلى شمعة بدائية مخفية بداخلي أتراقص مع تراقص فتيلها المشتعل فيدفأ قلبي.


ولم أَجِد في بقاع الأرض مدينة لها روحك يا جدة..

لا شواطئ - مهما بلغت فتنة رمالها وبياضها - تعوضني عن موجة واحدة تغمر أقدامي وهي مغروسة في رمالك.

وأينما حططتُ رحالي لم تغرني المدن بترفها أو تزحزح حنيني إليكِ، مهما بارتكِ في روعة طرقاتها ومبانيها وسواحلها ومقاهيها، فالفرق بينك وبين باقي المدن كالفرق بين نساء متوحشات الجمال وامرأة حنونة تجد في حضنها رائحة دهن الورد في شماغ أبيك والعطر الذي تشمه في رداء الصلاة الخاص بأمك، وتجد في عينيها سكينة عيني جدتك حين تسلم من صلاة الفجر.

جدة.. اللفة على الكورنيش أيام الغيم بعد المدرسة والآيسكريم أبو ريال.

جدة.. شطائر الكبدة بعد الفجر وأكواب البليلة بعد المغرب.

جدة.. البلد والكندرة وشارع قابل وبيوته التي تختفي خلف دهانات زاهية جديدة لتذكرك بأن تقاوم لتبقى، وعناقيد النور التي تعلو أزقتها وكأنها هامات ذهب على رؤوس فتيات أصيلات الملامح.

جدة التي رغم اختلاف لهجات أهلها إلا أنها لا تنطق إلا بلغة الجمال فتحتار أيهما أبهى؟!. مبانيها القديمة في وسط البلد؟!.. أم روعة المعمار في بيوتها الحديثة التي يتبارى ساكنوها في تفرد واجهاتها وتصاميمها ؟!.. فكأن لكل بناية ختماً يميزها في ذاكرتنا حتى أصبحنا حين نتجول في طرقاتها نعرف موقعنا حينما نمر بجانب هذا المنزل المميز أو ذاك.

جدة.. فرحة المراجيح على البحر وفِي الحدائق ورائحة صدأ الحديد في كفوفنا والتراب الذي يملأ أحذيتنا وقد أنهكتنا السعادة.

جدة.. مهد التمدن ومجمع الأدب والفن الحديث ورائدة التمرد الخجول على قوالب النمطية..

جدة.. النسمة التي تلمس وجوه زائري الكورنيش وحين ترى ابتسامتهم تعود للبحر فتنادي أخواتها ليتقاسمن هذا الرضا معها.

جدة.. الشمس التي تنزف دماءها وهي تقاوم الغروب لتبقى مطلة على أرضها وبحرها.

جدة.. العروس التي تزينت بأندر الجواهر وأثمنها، وجمعت نسيج ثوبها من كافة أقطار الأرض ليصبح تصميمه فريداً فأهلها خليط من البشر من مئات الجنسيات، يتعايشون معاً في انسجام ومحبة واحترام وتقبُّل، حتى لقد أصبح تأثير ثقافات سكانها بعضهم على الآخر مثيراً للإعجاب.

وفِي جدة تأكل ما لذ وطاب من أطباق الشعوب بأيدي أبناء هذه الشعوب أنفسهم في بيوتهم وفِي مطاعمهم.

وفِي جدة قد تحضر أكثر من مناسبة زفاف في أسبوع واحد فتعيش في كل مرة طقوساً مختلفة وزفّات مختلفة وأهازيج بموسيقى وآلات تختلف تماماً من مناسبة لأخرى فتجدك في أسبوع واحد تشارك أهلها العرضة والخطوة والمزمار وغيرها، وتفكر في عزوبيتك وتردد «يالله على بابك.. يا كريم».

وكلهم هذا صاحب وهذا جار وهذا زميل دراسة وهذا زميل عمل متعايشون في عفوية وبساطة وود.

وأعلم أن مقالي هذا ربما يستفز المنتقدين ويوقظ حس التهكم لديهم فيشيرون بأصابع نقدهم بلا رحمة إلى عيوب هذه المدينة ولكن «عين الرضا عن كل عيبٍ كليلة»، وأنا وصلت من الرضا عن هذه المدينة أنه لم يعد يغريني سواها من فاتنات الأرض مهما بلغن من التحضر والتطور والجمال والترف..

سأظل أبحث عنك في تفاصيل الشوارع وألملم قصص مشاويري عن ميادينك الشامخة، وألون ذاكرتي التي بهتت في الغربة بألوان بالونات الأطفال على الكورنيش وأضواء المقاهي وثياب السباحة الزاهية التي ينافس بها السباحون ألوان شعابك المرجانية.

ومع هذا فجدة ليست كل هذا فقط..

جدة ليست البيوت والشوارع والأزقة والميادين والمقاهي والأسواق والشاليهات والبنايات الشاهقة والتنوع البشري..

جدة مدينة لها روح.. تبعث بداخلك إحساس بيت الأهل، فمهما كبرنا واستقلينا في بيوتنا الجديدة ذات التصاميم الحديثة، يختفي تباهينا ببيوتنا في اللحظة الدافئة التي نتخطى فيها عتبة بيت الأهل.

جدة.. يا عروس البحر الأحمر.. وحورية موانئ العالم..

يا أميرة البهجة وملكة التعايش وأسطورة التنوع والبساطة..

يا ملاذي بين كل المدن..

يا ست الفرح.. وحفيدة الأصالة..

يا من ينطق كل ما فيها بهاء.. حتى جاهلية حواريها !

كوجهٍ لم تشوه الوشوم غمازاته ولم يزده سواد الكحل إلا سحراً..

تاجك الشمس.. ورداؤك النور.. وصولجانك الموج الممتد بطول شاطئك..

فلتعذرني مدن الدنيا حين ابتسم لتفاصيلها لحظة.. ثم يأخذني إلى جدة الحنين..

* زفرة شوق:

جدة قناديلٍ وليل

جدة مواويل وتراتيل وصهيل

جدة مشوار طويل

جدة فيها سحر بابل

واختصار الناس

وكل الناس

فـ باب مكة أو فقابل

جدة أول..

جدة آخِر..

جدة أمواج وبواخر

ما صعيب إلا سهلها

وأحلى ما فيها أهلها

وجدة غير..

طلال حمزة

كاتبة سعودية

r.a.k.saudiarabia@gmail.com