قلّما يجود الزمان برجال قادرين على صناعة التاريخ.. وإعادة صياغة الأحداث ليس على مستوى القطر أو الاقليم ولكن على مستوى العالم أجمع.. هؤلاء الرجال وحدهم قادرون على إحداث التغيير وعلى بناء الأمم.. وعلى تحقيق آمال الشعوب.. وإذا أراد الله خيراً بأمة من الأمم وهب لها أحد هؤلاء العظماء لتزداد رفعة وسؤدداً وتتبوأ مكانتها العالمية بين الشعوب. وعندما كان الملك عبدالعزيز "رحمه الله" مؤسس المملكة يخوض غمار معاركه وفتوحاته لتوحيد هذا الكيان الكبير تحت راية التوحيد.. وبعد حسمه لأهم المعارك التي خاضها خلال مرحلة التأسيس مع الأمير القوي (عبدالعزيز بن رشيد) في معركة روضة مهنا.. لم تكد فرحة انتصاره الكبير تلامس شغاف قلبه.. حتى زاحمتها عليه فرحة أخرى زفتها له رسالة تبشر بمولود ذكر. ولم يكن الملك عبدالعزيز "يرحمه الله" يعلم.. لا هو ولا رجاله.. ولا كل إنسان على هذه الأرض ان هذه الرسالة لم تكن إلا رسالة بشرى بميلاد أحد أولئك الرجال العظماء الذين سيكون لهم دور بارز في صناعة تاريخ العالم.. وفي إعادة صياغة أحداثه وتواريخه وفق رؤية حكيمة خاصة لا تشبهها رؤية ولا يضاهيها مجد.
رسالة بشرى
ولد فيصل بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن في مدينة الرياض في شهر صفر من سنة 1324هـ الموافق أبريل عام 1906م.
وقد ذكر عدد من المؤرخين تاريخ مولد الفيصل محددا بشهر "صفر 1324هـ" والبعض الآخر أورده مقرونا بالتاريخ الميلادي "أبريل 1906م" أو "نيسان 1906م" مثل: صالح الجاسر، ومنير العجلاني، وشكري، وحسين طنطاوي، ومحمد حرب, وأمين سعيد، وأحمد حسين.
فيما ذكر مؤرخون آخرون تاريخ ولادة الفيصل محددا باليوم (14 صفر 1324هـ) الموافق 9 أبريل 1906م ومنهم خير الدين الزركلي، وعبدالعزيز الأحيدب، وعلي محمد الصفراني، ورؤوف شلبي وعبدالوهاب الكيالي، بينما انفرد عبدالمنعم الغلامي في كتابه (الملك الراشد) بتاريخ (18 صفر 1324هـ - 14 أبريل 1906م).
أما أمين سعيد في (تاريخ الدولة السعودية) فقد ذكر: 19 صفر 1324هـ - 12 أبريل 1906م.
ومن هؤلاء المؤرخين من قال إن مولد الفيصل كان في شوال 1324هـ مثل: فؤاد حمزة في (البلاد العربية السعودية) حيث قال: شوال 1324هـ - 1906م، وما ذكره ابراهيم بن عبيد في (تذكرة أولي النهى والعرفان)، حيث قال: (شوال 1324هـ) وأحمد العطار في (صقر الجزيرة) حيث قال: (شوال 1324هـ - 1906م) وعيد الجهني في (قائد أمة ورائد جيل) و (الملك البطل) حيث قال: (شوال 1324هـ).
ومن هؤلاء المؤرخين من حدد مولده في (غرة شوال 1324هـ) مثل: "فيصل بن عبدالعزيز من خلال أقواله وأعماله" - المنجد، وما ذكره سلطان السالم في (الفيصل ملكا في فكر أمة)، حيث حدده في (غرة شوال 1324هـ/ 1906م)، وهو نفسه ما جاء في الكتاب الصادر عن وزارة الاعلام (المملكة العربية السعودية: تقدم وبناء). ومنهم من ذكر التاريخ الميلادي فقط مثل: حمدان محمد في نفس الكتاب السابق، حيث ذكر (14 ابريل 1906م). ومنهم من ذكر تاريخا مخالفا تماما مثل: بنوا ميشان في (فيصل عاهل السعودية) حيث قال: (نوفمبر 1906م). ومنهم من اكتفى بذكر السنة الهجرية فقط أو الميلادية فقط أو ذكرهما معا في عدد من الكتب غير ما تقدم.
حسم الجدال
الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ونجل الفيصل "رحمه الله" وضع حدا لهذا الخلاف بين المؤرخين حول اليوم المحدد لولادة الملك فيصل بن عبدالعزيز "رحمه الله"، حيث ذكر في مسرد تاريخ الفيصل ما نصه: "وحسما لهذا الاختلاف فقد رأينا الرجوع في ذلك، الى ما قاله الملك عبدالعزيز نفسه عندما سئل عن تاريخ ميلاد ابنائه فقال: "إن سعود ولد يوم فتح الرياض، وفيصلا يوم ذبحة ابن رشيد، ومحمد يوم الحسا، وخالدا يوم جراب (حمزة ص59، العجلاني ص35)، وحيث ان "ذبحة" ابن رشيد كانت في موقعة "روضة مهنا" التي حدثت -طبقا لما أوردته المصادر- في (1324/2/18هـ الموافق 1906/4/14م)، فإننا نستطيع ان نؤكد ان مولده كان في شهر (صفر 1324هـ / ابريل 1906م)، وهو ما أوردناه لا سيما ان معظم المصادر كما رأينا اتفقت على ذلك، بل وأكده العجلاني في ص35، حيث قال: "ذكر بعض المؤلفين ان مولد جلالته كان في شهر شوال، ولما سألناه عن ذلك، أكد لنا انه كان في شهر صفر" وهذا يعارض ما ذكره المنجد في كتابه "فيصل بن عبدالعزيز ص16 في الحاشية من أنه سمع الفيصل يقول: ولدت في غرة شوال، وأخطأ من زعم أنني ولدت في صفر".
سبب التسمية
وعن سبب تسميته "فيصل" يذكر الأمير خالد الفيصل ان مولد جلالته في مدينة الرياض "صفر 1324هـ/ ابريل 1906م" وذلك عقب النصر الذي أحرزه والده على "ابن رشيد" في معركة "روضة مهنا" بالقرب من حائل، وكان هذا هو السبب في تسميته فيصلا.
ويضيف سموه: يذكر حمزة ص58 وكذلك عطار في كتابه "صقر الجزيرة" ص760 أنه سمي بذلك، لأن مولده كان فيصلا بين عهدين في تاريخ نجد، وهو يقصد بذلك معركة "روضة مهنا". أما طنطاوي ص33، فقد ذكر أنه سمي بذلك نسبة الى جده لأبيه فيصل بن تركي أحد مؤسسي الحركة التي أدت الى انشاء الدولة السعودية، والصواب ما ذكره طنطاوي، فقد حدثني الشيخ محمد بن عبدالله بن عبداللطيف خال والدي "الملك فيصل" قال: "يوم قتل ابن رشيد في معركة روضة مهنا أخذت خاتم ابن رشيد الى الملك عبدالعزيز وهنأته بالنصر، فالتفت إليّ وقال: وأنت أبشر بولد، لقد جاءتني الآن رسالة من الامام عبدالرحمن تبشرني بولد، وقد سميته (فيصل) على اسم جده".
اليتم المبكر
لم يكن مقدراً ان يعيش "الفيصل" طفولة طبيعية كغيره من الأطفال.. فقد كان على موعد مبكر جدا مع اليتم، وكانت مشيئة الله عز وجل قد اختارت والدته لترحل الى جوار ربها مبكرا، ولم يحظَ الفيصل بحنان ودفء والدته إلا لستة أشهر من حياته فقط، بعدها رحلت الى الرفيق الأعلى تاركة طفلها الصغير يعاني مرارة اليتم ومرارة فقدانها.
ووالدته "رحمها الله" هي طرفة بنت عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ التميمي.
فجدها هو الشيخ المجدد داعية الاصلاح الديني محمد بن عبدالوهاب "رحمه الله". وقد عرف عن والدته طرفة رحمها الله التقوى والصلاح ولم تنجب للملك عبدالعزيز غير "فيصل" ورحلت مبكرا الى جوار ربها.
هيا المقبل
الأمير خالد الفيصل يتحدث عن يتم "الفيصل" ويقول: "شاء الله أن تتوفى والدته بعد ولادته بشهور فانتقل الى كنف جده لوالدته وأستاذه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف, ترعاه في تلك الطفولة المبكرة جدته (هيا المقبل), وقد سمعت من المقربين أنها خرجت الى وادٍ قرب قريتهم, ودعت ربها أن يكون لحفيدها شأن في أسرته وبين اقرانه, ومن العجيب أن هذا الوادي, هو نفسه المكان الذي خرج إليه الملك عبدالعزيز والأمراء وكبار أهل الرياض, لاستقبال فيصل عائداً على رأس جيشه من عسير بعد نجاح مهمته.
ولقد رأيت الجدة (هيا) في مكة, فبعد أن أصبح الوالد نائباً للملك في الحجاز, انتقلت للعيش معه هناك, وكنت أراه يواظب على زيارتها أسبوعياً بعد صلاة الجمعة, وكان باراً بها.
الفيصل يبكي
وعن تأثير اليتم المبكر الذي عاشه الملك فيصل في حياته يقول الأمير تركي الفيصل لـ"عكاظ": مما لا شك فيه أن اليتم المبكر الذي عاناه الملك فيصل "يرحمه الله" كان له أثر كبير في حياته, وكان "رحمه الله" دائماً ما يذكر سنين اليتم, ويتألم لها. وعندما يأتي حديث من الأحاديث أثناء أمسية من الأمسيات التي كنا نقضيها معه, احياناً يأتي الحديث عن جده او عن والدته طرفة بنت عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ "رحمها الله" أو عن جدته التي ربته "المقبلية" رحمها الله. فكان يتذكر فقدانه لوالدته وكانت تدمع عيناه وهو يتحدث عن فقدانه المبكر لحنان والدته. ويضيف سموه: ومما لا شك فيه أيضاً ان ذلك كان له تأثير كبير جداً في تعامله مع زوجاته وأولاده وبناته, كان "يرحمه الله" رجلاً حنوناً الى أبعد الحدود. ولكن في نفس الوقت كان رجلاً عادلاً في تعامله مع الآخرين, حتى في مشاعره كان يعدل بيننا نحن ابناءه كأولاد وبنات في التعامل ولا يفضل أحداً على أحد.
ويضيف سموه: الله أعلم ماذا يكون في قلبه, ربما يكون في داخله شيء, ولكنه "يرحمه الله" لم يكن يظهر هذا الشيء في تعامله معنا ابداً.