كوني إعلامياً، أمسك بقلم قد يكون حراً حيناً ومسالماً أحياناً أخرى، فإنني أدرك جيداً أن مجريات الأحداث تفرضها الطبيعة والحياة، والخيارات تبقى دائماً بين وبين.
وفي ظل هذه الخيارات، يبرز حضور المحاور والضيف بوصفهما طرفين في معادلة واحدة، لا ينتصر فيها بالضرورة من يرفع صوته أكثر أو يربك الآخر أمام الكاميرا.
في عالم الإعلام، المجتمع المشاهد غالباً ما ينبهر بالمحاور الذي «يجندل» ضيفه، ويظهر بمظهر المسيطر على الحوار. فالمشاهد بطبيعته يحب الإثارة، ولهذا تلجأ بعض القنوات إلى تقديم البرامج الحوارية التي تعتمد على التصادم أكثر من النقاش. لكن هل يعني ذلك أن تفوق الإعلامي على الضيف دليل ثقافته وقوته؟
لو جئنا في الواقع، هناك فرق جوهري بين من يملك حرية السؤال ومن يُطلب منه الإجابة على الفور.
فالمحاور قد يحضر أسئلته لأيام، وربما يكون خلفه فريق من الإعداد، بينما الضيف يجد نفسه أمام الكاميرا مطالباً بإجابة فورية، وفي بعض الأحيان يقع في فخ سؤال أُعد مسبقاً للإيقاع به. هنا، قد يكون التلعثم مصير الضيف، ليس لأنه غير مثقف أو غير ملم، ولكن لأن السياق لم يمنحه ذات المساحة التي يمتلكها الإعلامي.
ولذلك، أجزم أن ما يبزغ للمشاهد من قوة الإعلامي ليس سوى الجزء الظاهر من المشهد، بينما يبقى الجزء الأكبر مستتراً خلف كواليس الإعداد، حيث يتشابك العمل بين فريق التحرير والمحاور، ولكلٍّ منهم نصيبه المخفي في رسم الصورة وإيصالها إلى قمة الإثارة؛ أحياناً بدافع المهنية، وأحياناً أخرى بدافع صنع تأثير يلمع على الشاشة.
وغالباً، بل كثيراً ما يحدث أن فريق الإعداد والمذيع، إذا لمحوا شخصية صعدت فجأة إلى الواجهة أو حقّقت شهرة طارئة بفعل موقف أو «ترند»، تسارع البرامج إلى اصطيادها وتقديمها للمذيع الذي يحدّ سكينه ليبدو أمام الجمهور بطلاً، ويقتات من شهرة الضيف التي لم يصنعها.
ولو تخيلنا سيناريو تبديل الكراسي، وأُتيحت للضيف فرصة محاورة المذيع، واستعراض سيرته، أجزم لن يجد ذلك المذيع كلمة يتخارج بها من الحصار القائم، ولا همسة يدافع بها عن نفسه.
سيبدو حينها هشّاً أمام من اعتاد أن يظهر أمامهم محاوراً لا يُجارى.
فبعض البريق ما هو إلا أثر ضوءٍ سُلط في الاتجاه الصحيح، لا أكثر.
لا يمكن إنكار دور الإعلامي، فهو جزء من السلطة المتقدّمة التي تجاوزت العديد من الحواجز، وصاحب رسالة مهنية لها أصولها.
لكن في الوقت نفسه، الضيف ليس مجرد طرف خاضع للحوار، تحت ضغوط وتتحوّل الحلقة كأنها تحقيق، تعترف أو لا تعترف، بل هو ركيزة أساسية وأحد أعمدة نجاح أي برنامج.
فلكل إنسان ذكاؤه في مجاله، والضيف حين يجلس أمام الكاميرا لا يمثّل نفسه فقط، بل يمثّل فكراً أو جهة أو قضية.
كذلك ليس جيداً إظهار محاور مبدئية ناعمة قبل الحوار ثم يتفاجأ الضيف بسيل عارم يخرجه عن المسار المتفق عليه من قبل.
وعلى الضيف في هذه الحالة مواجهة المذيع بالنوايا، ويقلب الموازين، لا بد من التحوّل ومواجهة المّد بمدٍ أقوى، مثل: ماذا تقصد؟، لماذا حوّلت المسار؟، هذه شكوك حاول توضح، لماذا الخروج عن الاتفاق في المحاور المعدة؟
في نهاية المطاف، لا ينبغي أن يكون الإعلام مجرد ساحة استعراض للانتصارات الجدلية، بل مساحة حقيقية للحوار والتفاعل.
الإعلامي الناجح ليس من يحرج ضيفه، بل من يفتح معه أفقاً جديداً للنقاش. وكذلك الضيف، ليس مستجيباً سلبياً، بل عقل يفكر ويضيف.
فالحوار الحقيقي لا ينتصر فيه طرف واحد، بل ينتصر فيه الوعي.