أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1785.jpg&w=220&q=100&f=webp

سلطان السعد القحطاني

صفقة في واشنطن: رحلة من المستقبل ومعه... وإليه

في خضم أخبار السياسة وصفقات التسلّح التي عادةً ما تتصدّر العناوين عند أي زيارة رفيعة المستوى إلى واشنطن، برزت خلال الزيارة الأخيرة لولي العهد السعودي زاوية مختلفة أقل صخبًا وأكثر عمقًا: التكنولوجيا المتقدمة، وبالتحديد أشباه الموصلات (الرقائق). فبينما انشغل كثيرون بالحديث عن الطائرات المقاتلة المتقدمة مثل F-35 وما تمثّله من رمزية عسكرية، بدا أن «صفقة الرقائق» هي العنوان الأهم من حيث الأثر الاقتصادي والإستراتيجي طويل الأمد.

أهمية الرقائق لا تكمن في كونها منتجًا صناعيًا فحسب، بل لأنها المدخل الأساسي لكل ثورة تقنية معاصرة. فالرقائق هي قلب الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والصناعات الدفاعية المتقدّمة، والاقتصاد الرقمي عمومًا. ومن هنا، فإن أي تعاون أو استثمار في هذا المجال يتجاوز منطق الصفقات التقليدية إلى بناء قاعدة تكنولوجية قادرة على نقل الاقتصاد إلى مستويات أعلى من الإنتاجية والتنافسية.

هذا الفهم ينسجم مع ما طرحه المفكر الاقتصادي الأمريكي روبرت سولو (Robert Solow) في نظريته الشهيرة حول النمو الاقتصادي. فقد بيّن سولو أن تراكم رأس المال – أي الاستثمار في المصانع والآلات – يساهم في النمو، لكنه يحقّق أثرًا مؤقتًا فقط. أما المحرك الحقيقي للنمو المستدام على المدى الطويل فهو التقدم التكنولوجي، لأنه يرفع كفاءة العمل ورأس المال معًا ويخلق قيمة مضافة لا يمكن بلوغها بالوسائل التقليدية.

تاريخ الاقتصاد العالمي يدعم هذا الطرح بوضوح. فبعد الحرب العالمية الثانية شهدت الدول الصناعية طفرة نمو غير مسبوقة، لم تكن نتيجة إعادة الإعمار فقط، بل نتيجة الانتشار الواسع للتقنيات الجديدة في الصناعة والنقل والإنتاج. ويعبّر عن هذه المرحلة – ولو بصورة ثقافية رمزية – فيلم بريطاني شهير من عام 1963 هو Summer Holiday، حيث يظهر عمال وميكانيكيون قادرين على قضاء عطلة صيفية، في دلالة على تحسن مستويات المعيشة واتساع الطبقة الوسطى بفضل التقدم الصناعي والتقني.

كما تقدّم كوريا الجنوبية مثالًا حيًا على قوة التكنولوجيا في تغيير مصير الدول. فمن دولة محدودة الموارد في ستينيات القرن الماضي، تحوّلت إلى قوة صناعية وتقنية عالمية عبر الاستثمار المكثف في التعليم، والتصنيع المتقدّم، ثم لاحقًا في أشباه الموصلات والإلكترونيات.

انطلاقًا من هذا السياق، يمكن فهم صفقة الرقائق – أو التعاون في هذا المجال – على أنها استثمار في المستقبل لا يقل أهمية عن أي صفقة عسكرية. فهي تمثّل رهانًا على بناء اقتصاد معرفي قادر على تحقيق نمو مستدام، وهو تمامًا ما أكده سولو: التكنولوجيا ليست عنصرًا مساعدًا للنمو، بل هي جوهره الحقيقي.

00:02 | 25-12-2025

هذا هو اقتصاد المستقبل ونفط السعودية الجديد

لم يكن الحديث عن السياحة مجرد طرح عابر، بل كان رحلة نحو المستقبل، مستقبلٍ نراه يتشكّل أمام أعيننا مع رؤية ولي العهد التي لا تتوقف عن دفع المملكة نحو آفاق جديدة. الأهداف أصبحت واضحة، فالسعودية تتجه بثبات نحو مستقبل آمن وقادر على مواجهة أي تقلبات اقتصادية عالمية، مستندة إلى رؤية عميقة لموقعها وقدراتها.

تتقدّم الرياض اليوم لتأخذ مكانها الطبيعي بين أهم عشر مدن في العالم. فالعاصمة التي بُنيت لبنة فوق أخرى طوال نصف قرن من قيادة الملك سلمان- باعتباره «أمير التنمية»- أصبحت مدينة عالمية بمعايير البنية التحتية والاستعداد للنمو. الرياض التي نعرفها اليوم تمتلك من الإمكانات ما يجعلها مؤهلة لاحتضان مشاريع نوعية ضخمة، وقادرة على استيعاب الزيادة السكانية، مقارنة بمدن كثيرة حول العالم لا تملك هذا الأساس المتين.

إن دخول الرياض إلى نادي المدن العالمية الكبرى ليس مجرد لقب، بل إعلان مرحلة جديدة تكون فيها المدينة محرّكاً أساسياً للاقتصاد الوطني.

هذا التحوّل يحمل معه فرصاً استثمارية واسعة، ووظائف نوعية، ومناخاً اقتصادياً سيصب في مصلحة جميع مدن المملكة، من خلال تدفق رؤوس الأموال وخلق منظومة اقتصادية متنوعة.

الرؤية اليوم واضحة: المملكة قادرة على العيش والتكيّف مع كل المتغيّرات. فليس النفط وحده من سيبني المستقبل، بل تعدد المبادرات التي تمزج بين العلم والفرص العالمية، وتستفيد من المزايا الضخمة التي تمتلكها السعودية في مواردها وموقعها وقدرات شبابها.

ويأتي صندوق الاستثمارات العامة ليكون المحرك العملي لهذا التحوّل، فهو يوفر أهم ما تحتاجه الدول للسير نحو الريادة: مناخ ملائم للكفاءات وللمشاريع وللمنتجات لتتحوّل إلى كيانات اقتصادية ضخمة. فجوهر التنمية لا يكمن فقط في المال، بل في البيئة التي تمكّن روّاد الأعمال والمبدعين من تحويل أفكارهم إلى استثمارات حقيقية.

في ظل التغيّرات العالمية المتسارعة، نرى كيف أصبح النفط عنصراً متراجعاً في المعادلة الاقتصادية الدولية، مع توجه الصناعات نحو الكهرباء والطاقة النظيفة. لم يعد الاعتماد على النفط خياراً آمناً للمستقبل، ولذلك تستعد المملكة لهذا التحوّل بشكل مبكر، مستفيدة من فرص هائلة تعهدت رؤية 2030 بتحويلها إلى مصادر دخل مستدامة.

ومن بين تلك الفرص، تبرز السياحة بوصفها «نفط السعودية الجديد». فالمملكة اليوم تقدّم مناخاً استثمارياً آمناً وموثوقاً، تحكمه قواعد الحوكمة ومكافحة الفساد، مما يجعل الاستثمار في السياحة وغيرها من القطاعات غير النفطية خياراً جذاباً وعالي الجدوى.

إن السعودية تسير بخطى واثقة نحو بناء اقتصاد متنوع ومستقبل مستدام، والرياض ستكون في قلب هذا التحوّل، مدينة عالمية تقود اقتصاداً عالمياً ناشئاً من أرض الفرص.

00:01 | 18-12-2025

العالم يتغيّر.. من ليفربول إلى جاكيت بوتين..!

قال بول ماكارتني، ركن فرقة البيتلز الركين: «ماذا لو علم والدي في ليفربول، حين منعني من الغناء، أن بوتين سيحضر حفلتي، وأنني سأغنّي في الساحة الحمراء في موسكو؟»

ويُروى أنه في تلك اللحظة انسلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين الحضور، فقال ماكارتني ضاحكاً: «رحِّبوا معي بالشخص الذي يلبس الجاكيت والذي انضم لنا مؤخراً!».

كانت تلك اللحظة الطريفة أكثر من مجرد تعليق عابر. فقد حملت رمزاً واضحاً على تغيّر وجه العالم، وتحوّل مركز الجذب من معسكرٍ اشتراكي مغلق إلى فضاء رأسمالي منفتح. فروسيا التي كانت يوماً أيقونة الشيوعية ومركز المعسكر الشرقي أصبحت اليوم أقرب للنموذج الرأسمالي من دول كثيرة كانت تنتقده. مشهد ماكارتني وهو يغني في الساحة الحمراء، بينما يقف بوتين بين الجمهور، ليس مجرد حدث فني، إنه تعبير عن رحلة طويلة قطعها العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

لقد شهدت العقود الأخيرة تغيّراً هائلاً في موازين القوى الاقتصادية والفكرية. فالنظام الشيوعي، الذي اعتمد لسنوات على مركزية صارمة وقمع لكل أشكال المبادرة الفردية، وجد نفسه عاجزاً عن مواكبة التطوّر التكنولوجي والاقتصادي الذي انفجر في الغرب الرأسمالي. فالاقتصاد المقيّد بالخطط الخمسية والقرارات المركزية لم يستطع إنتاج بيئة ابتكار أو منافسة، وهو ما أدّى إلى تراجع الإنتاجية وتآكل القدرة على التطوّر.

وعلى الجانب الآخر، واصل النموذج الرأسمالي تحقيق قفزات مهمة بفضل ما يتيحه من حرية للحركة الاقتصادية، وتشجيع للمبادرة الفردية، واستقطاب للاستثمارات. ومع الوقت، باتت الرأسمالية تُقدَّم بوصفها بوابة الازدهار والتنمية، حتى لدى الدول التي كانت تعلن عداءها لها في السابق.

وتبرز الصين مثالاً صارخاً على هذا التحوّل. فهي لا تزال تحمل راية الحزب الشيوعي، لكنها في الواقع تطبّق شكلاً متقدّماً من «رأسمالية الدولة»؛ اقتصاد سوق ضخم يتحرك تحت إشراف حكومي لكنه يعمل بآليات تنافسية واضحة. لقد أدركت بكين أن التحرر الجزئي للسوق ضروري للنمو، ففتحت الباب أمام الاستثمار، والصناعة التصديرية، والتكنولوجيا. والنتيجة كانت واحدة من أسرع تجارب النمو الاقتصادي في التاريخ.

أما روسيا، فقد انتقلت بدورها من اقتصاد مركزي مغلق إلى اقتصاد يعتمد على الخصخصة والانفتاح التجاري. صحيح أن المسار لم يكن سهلاً ولا خالياً من التحديات السياسية، لكنه أسّس لواقع جديد يجعل موسكو أقرب إلى اقتصاد رأسمالي منها إلى إرثها السوفييتي.

ما يحدث اليوم ليس مجرد تغيّر اقتصادي، بل تحوّل فكري وثقافي في نظرة الدول إلى التنمية. فالشيوعية، رغم شعاراتها الاجتماعية، قيّدت النمو وضيّقت آفاق الابتكار، بينما فتحت الرأسمالية- بتنوع نماذجها- أبواباً واسعة للتقدّم.

وهكذا، من ليفربول إلى جاكيت بوتين، تتجسّد قصة عالم يعيد تشكيل نفسه، عالم أدرك أن ازدهاره يبدأ حين يتحرر من القيود، وينفتح على الممكن.

00:00 | 11-12-2025

في البحرين.. «قمة الوحدة» وسط انقسامات إقليمية   

تعقد دول مجلس التعاون الخليجي قمتها في البحرين هذا العام في لحظة سياسية واقتصادية شديدة الحساسية، وفي بلد عُرف تاريخياً بقدرته على التوفيق وتذليل الخلافات وصياغة الحلول الهادئة. وبين آخر قمة حضرتها في المنامة قبل 15 عاماً وعودتي اليوم، يتأكد أن ثبات هذا المجلس، وهو يقترب من عامه الـ50، ليس أمراً عابراً، بل تعبير عن إرادة سياسية راسخة في البقاء إطاراً موحداً رغم تغيّر الظروف وتعدّد الضغوط.

تنعقد القمة في وقت تتشابك فيه الأزمات من شمال المنطقة إلى شرقها وغربها، وتتقاطع مصالح القوى الدولية على أرض الشرق الأوسط. ورغم ذلك، أثبتت دول الخليج خلال العقد الأخير أنها انتقلت من موقع المتلقي للتطوّرات إلى موقع الفاعل المؤثر القادر على صياغة المبادرات وبناء الاستقرار. وقد عزّزت سياساتها الخارجية الأكثر استقلالية هذا الدور، خصوصاً مع تراجع مستويات الاعتماد التقليدي على القوى الكبرى في إدارة الأمن الإقليمي.

ويبرز في هذا السياق التحوّل الأعمق في مفهوم الأمن الخليجي نفسه. فقد أظهرت السنوات الأخيرة أن التهديدات العابرة للحدود -من الهجمات السيبرانية إلى الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة- لا يمكن التعامل معها بمنظور وطني ضيق، بل بمنظور جماعي يعتمد على منظومة ردع مشتركة. وهنا يصبح توحيد الرؤى داخل مجلس التعاون ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة أمنية لضمان فعالية الردع وتعزيز الحماية الإقليمية.

كما تواجه دول الخليج اليوم تنافساً استثمارياً دولياً متجدّداً على المنطقة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. هذا التنافس منح الدول الخليجية هامشاً واسعاً للمناورة، لكنه في المقابل يفرض عليها قراءة متسقة لهذا المشهد الدولي حتى لا تتحوّل الاختلافات في السياسات الخارجية إلى نقاط ضعف تستغلها القوى المنافسة. فالمطلوب ليس التطابق في المواقف بقدر ما هو انسجام في الرؤية الاستراتيجية يضمن الحفاظ على استقلالية القرار الخليجي.

وتتزامن هذه التحوّلات مع تغيّرات كبرى في أسواق الطاقة العالمية. فالانتقال التدريجي نحو الطاقة النظيفة يفرض على دول الخليج إعادة تعريف موقعها الاقتصادي، وهو ما يفسّر إعلان الأمين العام للمجلس السيد جاسم البديوي عن طموح الدول الست لأن تكون «عاصمة للذكاء الاصطناعي». فالذكاء الاصطناعي هنا ليس مشروعاً تقنياً فقط، بل خيار استراتيجي لتحويل القوة الخليجية من قوة تعتمد على الموارد الطبيعية إلى قوة تعتمد على المعرفة والابتكار، بما يضمن استمرار نفوذها في عالم يعاد تشكيله.

إن قمة البحرين، بكل معانيها، ليست مجرد محطة بروتوكولية، بل اختبار لقدرة مجلس التعاون على المواءمة بين تحديات الداخل وتحوّلات الخارج. وإذا نجحت في تعزيز التنسيق السياسي، وتوحيد الرؤية الأمنية، ومواصلة التحوّل نحو اقتصاد المستقبل، فإنها ستؤسّس لمرحلة خليجية جديدة أكثر وحدة وتأثيراً واستقراراً.

00:21 | 4-12-2025

القيصر كان يريدكم أن تسمعوه.. اسمعوووه!

يكشف التبدّل الأخير في الموقف الأمريكي تجاه الحرب الروسية - الأوكرانية لحظةً واقعيةً سياسيةً نادرةً، لحظة تدرك فيها واشنطن – ولو متأخرة – طبيعة الدول الكبرى، وحجم نفوذها، وعمق مصالحها الاستراتيجية. فما استوعبه دونالد ترمب، على خلاف معظم قادة أوروبا، هو أن موسكو لن تقبل بأي حال من الأحوال أن يستمر تمدد حلف الناتو إلى حدودها المباشرة. فحدود الأمن القومي الروسي، كما يراها الرئيس فلاديمير بوتين، خطوط حمراء لا يمكن المساس بها، خطوط سيدافع عنها بالحديد والنار، دون تردد أو حسابات تجميلية.

الدول الكبرى لا تتعامل مع أمنها القومي كوجهة نظر، بل كقانون كوني ثابت. والتاريخ الطويل للعلاقات بين موسكو وواشنطن يكشف أن الخلاف والصدام لا يمنعان العقلانية من الظهور حين تقتضي الضرورة ذلك. فلكل منهما مجالات نفوذ وحدوداً استراتيجية لا يمكن السماح بتجاوزها. وما إن تتجاوز حركة سياسية أو عسكرية الحدّ المتفق عليه ضمنياً، حتى تصبح إعلان حرب قد تتدحرج إلى ما لا يمكن توقّعه.

ولعلّ أبرز مثال على ذلك ما حدث خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. في تلك اللحظات التي كان فيها العالم يحبس أنفاسه خشية خطأ واحد يحوّل الكوكب إلى رماد، حافظ الرئيس الأمريكي جون كينيدي ونظيره السوفيتي على قناة تواصل مفتوحة، يتبادلان من خلالها المعلومات حول أماكن الصواريخ وتحركاتها. لقد أدرك الطرفان أن تجاوز الحدود الاستراتيجية الكبرى ليس خياراً، وأن الحفاظ على توازن الرعب ضرورة وجودية لا مجال للمغامرة فيها.

اليوم يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بصورة جديدة. فخطة ترمب، أو ما يُنسب إليه من توجّه لإعادة تقييم الدور الأمريكي في الحرب الأوكرانية، تعكس استيعاباً لتلك الحقيقة القديمة: هناك حدود لا يمكن للدول الكبرى القفز فوقها في تعاملها مع بعضها البعض. أي تهاون في فهم هذه المعادلة قد يجر العالم إلى نزاع أكبر بكثير مما نراه اليوم، خصوصاً في حقبة العولمة حيث باتت «العطسة الشرقية تمرض أهل الغرب»، كما أثبتت جائحة كورونا عندما هزّت كوكباً بأكمله انطلاقاً من بؤرة صغيرة.

وإذا لم تُستوعَب المصالح الروسية على نحو واقعي، فقد يستيقظ في داخل «القيصر» جرح الاتحاد السوفيتي القديم، ويرى نفسه مدفوعاً – أو مضطراً – إلى استعادة ما يراه حدوداً تاريخية لدولته.

بوتين، كما يبدو، لا يزال يحمل جرح انهيار الاتحاد السوفيتي في قلبه. وهو جرح لم يندمل، ولن يسمح – من وجهة نظره – بأن يتكرر خطأ التاريخ مرتين، مهما كلّف ذلك من أثمان. ولذلك.. كان يريدكم أن تسمعوه. اسمعوووه.

00:15 | 27-11-2025

العلاقات السعودية الأمريكية… تحالف الأقوياء

أعادت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، ولقاؤه بالرئيس دونالد ترمب، صياغة النقاش حول طبيعة العلاقة بين الرياض وواشنطن، ودفعت كثيرين إلى إعادة التفكير في المفاهيم الساذجة التي ترى العلاقات الدولية من منظور «البيع والشراء». فقد تكرّر السؤال الشعبي المضحك: بكم اشترينا أمريكا؟، وهو سؤال يكشف مقدار الفجوة بين الخطاب الإعلامي العاطفي وبين الواقع الذي يشرحه علم الاقتصاد السياسي ونظريات العلاقات الدولية.

فالعلاقات بين الدول لا تُقاس بحجم التصريحات ولا بمن يستعرض أكثر على المنابر. الاقتصاد الحديث، من آدم سميث إلى روبرت كيوهان، يوضّح أن الدول العظمى لا يمكن «شراؤها»؛ لأن حجم اقتصاداتها يجعل من أي صفقة مجرد نسبة هامشية في محيط هائل. فالاقتصاد الأمريكي، الذي يلامس اليوم حدود 28 تريليون دولار، أكبر من أن يتأثر بصفقات مهما بلغ حجمها، بل إن اقتصاد ولاية واحدة مثل تكساس يماثل اقتصاد دول صناعية كبيرة. ومن هذا المنظور، تبدو فكرة «شراء أمريكا» أقرب إلى المزحة الإعلامية منها إلى التحليل العلمي. ما حدث في الزيارة ليس عملية شراء، بل علاقة تبادل مصالح قائمة على تكامل القدرات بين دولة تملك ثروة واستقراراً وتحوّلات اقتصادية عميقة، ودولة تملك التقنية والصناعة والقدرة التكنولوجية الأكبر في العالم.

ومن زاوية الواقعية السياسية، وهي المدرسة التي تفسّر سلوك الدول وفق منطق القوة والمصلحة، فإن العلاقة بين الرياض وواشنطن هي علاقة تحالف عقلاني بين قوتين تسعيان، كلٌّ بطريقته، إلى تحقيق الأمن والاستقرار. فالسعودية لاعب محوري في أمن الطاقة العالمي وفي توازن القوى مع إيران، كما أنها قوة استثمارية صاعدة تبحث عن تنويع اقتصادها ضمن رؤية 2030. أما الولايات المتحدة فتحتاج إلى شريك مستقر في الشرق الأوسط، قادر على المساهمة في حفظ الاستقرار ومحاربة الإرهاب وتسهيل حركة التجارة والأسواق. في هذا السياق، يصبح لقاء ولي العهد بترمب تجسيداً لمعادلة «المصلحة المشتركة»، لا لمعادلة التبعية التي يروّج لها الخطاب المتطرف في بعض وسائل الإعلام.

أما من منظور الليبرالية الاقتصادية، التي ترى أن المصالح المتشابكة تقلل احتمالات الصراع وتزيد من التنمية، فإن الزيارة مثّلت لحظة نضج في العلاقة الاقتصادية بين البلدين. فالسعودية لا تبحث عن حماية، بل عن شراكات صناعية وتكنولوجية تعزز قدراتها المحلية، وتفتح لها أبواب الذكاء الاصطناعي والصناعات المستقبلية، فيما تحتاج الشركات الأمريكية إلى رأس مال طويل المدى يضمن استمرار الابتكار وتوسيع سلاسل الإنتاج. وهكذا تتحوّل الثروة السعودية والتقنية الأمريكية إلى منظومة تكامل اقتصادي تتجاوز حدود الصفقات الظرفية نحو هندسة المستقبل.

ولعل التغيّر الجذري في خطاب ترمب بعد دخوله البيت الأبيض يعكس ما أشار إليه الأمير بندر بن سلطان حين أوضح أن كل مرشح أمريكي ينتقد الخليج قبل وصوله إلى السلطة، ثم تتغير نظرته عندما يرى خرائط المصالح الأمنية والاستراتيجية. وهو ما ينسجم مع فكرة الواقعية الدفاعية التي تقول إن الوقائع الجيوسياسية تفرض نفسها على الخطابات الانتخابية مهما بلغت حدّتها.

لقد أثبتت الزيارة أن السعودية ليست دولة تبحث عن الاعتراف، ولا دولة «تشتري» نفوذاً، بل قوة إقليمية تفرض حضورها عبر رؤية اقتصادية واضحة وتحالفات عقلانية. كما أثبتت أن الولايات المتحدة، رغم قوتها، لا تستطيع تجاهل شريك بحجم المملكة في ملفي الطاقة والاستقرار. وفي النهاية، يتبيّن أن العلاقة بين البلدين ليست علاقة بيع وشراء، بل علاقة تقوم على مبدأ بسيط وراسخ: تحالف العقل والمصلحة.. لا العاطفة ولا التبعية.

00:04 | 20-11-2025

«حديث بطيء» عن القيم الإعلامية في «العصر السريع»

في زمن التحوّلات الكبرى والانفتاح الواسع الذي يشهده الإعلام الحديث، يصبح الحديث عن القيم الإعلامية ضرورة لا ترفاً، لأنها تمثّل الضابط الأخلاقي والمهني الذي يحمي المهنة من الانزلاق نحو الفوضى والابتذال. فالقيم الإعلامية ليست مفهوماً مبتكراً داخل هذا الحقل وحده، بل هي امتداد لمنظومة القيم الإنسانية التي تضبط سلوك البشر وتوجههم منذ الأزل.

إن القيم في جوهرها قوانين غير مكتوبة، تهذّب أرواحنا وتنظّم حياتنا وتمنح العمل معناه الأسمى. ولهذا كانت الرسالات السماوية عبر التاريخ تركّز على القيم أكثر من أي شيء آخر، لأنها أساس البناء الإنساني، وبدونها تتحوّل الحياة إلى فوضى عدمية. فصلاح النفس، كما يعلمنا الدين، هو أصل صلاح المجتمعات، ومنه تتشكّل منظومة القيم التي تفرعت إلى مجالات الحياة كافة، ومنها الإعلام.

ومن هذا المنطلق، فإن الإعلام حين يفقد قيمه، يفقد روحه. فالمهنية هي تاج القيم الإعلامية، وإذا غابت عن المؤسسة الإعلامية، تحوّلت إلى عنصر هدم لصورة الوطن والمواطن معاً. وما نشهده اليوم من تغيّرات عميقة في قيم المجتمعات انعكس بالضرورة على القيم الإعلامية، فأصابها اضطراب المفاهيم وتبدّل الأولويات.

لقد ظهر ما يسمى بـ«الإعلام الجديد»، وهو أمر طبيعي في دورة الحياة وتطوّر أدواتها، فكما يتجدّد النهر بتدفقه، يتجدّد الإعلام بتقنياته. غير أن هذا التجدّد لم يخلُ من تحديات قاسية؛ إذ أفرز أنماطاً جديدة من الممارسة لا تمت بصلة إلى روح المهنة، وأسهم في ترويج قيم دخيلة، أضعفت الحس الأخلاقي والمصداقية المهنية.

في الماضي، كانت الكلمة تمر عبر مراحل من التدقيق والمراجعة قبل أن ترى النور، وكان المذيع يخضع لتدريب مكثف قبل أن يظهر على الشاشة، في دورة مهنية متقنة تحفظ هيبة الرسالة الإعلامية. أما اليوم، فقد انهارت الحدود، وأصبح بإمكان أي شخص أن يقول ما يشاء، وقتما يشاء، وأينما يشاء. ومع تكرار هذا الفعل، بدأ الجيل الجديد يعتاد على مظاهر الانفلات وكأنها قانون حياة.

لقد أضعف هذا الانفتاح قيم الحياء والمهنية والتقاليد، حتى صرنا أمام مشهد إعلامي متداخل، تختلط فيه الحقيقة بالضوضاء، وتُستبدل فيه الخبرة بالصخب. ولعل أبرز مظاهر هذه التحوّلات أن بعض من يتصدّرون المشهد الإعلامي اليوم، لم يمروا عبر المسار المهني المعروف، بل جاءوا من فضاء الشهرة الرقمية، يحملون تأثيراً كبيراً، لكن بلا وعي حقيقي بمسؤولية الكلمة وأمانة الرسالة.

القيم الإعلامية -في جوهرها- هي المصداقية، النزاهة، والأمانة. وهي لا تختلف عن قيم أي مهنة أخرى، لكنها في الإعلام تحمل وزناً مضاعفاً، لأن الإعلام هو مرآة المجتمع وصوته أمام العالم.

إن الإعلام الجديد ليس بديلاً عن الإعلام التقليدي، بل هو وسيلة جديدة لنقل المحتوى ذاته. فالمهنة باقية، وإن تغيّرت أدواتها، وستبقى هي المرجع الأوثق في لحظات الحقيقة الكبرى. والتحدي اليوم ليس في مقاومة التغيير، بل في صون القيم التي تحفظ للمهنة معناها، وللكلمة وزنها، وللحق مكانته.

فالقيم الإعلامية ليست شعاراً، بل مسؤولية، وسلوك، وإيمان عميق بأن الكلمة الصادقة قادرة على البناء، كما أن الكلمة العابثة قادرة على الهدم.

19:01 | 12-11-2025

ما رأيكم لو عدنا 1400 سنة إلى الوراء؟

الدور السعودي في إشاعة ثقافة الحوار ومحاربة التطرّف ودعم التسامح لطالما ترددت العبارة ذاتها على مسامعنا: «لقد قتلتنا الصحوة وسرقت جماليات الحياة التي كان يتمتع بها المجتمع السعودي، ويا ليتنا نعود إلى ما قبل خمسة وثلاثين عاماً». غير أنني، في كل مرة أسمع فيها هذا القول، لا أتمنى العودة إلى عقود مضت، بل إلى أكثر من أربعة عشر قرناً خلت، إلى زمن الإسلام الأول، حين كان المجتمع متسامحاً، منفتحاً، ومفعماً بالرحمة والوسطية.

في عدد من مشاريعي التلفزيونية التي سعت إلى الغوص في عمق الثقافة والفكر والتاريخ الإسلامي، قادتني النقاشات المثمرة مع عدد من المفكرين السعوديين إلى تأمل هذا المعنى مجدّداً. فقد كان الحوار حول ثقافة التسامح، وجوهر الشريعة وروحها الإنسانية مفيداً للجميع، ذلك أن الإسلام في أصله لم يكن دين تشدّد أو إقصاء، بل دعوة للسلام والتفاهم والتعايش.

من هنا، يمكن القول إن المملكة العربية السعودية أدركت مبكراً خطورة الفكر المتطرّف على الدين والإنسان معاً، فتبنّت نهجاً راسخاً يقوم على الحوار والتسامح ومواجهة الغلو. لقد نجحت المملكة في استعادة الصورة الحقيقية للإسلام باعتباره دين وسطية وعدل ورحمة، لا دين عنف أو كراهية. ومصداقية هذا الدور نابعة من كون السعودية مهد الإسلام، ومن حرصها على أن تكون مرجعية فكرية وروحية في العالمين العربي والإسلامي.

ولأنها تدرك أن الحرب ضد التطرف تبدأ من الفكرة قبل السلاح، أنشأت المملكة عدداً من المراكز الفكرية الرائدة التي أصبحت نموذجاً عالمياً، مثل مركز اعتدال الذي يتصدّى للفكر المتطرف عبر تحليل المحتوى الرقمي، ومركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع الذي يعمل على تفكيك خطاب الكراهية وإعادة تعريف المفاهيم الدينية المغلوطة، والمركز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد) الذي يفتح نوافذ التفاهم بين الشعوب.

هذه المبادرات ليست مجرد مؤسسات، بل مشروع وطني شامل لإعادة بناء الوعي، وترسيخ ثقافة الحوار والاعتدال في مواجهة الانغلاق والتعصب. لقد أصبح الصوت السعودي اليوم أحد أبرز الأصوات الداعية إلى السلام والتعايش في المنطقة والعالم، من منطلق قناعة راسخة بأن الأفكار المضيئة أقوى من الرصاص.

إن التجربة السعودية في محاربة التطرّف لا تقوم على الأمن وحده، بل على التعليم والإعلام والثقافة والفكر، في مسار متكامل يستعيد جوهر الإسلام كما بدأ: دين رحمة وعدل وإنسانية.

00:05 | 6-11-2025

المنطقة الغارقة في يوم يكرر نفسه.. للأبد!

يُشبه الشرق الأوسط، بصراعاته المزمنة، فيلم Groundhog Day، حيث يعيش الأبطال اليوم نفسه مراراً دون تقدم حقيقي. فالمآسي تتكرر، والعناوين الإخبارية تعيد نفسها، وكأن الزمن متوقف عند لحظة الصراع. ويبرز الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بوصفه المثال الأوضح لهذا التكرار الموجع؛ إذ تتبدل الوجوه وتتغير الشعارات، لكن جذور الأزمة تبقى على حالها. ومع ذلك، فإن التاريخ علمنا أن المحن قد تتحول إلى منح، إذا وُجدت الإرادة السياسية والدبلوماسية الصادقة.

شهدت المنطقة خلال الأعوام الماضية تصاعداً في التوترات، وكان آخرها هجوم حماس الذي ذكّر العالم مجدداً بأن تجاهل القضية الفلسطينية ليس مجرد خطأ سياسي، بل تهديد مباشر للاستقرار العالمي. فالقضية، التي كانت يوماً محور اهتمام العالم العربي، باتت اليوم تُعامل كملف جانبي في حين أنها جوهر الصراع في المنطقة. لا يمكن لأي ترتيبات أمنية أو تطبيع سياسي أن ينجح إذا بقي الفلسطينيون خارج المعادلة، وإذا لم يُعترف بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة وفق حل الدولتين الذي يشكل الأساس لأي سلام عادل ودائم.

الدبلوماسية، رغم كل ما يقال عن بطئها، تبقى السبيل الأنجع لتحقيق السلام. وأكاد أجزم بذلك أكثر بعد التجربة التي عشتها شخصياً في مدينة بلفاست، خلال الذكرى الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998، الذي أنهى عقوداً من الصراع الدموي في أيرلندا الشمالية. رأيت بعيني كيف تحولت المدينة التي كانت يوماً ترزح تحت وطأة القنابل والاغتيالات إلى رمز للسلام والتعايش. وفي تلك المناسبة، التقيت السيناتور جورج ميتشل، الذي لعب الدور المحوري في رعاية المفاوضات. تحدثنا حديثاً سريعاً، لكنه كان مليئاً بالتفاؤل. قال بثقة إن الدبلوماسية، مهما بدت بطيئة أو معقدة، قادرة في النهاية على معالجة كل الصراعات، ما دامت هناك إرادة سياسية حقيقية.

كان ميتشل يؤمن بأن الحوار ليس ضعفاً بل شجاعة، وأن الجلوس إلى الطاولة أصعب من خوض المعارك. وقد بدا تأثيره واضحاً خلال الاحتفال، حين اجتمع في بلفاست زعماء وسياسيون مثل توني بلير وبيل وهيلاري كلينتون وغيرهم، ليؤكدوا أن ما تحقق في أيرلندا يمكن أن يتحقق في أماكن أخرى، إذا توفرت القيادة والإيمان بالسلام. حتى التمثال الذي أزيح الستار عنه تخليداً لميتشل في الجامعة لم يكن مجرد نصب تذكاري، بل رسالة بأن الدبلوماسية تترك أثراً أعمق من أي حرب.

في الشرق الأوسط، لا تزال الفرصة قائمة لتكرار هذه التجربة، إذا تم تمكين المعتدلين من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. فالحوار لا يعني التخلي عن الثوابت، بل البحث عن حلول تحفظ الكرامة وتضمن الأمن للجميع. في المقابل، فإن تجاهل هذه القضية، أو استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرف والدمار. كما أن على السلطة الفلسطينية أن تعيد بناء مؤسساتها وتستعيد ثقة الشارع الفلسطيني، كي تكون شريكاً قادراً على صنع السلام لا متفرجاً عليه.

الدبلوماسية ليست مجرد وسيلة بل فلسفة حياة تقوم على الشراكة والتفاهم وتجنّب الحروب. في عصر العولمة، لم تعد الحدود تحمي أحداً، وأصبح الأمن مترابطاً، والاستقرار مسؤولية جماعية. العالم اليوم يتجه نحو المصالح المشتركة لا الصراعات القديمة، لكن الشرق الأوسط لا يزال عالقاً في ماضيه. إذا استمر هذا الجمود، فإن الأجيال القادمة ستولد في دوامة كراهية جديدة.

لقد أثبتت بلفاست أن المصالحة ممكنة مهما بدا الانقسام عميقاً. ما تحتاجه منطقتنا هو «قمة مصالحات عربية – إقليمية» شبيهة بتلك التي استضافتها جدة مؤخراً، تضع أسساً جديدة للسلام، وتعيد الاعتبار للحوار والدبلوماسية. في النهاية، لا بديل عن التفاهم. فالحروب تستهلك الشعوب، أما الدبلوماسية فتبنيها.

الشرق الأوسط يستحق أن يخرج من دوامة «اليوم المكرر»، وأن يكتب فصلاً جديداً من تاريخه، عنوانه: السلام بالذكاء لا بالقوة.

فكما قال جورج ميتشل يومها بابتسامة هادئة: «كل صراع قابل للحل إذا تكلّم الناس بدلاً من أن يقاتلوا».

00:04 | 30-10-2025

رسالة من لبنان: البحر مش كويس يا ريس..!

أمام رئيس لبنان الجديد، الرئيس جوزيف عون، تحديات معقدة تتجاوز حدود الطموحات والأحلام. فبينما يحاول أن يقدّم نفسه بوصفه رجل المرحلة والإنقاذ، يبدو الطريق إلى الإصلاح شديد الوعورة. لبنان يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، بين دولة تحاول استعادة سيادتها وهيبتها، ودولة ظلت لعقود أسيرة الاصطفافات الداخلية والمشاريع الخارجية.

المجتمع الدولي يراقب المشهد اللبناني بعين الحذر والأمل معاً. فالرغبة قائمة في أن يعود لبنان دولة ذات سيادة حقيقية، لا تهدّد محيطها العربي ولا تتحوّل إلى منصة لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. لكنّ هذا الطموح، رغم وجاهته، يصطدم بالواقع المليء بالتعقيدات السياسية والطائفية والاقتصادية.

ورغم التصريحات المتفائلة التي تتحدث عن قدرة لبنان على التغيير السريع، إلّا أن الصورة لا تزال ضبابية. فالعقبة الكبرى أمام أي مشروع إصلاحي جاد تبقى مسألة نزع سلاح حزب الله، التي تشكّل جوهر المعضلة اللبنانية. فكيف يمكن الحديث عن حكومة مستقلة قادرة على فرض سيادتها على كامل أراضيها، بينما هناك قوة عسكرية خارج سلطة الدولة؟ لا يزال لبنان بعيداً عن مبدأ «دولة واحدة وجيش واحد»، وهو المبدأ الذي لا يمكن لأي دولة أن تستقر دونه.

لبنان أمام خيارين واضحين:

الأول، طريق التنمية والانفتاح، وهو النموذج الذي جسّده رفيق الحريري في تسعينيات القرن الماضي. كانت تلك المرحلة ذروة الحضور العربي والدولي في لبنان، زمن البناء والازدهار، حين كان الاقتصاد يتنفس هواء العواصم الكبرى، والسياحة والمصارف تعيدان لبيروت لقب «عروس الشرق».

أما الخيار الثاني، فهو الانغلاق تحت مظلة حزب الله، الذي جعل لبنان معزولاً عن محيطه العربي والدولي، منهكاً بأزماته الاقتصادية والمالية، ومفتقداً لثقة المستثمرين والداعمين.

اليوم، لا يمكن إنقاذ لبنان من أزماته المتراكمة إلا بالعودة إلى المجتمع الدولي والعربي، واستعادة الدولة من الهيمنة الحزبية والمصالح الضيقة. فالمستقبل لا يُبنى بالخطابات، بل بقرارات شجاعة تعيد الاعتبار للمؤسسات، وللدولة التي فقدت دورها.

المجتمع الدولي والممولون العرب أوضحوا رسالتهم: لن يكون هناك دعم لدولة يظل فيها حزب الله دولة داخل الدولة. وإذا أراد لبنان فعلاً أن يبحر نحو برّ الأمان، فعليه أولاً أن يُصلح سفينته، لأن البحر- كما يقول المثل الشعبي اللبناني- «مش كويس يا ريس».

00:04 | 23-10-2025