أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1503.jpg&w=220&q=100&f=webp

عبدالله بن بخيت

الغش الديني سبيل الطقوسيين إلى الجنة

لا أعرف ما أسميه، فاخترت أن أسميه الغش الديني، رغم تناقض الكلمتين (الدين والغش)، فالدين يحرم الغش، وبالتالي نظريا لا يمكن أن يكون هناك غش ديني. لكن أن يأتي مسلم ويرشي تاجر فيز أو تاجر تهريب لكي يأخذه لمكة كي يؤدي فريضة دينية فهذا غش صريح. فالمسلم البالغ يعرف أن الحج فريضة على من استطاع إليه سبيلا، والاستطاعة إما بالقدرة المالية أو بالصحة البدنية أو توفر السبل والفرص والأمن و الأنظمة والقوانين.

أين تقع مشكلة هؤلاء الذين يسعون للحج بأي طريقة دون مراعاة الجانب الأخلاقي. يعلمون علم اليقين أن الحكومة السعودية لا مصلحة لها في منع المسلم من أداء واجبه الديني، ولا يدرك هؤلاء المسلمون أن رشوة مهربي البشر ليست مجرد أمر عابر. فهذا الشخص المرتشي يرتكب عملا إجراميا. من يعمل على تهريب حجاج لن يتردد أن يعمل على تهريب أي شيء من أجل المال.

كيف يمكن معالجة هذا الأمر المتكرر. القضية ليست في الحج فقط. ثمة مشكلة أخلاقية عامة تـأسست منذ زمن بعيد. تكرست بعد أن فصل الدعاة الشعائر الدينية عن بعدها الأخلاقي والإنساني. حطمت كثير من الفتاوى المضللة ضمائر بعض الناس حتى حلت الفتوى عندهم محل ضمائرهم وأخلاقياتهم الفطرية.

في صباح يوم جمعة الساعة العاشرة تقريبا كنت أسير في أحد شوارع تورونتو الكندية، فشاهدت محل إصلاح جوالات فتذكرت أن شاشة جوالي الاي فون مكسورة، فانتهزت الفرصة لتغييرها. سألت صاحب المحل وهو شاب أفغاني عن تكلفة تغيير الشاشة فقال: الأصلية ستكلفك سبعين دولاراً والتقليد خمسين دولاراً، تذكرت أن سعر الشاشة في متجر ابل يكلف 150 دولاراً، فسألته عن سبب هذا الفارق الكبير في السعر فقال: إن شركة ابل ومتجر ابل يرفعون الأسعار بسبب اسمهم وموقع متجرهم وطمعهم الخ. فوافقت أن يركب الأصلية ولكنه اعتذر لأنه في عجلة من أمره. يريد أن يذهب للبيت ليستعد للصلاة في المسجد. رغم محاولاتي إلا أنه أصر فأكبرت فيه إيمانه. بعد الصلاة عدت إليه وركب الشاشة. بعد أيام طويلة كنت أتجول في الحي الصيني فشاهدت متجرا لإصلاح الجوالات فتذكرت شاشة جوالي وقلقي من فرق السعر الهائل عند ذاك الأفغاني المسلم المتدين وسعر الشاشة في متجر ابل. فقررت أن أختبر حقيقة هذه الشاشة. عرضتها على الصيني. قلبها قليلا وقال هذه تقليد بخمسين دولارا، ثم قال عندي الأصلية ولكنها سوف تكلفك مئة وخمسين دولارا، ثم أردف قائلا: جوالك قديم فلا داع لاستبدال الشاشة.

الصيني، لا أعرف ما هو دينه، كان صادقا وناصحا معي، والأفغاني المسلم الحريص على الصلاة غشني. فتذكرت حالات لا حصر لها في المملكة وفي بلاد المسلمين عامة. سترى حرصا مبالغا فيه على الشعائر والطقوس مصحوبا بضعف في الجانب الأخلاقي. ليس غريبا عليكم أن يرمي أحدهم - وما أكثرهم - سيارته في أي مكان سادا الطريق ويهرع لأداء الصلاة مستهترا بحاجة الناس للمرور. ثمة انفصال كبير بين الأخلاق والشعائر عند هؤلاء الذين اسميهم (الطقوسيين). فالدين عندهم مجرد مجموعة من الطقوس تدخلهم الجنة بضمانة الدعاة. رجل سبق أن أدى فريضة الحج، ربما خمس مرات وما زال يريد أن يحج حتى عن طريق الغش والخداع والمراوغة ودفع رشوة، ثم يعود إلى دياره مهللا مكبرا يتلقى التهاني والتبريكات.
23:56 | 7-06-2025

الرواية وجائزة القلم الذهبي

فجأة ظهر لي أمر تمنيته، ولم أكن أتوقعه أن يحدث، ولم أتوقع أن أكون مساهماً فيه.

أحببت الرواية منذ يفاعتي حتى صارت الروايات في حياتي كالأغنيات أردد قراءة الروايات الجميلة أكثر من عشر مرات. لا يمضي يومي دون قراءة ولو جزء من رواية حتى تبعثرت الروايات تحت سريري. بعض الشخصيات الروائية أصبحوا أصدقائي على حد تعبير أحد النقاد الأمريكان الجنوبيين.

في أواخر السبعينات عندما كنت طالباً التحقت بالحركة الثقافية في المملكة. أصبحت محرراً ثقافيّاً في جريدة الرياض. في الوقت الذي كانت الحركة الثقافية مُلقية بثقلها على القصة القصيرة والشعر الحديث لا ينافسهما سوى تعليقات النقاد، لم يكن بين يدي شيء أكتب عنه سوى الروايات القليلة التي تصدر في المملكة، وفي التسعينات ترجمت عدداً من الحوارات لعدد من الكتّاب العالميين مثل غارسيا ماركيز وهامنقوى وبورخيس وآشبي وغيرهم من الكتاب والروائيين من مجلة أمريكية فرنسية اسمها (ذا باريس رفيو)، نشرتها كسلسلة أسبوعية في جريدة الجزيرة.

مع دخول القرن الواحد والعشرين وانهيار حركة الحداثة بلغت المحاولات الروائية في المملكة مرحلة تتّسم بالجدية والإبداع والروح السعودية.

من يظن أن رؤية 2030 التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان تقود السعودية نحو الرفاهية وتنويع الاقتصاد وتعزيز الأمن وبناء أمة جديدة لم يتأمل في الدور الذي تقوم به هيئة الترفيه. من يتابع إنجازات هيئة الترفيه سيكتشف أن الجمال في صلب رؤية 2030 وأحد أعمدتها، فالهيئة ليست جهازاً تنظيميّاً فحسب، فقد أعادت تأصيل جماليات السعودية التي كادت تندثر، أعادت الإبداع الشعبي للذاكرة والوجدان. سمع الجيل الجديد السامري والخبيتي والينبعاوي وطربات فنانين طواهم النسيان، وحظي مبدعو الفن الراحلون والأحياء بالتقدير والتكريم بعد أن كاد فنهم يطمسه تتابع الزمان والإهمال والمحاصرة. فما تنجزه الهيئة ليس مجرد ترفيه ينتهي في ليلته. أكاد أجزم أن تركي آل الشيخ يشتغل أربعاً وعشرين ساعة. أقام المسارح والاستديوهات، وأنتج أعمالاً فنية، وقدم فنانين من جميع أنحاء العالم. يصنع فناً جديداً، ويرمّم الفن القديم؛ ليتكامل الجمال في وجدان كل الأجيال. ولكي تعرف محمد بن سلمان انظر إلى رجاله الذين اختارهم يعملون تحت قيادته؛ لبناء نهضة شاملة.

جائزة القلم الذهبي لم تكن حتى حلماً ننتظره. رأينا جوائز محدودة وبسيطة، كنا فقط نتمنى استمرار هذه الجوائز على قاعدة المثل الشعبي (العوض ولا القطيعة) حتى العوض لم نشهده، ولم يطمح أي كاتب جاد لنيله. بعض هذه الجوائز مات وبعضها ينتظر من يرفع عنه الأجهزة ليرقد بسلام.

جائزة القلم الذهبي لا تشبهها جائزة أخرى على مستوى العالم. ترعى فنَّيْن من أعظم فنون السرد (الرواية والسينما)، وتدعم الناشرين والمترجمين، وهي الجائزة الأكثر نزاهةً وكرماً، والخالية من تلوث الأيديولوجيا والأجندات الخفية.
00:03 | 25-02-2025

مسرى العُمر..!

راودتني فكرة كتابة مذكراتي: عملت هنا وعملت هناك وسافرت إلى بلاد كثيرة وحققت نجاحات وقابلها عدد من الإخفاقات وتساءلت في النهاية: هل حياتي الهادئة والعادية والمشابهة لحيوات معظم الناس يمكن أن تسرد في كتاب يقرأه الآخرون. لم أنتبه إلى شيء خطير مر في حياتي وحياة جيلي ممن أسعدهم الحظ أن نبدأ الحياة في حقبة الستينات إلى أن قرأت كتاب (مسرى العمر) للدكتور عبدالرحمن التويجري. كشف لي الدكتور بأن جيلنا ليس جيلاً عادياً، نحن النقلة التي قفزتها المملكة من عالم ساكن ممتد في ماضٍ لا تتغير فيه الأشياء إلى عالم تنبت فيه الحياة بكل تجلياتها الحضارية المعاصرة. في جيلنا ظهر التلفزيون وظهرت الرياضة الحديثة، ونحن الجيل الذي مُكِّن من التعليم الحديث، تعلمنا في مدارس مصممة للتعليم، وجيلنا أول من تلقى العلوم الحديثة فيزياء وكيمياء ورياضيات وتربية فنية وبدنية، وخلت أجسادنا من الأمراض والأوبئة التي فتكت بمن سبقنا، لم أدرك بأننا طليعة كل من سيأتي بعدنا.

من سيقرأ كتاب مسرى العمر سيقرأ كتابين لا كتاباً واحداً: تجربة إنسان ناجح وتجربة نجاح أمة. كل إنسان سعودي من جيلي حقق نجاحات سيشاهد نفسه، وكل من يرغب أن يطلع على ملحمة المملكة التنموية وهي تتحرك على الأرض سيشاهدها في هذا الكتاب. تطور الإنسان السعودي من البساطة إلى الحداثة تجعلك ترى إنساناً ولد وترعرع في بلدة صغيرة يصبح مسؤولاً كبيراً في البنك الدولي بواشنطن. سيرة يجب أن تروى. فالمجمعة التي أمضى فيها المؤلف مطلع حياته رغم محدوديتها تمثل نموذجاً مصغراً لمدينة الرياض وربما المدن السعودية الأخرى. التجارب واحدة والظروف واحدة فتجربة الدكتور عبدالرحمن في كتاب مسرى العمر تؤكد أن نهضة السعودية لم تقتصر على المدن كما حصل في بعض البلاد.

يسير الكتاب كما يشي عنوانه (مسرى العمر) كورنولوجي مع تنامي شخصية بطل العمل من الطفولة إلى ساعة انتهائك من قراءة آخر صفحة فيه،

الجزء الأول بعناوين متعددة مثير للحنين، يصف المؤلف الخطوة الأولى التي وضع فيها الإنسان السعودي قدمه على أرض لم يطأها أسلافه كان الراديو سيد الموقف منه يتابع المؤلف ونحن معه مباريات كرة القدم التي يذاع وصف لها فيه، وفرحة المؤلف بالسيكل وزبرقته بالتلبيسة هي فرحة أطفال ذلك الزمن، والسفر على طرق ترابية ثم التحول السريع إلى الطرق المعبدة وانتظار أسماء الناجحين في المرحلة الابتدائية في الراديو وتعلق ذاك الجيل بمجلة العربي الكويتية وقراءة قصص أرسين لوبين والمذاكرة في المسجد والمناشط الفنية كالغناء والمسرح، واستمر هذا حتى نهاية السبعينات عندما جاءت الصحوة وقضت على كل هذا كما أشار المؤلف ويشير التاريخ ويعرفه كل من عاش تلك الأيام الخوالي.

ويمضي الكتاب في مسرى العمر لنرى أول إخفاق للمؤلف بعد أن اقتلعه الطموح من دفء العائلة ليضعه لأول مرة أمام الحياة الحديثة وحيداً: السكن الجامعي ولبس البنطلون والأكل بالملعقة والشوكة وتنتهي به الأمور مغادراً جامعة البترول والعودة إلى الرياض ليبدأ رحلته الحقيقية التي سوف تمتد إلى تقاعده.

تخرّج المؤلف من جامعة الرياض (الملك سعود) وتم تعيينه معيداً استعداداً للابتعاث الذي يبدأ منه تجربة مهمة في حياته وحياة آلاف من السعوديين الذين درسوا في الولايات المتحدة، وبقدر ما كانت حياته الأولى مثيرة للحنين، فتجربته في الولايات ستكون مثيرة لحنين كل من تلقوا تعليمهم في أمريكا في ذلك الزمن، فجاءت تجربته هادئة لم تصادفه فيها صعوبات سوى فقد والدته. كانت تجربة إنسان خلط بين العزوبية في الغربة ورب العائلة، رغم ذلك تحدث عن صعوبات الدراسة وتجربة سريعة مع التجمعات السياسية العربية ولكنه لم يفصح عن أي تجربة لشاب سعودي أعزب في بلاد (الهنك والرنك) على حد تعبير الطيب صالح.

عندما عاد حاملاً شهادة الدكتوراه سوف تصادف في الكتاب تجارب المؤلف ومشاركته في بناء المؤسسات السعودية التي عمّقت حضور المملكة في العصر الحديث وأكدت أنها جزء منه.

كان من مؤسسي جمعية الاقتصاد السعودي التي واجهت بعض الصعوبات عند تأسيسها نتيجة غياب التشريعات التي تنظم مثل هذه المنظمات، وبالكاد انتظم في الجامعة إلا أن قدره لم يكن يسوقه للبقاء أستاذاً في الجامعة، ففي ذلك الزمن تأسس مجلس التعاون الخليجي (1981) فكان في حاجة إلى كوادر متعلمة لتغطية احتياجات فروعه المختلفة فعمل فيه مستشاراً غير متفرغ. ولم يفت المؤلف الإشارة إلى تجربة المجتمع مع التشدد الديني في تلك السنوات التي كادت تطيح بالمكاسب العظيمة التي حققها المجتمع السعودي في مسيرة التقدم والازدهار التي شهد طلائعها جيلنا. وكان لهذا التشدد الديني الذي أطلق عليه أصحابه الصحوة الفضل في تغيير مسار حياته بعد أن تغول في الجامعة، فانتقل للعمل متفرغاً في المجلس وفي تلك الفترة مرت بالمنطقة أحداث.

من تجارب المؤلف المفصلية انتقاله للعمل في صندوق النقد الدولي والعيش مع أسرته ثماني سنوات، وانتقل بعدها للمملكة للعمل أميناً عاماً للمجلس الاقتصادي الأعلى بعد أن شارك في تأسيسه وكان أول موظف فيه و(أتمنى لو أن المؤلف يتفرغ لتأليف كتاب مستقل عن صندوق النقد الدولي ليجلي ما يشاع عنه أنه سبب بلاء كثير من الدول الفقيرة)، ثم أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة أرامكو، ولم يكن تعيين الدكتور عبدالرحمن رئيساً لهيئة السوق المالية المنهار مبنياً على خبراته الاقتصادية فحسب ولكن بسببها وبسبب إسهامه في صياغة نظام السوق نفسه.

ومن ميزة هذا الكتاب لم يكن سرداً للحياة العملية بل كان المؤلف يخرج من الحديث عن الوظيفة إلى حياته الخاصة وكأنها فاصل يريحك من الحديث عن تطورات العمل كلما ضاق بك الحديث، ولكي لا يصبح تاريخاً لتطورات النظم الاقتصادية، ورغم ذلك فالكتاب يُقرأ ليعرف القارئ جزءاً من تاريخ البلاد يصعب معرفته دون أن يسطره رجل عاصره وأسهم فيه. ويؤكد فيه أن النجاح في العمل لا بد أن يدعمه نجاح موازٍ في البيت.

بعد انتهاء عمله في سوق المال يكون المؤلف دخل مرحلة التقاعد رغم أنه عمل في مؤسستين تعودان إليه وينتهي الكتاب بجولة في صراع العالم مع فيروس كورونا وتجاربه العائلية مع الحجر.

كما قلت في المقدمة الكتاب ليس سيرة إنسان ناجح فحسب بل سيرة أمة وانتقالها من البساطة والعزلة إلى الانخراط في العصر الحديث، من بين المفاجآت التي كشفها لي الكتاب أن الدكتور عبدالرحمن التويجري لو لم يذهب إلى كلية التجارة وذهب إلى كلية الآداب نكون خسرنا اقتصادياً بارزاً وكسبنا كاتباً مميزاً.
00:09 | 26-09-2024

فيلم الماعز.. حياة الخرفان البشرية..!

وقعنا في الفخ الذي نصبه من استغل الفيلم ليطرح قضية الكفالة في المملكة؛ فالفيلم لا علاقة له بنظام الكفالة، (حياة الماعز) يتحدث عن جريمة اختطاف رجل هندي جاء للعمل في المملكة. فالخاطف لم يكن كفيل الهندي فلماذا نسمح لأنفسنا أن ننجر ونناقش قضية الكفالة مع كل من يريد أن يسيء للمملكة وقياداتها تحت مظلة هذا الفيلم.

نحن أمام فيلم سينمائي هندي بكل المعايير التي نعرفها عن المنتجات الهندية. عندما نشاهد في حياتنا تصرفاً غير معقول ولا يمت للواقع بصلة نقول هذا «فيلم هندي»؛ كلمة «فيلم هندي» تعني خزعبلات وخارج المعقول (رجل يفتح باب الطائرة ويقفز لينتحر، ولكن قدرة الهندي توقعه على شجرة يصادف أن حبيبته كانت تجلس تحتها).

يبدأ الصراع الميلودرامي في الفيلم من لحظة وصول شابين من الهند إلى مطار خليجي. يرسم المخرج بشكل متسارع ملامح متلاحقة تصنع خلفية توحي بمطار سعودي: سيدات سعوديات محجبات، وأذان، ورجال بملابس سعودية، ثم ودون إبطاء يبدأ المخرج في رسم صورة الرجل الذي سوف يختطفهما ويتولاهما بقبحه وفجاجته. معاملة هذا الرجل انكشفت من أول لحظة التقاهما فيها داخل المطار، الأمر الذي سيعطيك صورة عن البنية الدرامية للعمل، فالرجل لم يستدرجهما بالتودد أو باللين أو بالحيلة أو بالتهديد، فمنذ اللحظة الأولى صار يتعامل معهما بكل فجاجة ووقاحة، وأمرهما أن يركبا معه في صندوق سيارة (شاص) مهترئة. الغريب و-ليس غريباً عن الأفلام الهندية- أنهما قفزا معه دون أدنى ممانعة كالخرفان. لحظة الأسر تؤكد لنا أننا نتفرج على فيلم هندي بكل معايير الأفلام الهندية التي نعرفها. القسوة في الفيلم الهندي تكون خارج المعايير الإنسانية والضعف لا يقل عن ضعف الخرفان. هذا الفيلم يُدين الهنود، حيث يقدم الإنسان الهندي بوصفه إنساناً ذليلاً لا يملك أي درجة من التدبر والمقاومة. السؤال: هل مؤلف الرواية كتبها كعمل روائي أم كتبها كمذكرات؟ وللأمانة لم أقرأ روايات هندية لكي أعرف هل الرواية الهندية تنحو منحى السينما الهندية في صناعة المعجزات والمآسي التي يتقطع لها نياط قلب المتفرج الهندي، وهل القارئ الهندي كشقيقه متفرج السينما ينتظر ما يقطع نياط قلبه أيضاً.

عند وصولهما البر بعد رحلة امتلأت بمقطعات نياط قلب صغيرة تم توزيعهما أيضاً كخروفين. لم تظهر منهما أي مقاومة رغم اتضاح المعاملة اللاإنسانية. عندما نام نجيب في الخيمة وهي مكان متواضع غضب منه الكفيل وأخرجه لينام في العراء. لحظة استراحة العامل الهندي في الخيمة كانت فرصة للمخرج لتأسيس مزيد من المأساة الهندية. فنعرف أن الضحية صرف أمواله لشراء (فيزا) للعمل في الخليج. ولرفع درجة المأساة نشاهد عبر الـ(فلاش باك) نفسه أن نجيب كان يعيش في بلاده حياة رومانسية مليئة بالأحلام الجميلة مع شابة عذبة تبادله نفس الأحلام.

بعد أن عرف نجيب مصيره الأسود أُتيحت له فرصة أن يهرب ولكن بقليل من الشجاعة الفطرية. تقدم نجيب من صاحب وايت الماء وطلب منه أن يأخذه معه إلى المدينة فسمع الكفيل الحوار ولم يفهمه، فهبَّ وحاول أن يعرف ما دار بينهما، وأنكرا أن يكون الحوار يخصه، ولكن الكفيل لم يرتح، فأحضر السوط وأخذ يجلد نجيب، فحاول نجيب أن يتفادى الضرب فما كان من الكفيل إلا أن هرع إلى الخيمة وأحضر بندقية وصوبها ناحية نجيب، فأمسك بها نجيب وأبعدها عن مرماه. كان بإمكانه أن يسلبه البندقية ويقوده بسيارته إلى المدينة وتنتهي مأساته، ولكن نجيب أذعن كالخروف.

في النهاية، أي شخصية درامية تكون في داخلها متناقضات كما في الحياة التي نحياها. ثمة شخصية شريرة يبقى في داخلها قليل من الإنسان، وأي شخصية خيرة تنطوي على قليل من الخساسات الصغيرة. حتى الشخصية السوكوباثية التي تقودها المصالح تشكل المصالح ضميراً ينافق به ضحاياه. هذا الخاطف لم يكن مجرماً بل شيطان، بل إن الشيطان الذي نعرفه يستخدم الخداع والتزلف والاستدراج ليوقع ضحاياه في حبائله.

كل شخصية درامية لها خلفية وماضٍ صاغها وأوصلها إلى ما نشاهده في النص، لكن المخرج يعطيك (فلاش باك) على شخصية نجيب الضحية، وبالمقابل ثمة ماضٍ آخر صاغ شخصية الكفيل وجعله شراً محضاً، فالمخرج لم يزودنا بأي جانب إنساني أو فلاش باك عن طفولة هذا الكفيل أو أسرته أو أي شيء يكشف لنا وجهها الدرامي. شخصية منبتة لن توجد أبداً، حتى الشيطان له تاريخ نعرف من خلاله كيف أصبح شيطاناً.

بعد كل هذا فالفيلم طويل ولا يتوفر على حوار درامي يتوالد عند التقاء الشر المحض بالضعف المتهالك في صحراء قاسية. عادة في مثل هذه البيئة يتدخل الفن ليأخذك في جولة في النفس الإنسانية. تمضي مع المخرج حوالي ثلاث ساعات تتفرج على نفس المشهد يتكرر بصور مختلفة ومملة. السؤال الذي طرأ على بالي أخيراً: من موَّل هذا الفيلم؟ ومن يقف وراء مموله؟ أما من أشادوا به فنعرفهم جميعاً.
00:04 | 30-08-2024

مات أبو عبداللطيف

قدّر الله للكاتب محمد بن عبداللطيف آل الشيخ أن يشهد ما تمناه لبلاده، وما قاتل من أجله، وأن يطمئن في رقدته الأخيرة بأن بلاده تسير في الطريق الصحيح. رأيته هادئاً ومطمئناً وهو مستلقٍ ميتاً على مغسلة الراحلين، ورأيت على وجهه الساكت رغم فراغه من الحياة أثراً للابتسامات التي اندلعت في سنوات النصر الأخيرة المتتالية، ذكّرني به في لحظة الإصغاء في منزله مع أصدقاء الفكر والصحافة، ويؤسفني أن غادر قبل أن يرى ثمرات هذا النصر في المشاريع القادمة.

منذ السنوات الأولى من القرن الحالي دخل منزله تاريخ الصراع الفكري المحتدم بين تيارَي الصحوة والتنوير. كرّس أبو عبداللطيف صالون منزله ندوة مفتوحة يتبادل فيها أصحاب الفكر التنويري الآراء والأطروحات فتشكّل فكراً وطنياً مشتركاً لمواجهة تيار الصحوة القوي والمنظم والقابض على المنابر، ورغم عشوائية اللقاءات وتباعدها الزمني وخلوها من الإعداد المسبق يمكن أن تكون موضوعاً لكتاب يؤرخ للصراع وأهم الأسماء التي شاركت في المعارك، خصوصاً أن بيته لم يكن يضم نخبة من كتّاب الرياض فحسب، بل يؤمه كثير من المثقفين الذين يأتون من أنحاء المملكة ومن خارجها. ثمة حقبتان للتاريخ التنويري في منزله؛ الأولى حقبة احتدام الصراع، والأخرى بعد انقشاع تيار الصحوة. كانت الأولى قاسية امتلأت بالتهديد والتشويه والتفجير، والثانية كانت ارتباكاً واحتفالاً بعد سقوط الصحوة بعناصرها ورجالها ومؤسساتها، وكأن البلاد استيقظت من حلم.

رحيله كأنما هو إيذان بنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، نهاية جيل وبداية جيل جديد، نهاية الصراع مع أهل الماضي وبداية صراع الشباب مع المستقبل، مرحلة ترك الكلام والأوهام والانشغال بالبناء.

أمضى في المستشفى أكثر من ثلاثة أشهر قضاها في معارك ضارية، مرة مع الحياة ومرة مع الموت، مرة مع الأمل والأخرى مع اليأس، كان كثيراً ما ييأس ثم يستعيد آماله، بيد أن ضربات الوجع قلّصت طموحاته إلى أن جاءت يد الرب الرحيم لكي توقف عذاباته وعذابات أسرته وأصدقائه.
00:08 | 12-07-2024

كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟

في حفلة أقامتها السفارة البلجيكية في لندن عام 1983 على شرف رئيسة الوزراء البريطانية -آنذاك- السيدة مارغريت تاتشر وعدد من الشخصيات الأوروبية؛ بينهم الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جيسكار دستان، صادف أن كان مرور السيدة تاتشر أثناء دخولها القاعة بمحاذاتي فاقتربت مني أكثر وهمست في أذني دون أن تصافحني أو حتى تلقي علي تحيتها المعتادة بل قالت: يا عبدالله أنتم أكثر الشعوب إزعاجاً لمخططاتنا في الشرق الأوسط. لم تسمح لي بمناقشتها أو الاستفسار منها عما تعني ولكني فهمت الرسالة كما أرادت.

في ندوة عقدتها جامعة وسكانسون عام 1996 بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على نهاية الحرب الفيتنامية قالت دوروثي ردغريف، وهي أستاذة في الجامعة ومستشارة سابقة في البيت الأبيض لشؤون الشرق الأقصى في محاضرتها تلك الليلة: إن حرب فيتنام ليست سوى تمثيلية افتعلها الإسرائيليون لتمرير أجنداتهم وتبرير حروبهم ضد الدول العربية. بعد نهاية المحاضرة انتحيت بها وسألتها كيف يكون للإسرائيليين دور في حرب فيتنام، فقالت وهي تضحك ضحكتها القصيرة المعتادة: يا ابن بخيت كأنك لا تعرف تأثير جيمس ماكنمارا وهو صديقك وحجم نفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن، مشكلتكم أيها العرب أنكم لا تقرأون.

تجربتي وتجربة كثير من زملائي المفكرين سوف تساعدك حتما على بلوغ درجة مفكر أو حتى عضو بارز في تنظيم الإخوان المسلمين. عندما تتابع، على سبيل المثال، حوارات الدكتور الكويتي عبدالله النفيسي ستجد تشابهاً بين تجربتي وتجربته. فالنفيسي التقى بأردوغان والتقى بالخميني وكان يلتقي بعدد من أعضاء البرلمان البريطاني وجلس مع كثير من زعماء العالم أو بالأصح كانوا يجلسون معه.

على أي حال، ثمة عدد من المفكرين يمكن أن تستفيد من تجربتهم أيضاً، لا تتوقف عند تجربتي وتجربة الدكتور النفيسي. أنصحك أن تستفيد من تجربة الشيخ عبدالمجيد الزنداني ولكن بحذر. فتجربة الزنداني فريدة من نوعها تتطلب شجاعة وجرأة. فالشيخ -رحمه الله- لم يتفرَّد في العلم الديني فقط، بل فتح آفاقا واسعة على العلم والسياسة. يكفيه أن نافس زغلول النجار في ما عُرف بالإعجاز العلمي. هذا يعود في جزء منه إلى خبرة سنة كاملة في سنة أولى كلية الصيدلة. كفته سنة واحدة في كلية الصيدلة أن يقدم للبشرية أول وآخر علاج لمرض الإيدز الذي عجزت عنه كبريات شركات إنتاج الأدوية التي تصرف مليارات على البحث العلمي، وألحق ذلك باكتشاف دواء لوباء الفيروس الكبدي، وسوف يحفظ له التاريخ انه كان أول من اكتشف الأعشاب النبوية.

لعلك لاحظت قولي (بحذر)، فالشيخ الزنداني كان واسع الاطلاع ويعرف سيكولوجية الذين يهتفون له، مما سهل عليه الغوص في ملفات الدول الكبرى السرية. كان أول وآخر إنسان اطلع على تقرير مجلس الأمن القومي الأمريكي الذي رفعه لأوباما والذي يؤكد فيه أن المسلمين سوف يعلنون قيام الخلافة الإسلامية في 2025 والزنداني أيضاً أول وآخر إنسان على وجه الأرض الذي قرأ كتاب نائب رئيس الدوما (مجلس النواب الروسي) في كتابه صراع الحضارات الذي قال فيه: في عام 2020 سنشهد قيام حضارة عالمية جديدة تمتد من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غربا واسم هذه الحضارة الخلافة الإسلامية

أطلع على هذا الرابط:

https:/‏/‏youtu.be/‏7-Y7B95QJFg?si=gPZBastWQUQvx8ft

لا شك العلم والثقافة مهمة في تكوينك الفكري خصوصاً إذا أضفت أي شهادة دكتوراه تزخرف بها اسمك، ولكن الأهم أن تتحلى بأخلاقيات زغلول النجار والنفيسي، وفي مقدمة الجميع أخلاقيات الشيخ عبدالمجيد الزنداني.
00:03 | 3-05-2024

هل مؤسس النصر سوداني والهلال تكروني ؟

يردد جمهور الهلال أن مؤسس النصر سوداني، ويقول مشجعو النصر إن مؤسس الهلال تكروني.. قضية مطروحة يتبادلها جمهور الفريقين في كل مناسبة من باب التعاير وتقليل الشأن. حكايات في صورة اتهامات تنطوي على تعالٍ وعنصرية. ماذا لو أسس الهلال أو النصر أمريكي؟ هل سيكون الأمر مثار تحقير ومعايرة؟ جوهرة الاقتصاد السعودي أرامكو من أسسها؟

كرة القدم لم تخترع في المملكة ولا في السودان، ولكنها حطت في كثير من بلاد العالم إلى أن وصلت إلينا، بيد أنها لم تكن تجمعاً محلياً مغلقاً كالقبيلة أو العائلة. عندما تعيش في أي دولة أجنبية ستجد نفسك منخرطاً في حياة الناس من حولك. من يحب كرة القدم سيجد نفسه بشكل طبيعي ميالاً إلى فريق دون الفرق الأخرى في البلد الذي يعيش فيه. فمن يعيش اليوم في بريطانيا سيجد نفسه جزءاً من حياة الناس اليومية. يشارك في الاحتفالات ويسهر مع أهل البلد في أماكن السهر ويغشى المطاعم والمقاهي والمسارح. أجنبيته لا تعني أن يبقى في منزله بعد أن ينهي عمله ينتظر صباح اليوم التالي، فعدا عن بعض الامتيازات الخاصة التي لا تطاله يتساوى مع مواطني البلد الذي يعيش فيه. كل من يعمل في الواقع هو يساهم في بناء البلد حتى لو لم تكن بلده. مساهمة غير المواطن في أي بلد لا تقتصر على عمله المتعاقد عليه. كثير منهم يسهم في إثراء الثقافة والفن والرياضة والحياة الاجتماعية.

لو عاد الذين يعيرون بعضهم بعضاً إلى الوراء، إلى زمن البدايات لنقل الستينيات من القرن الماضي، سيرون أن مجتمع ذاك الزمن كان أكثر انفتاحاً وأكثر تواضعاً منهم رغم بساطته وقلة احتكاكه بالعالم الخارجي. كان كثير من جماهير الناديين الهلال والنصر و(بقية الفرق طبعاً) من السودانيين واليمنيين، كان لهاتين الجنسيتين على وجه الخصوص فضل عظيم في تطور الكرة في مدينة الرياض؛ كان منهم اللاعب والإداري والمساعد والفراش وبالطبع المشجع المخلص. (اقرأ رواية شارع العطايف). بالإضافة لاشتغالهم في النوادي كانوا يسهمون في الخدمات المساندة؛. يخيطون الملابس ويصنعون الأحذية الرياضية (البوت) ويهتفون في المدرجات. كانت هاتان الجنسيتان في غاية الانسجام مع محيطها السعودي. الشيء المهم الذي يجب أن يدركه هؤلاء (المعايرتية) أن السودانيين هم من جلب الكرة إلى المملكة، وساهموا في التأسيس بشكل جوهري. كانوا المدربين والحكام واللاعبين قبل أن تنتقل صناعة الكرة إلى المرحلة المؤسساتية لتقتصر قيادتها على السعوديين.

يبدو أن عقلية كثير من الجمهور في المملكة ما زالت تفكر أن انتماءها للنادي كانتمائها للقبيلة أو العائلة؛ غرف مغلقة على أهلها لا يشارك فيها الغرباء. المشكلة ليست في غوغائية الجماهير، فمع الأسف تسمع بعض رؤساء الأندية يعير الأندية الأخرى بنادي (الجاليات). الغريب أن ترى هذا المشجع الذي يعير النوادي الأخرى بنادي الجاليات يشجع في الوقت نفسه ريال مدريد الإسباني أو ليفربول البريطاني دون أن يسأل هل رئيس ريال مدريد يطلق عليه وأمثاله (الجاليات)؟

الرياضة والفن والأدب والعلم لا وطن لها، وطنها هو الإنسان نفسه أينما حل.

يعيش في المملكة أكثر من 10 ملايين نسمة من غير السعوديين، لا أعرف لماذا نهمل هذه الكتلة البشرية الكبيرة، متى يتم العمل على دمجهم في الحياة العامة، فبقدر ما سوف يشعرون به من دفء وانتماء للبلاد السعودية سوف تنمو اقتصاديات الفن والرياضة، فيتضاعف الحضور الجماهيري في كل الفعاليات.

من غير المنطقي أن نستجدي متابعة الجماهير العالمية على شاشات التلفزيون للكرة السعودية ونتفاخر بها، ثم نتجاهل ونحيد هؤلاء الذين يشاركوننا حياتنا يوماً بيوم. فكما رسمنا استراتيجية لعولمة الكرة السعودية بصناعة دوري عالمي علينا أولاً عولمة الكرة السعودية في الداخل.
00:38 | 15-03-2024

احتفوا بموته وأهملوا حياته

ترك عالمنا واحد من أهم رواد الفن في المملكة. لا أتذكر أن فناناً أسهم بالقدر الذي أسهم به عبدالعزيز الهزاع في الأيام القديمة. فمنذ لحظة وعيي الأولى بهذا العالم كان الهزاع ماثلاً أمامي، يمتعني وأنتظره في اليوم التالي طوال شهر رمضان. يحس كل من يستمع إليه أن فن هذا الفنان موجه له ولكل الأعمار وكل الفئات وكل المناطق. شكّل وحده «كاست» طاقماً كاملاً من الفنانين. شخصيات لا يمكن إلا أن تحبها وتتأكد أن كلاً منها جزء من بيتك وأهلك والجيران. كانت أعماله تقدم مع الإفطار الرمضاني الحافل بالشوربة أم عسكري والسمبوسة واللقيمات والماسية والتطلي. كان يشاركنا هذه اللذائذ التي لا نعرفها إلا في إفطار رمضان وبحضوره. ما إن ننتهي من تناول طعام الإفطار حتى نتحلّق على الراديو نستمع لأم حديجان. لم نكن نعرف من أين تأتي إلينا هذه المتعة أمن الأطعمة اللذيذة أم من حضوره الفاتن. ارتبطت في ذاكرة طفولتي أم حديجان مع ألذ ما كنت أتناوله في حياتي. وجبتان من اللذة والضحك الجميل لا يمكن الاستغناء عن أي منهما في تلك اللحظات الراحلة.

لم نشاهد أم حديجان أبداً ولا أم سراج ولا أي من شخصياته الأخرى، بيد أن كلاً منا صنع هذه الشخصيات في خياله من الخامة المحلية. فهذه أم حديجان النجدية وتلك أم سراج الحجازية. ولكن من شدة حضور شخصياته في حياتنا كنا نراها كما نرى أهلنا ومحيطنا. لا نهتم أن كل هذه الشخصيات هي في الواقع رجل واحد يقف وراء مذياع. يا له من تألق وإبداع.

لا أعلم هل كان يقلد فناناً أجنبياً كما نفعل في كثير من منتجاتنا الفنية اليوم، بيد أن المؤكد أني لم أصادف فناناً أجنبياً يقدم شيئاً شبيهاً بما قدمه الراحل، وما يؤكد أنه كان فنان نسيج وحده وخلاقاً أن كل شخصياته نعرفها كأنها جيراننا لا تشوبهم شائبة مستوردة. علينا أن نعلم أن هذا الكلام الذي أسوقه أمامك جرت أحداثه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي. قبل حضور الصورة في بيوتنا، كل ما كنا نستمتع به نسمعه من الراديو فقط. وأخيراً فوجئت أن فنان طفولتنا مات عن عمر ناهز التسعين. طوته أمواج السنين فانسحب من حياتنا وخفت في الذاكرة حتى جاء موته ليحييه.

تسابقت جماعات في «إكس» وغيرها لتعلن موته، ولم أصادف إلا القليل ممن كلف نفسه بذكر كم كان عمره لحظة وداعه للحياة، ولم يكلف أحد نفسه أن يذكر بعض أعماله وزمن تألقه، فضلا عن أن يبحث في قوقل عن شيء من أعماله كي يعرضها على ملايين الأجيال الجديدة. 90% من رواد «إكس» أو السوشيال ميديا لا يعرفونه وربما لم يوجد في ذاكرتهم أصلا.

بصراحة، هذه ظاهرة طبيعية حتى عند العاملين في الإعلام مع الأسف: إذا ماتت شخصية عامة تسابقوا على نشر خبر موتها بالدعاء، وهذا طيب، ولكن قليل منهم يضيف شيئاً عن شخصية الراحل، تعرف بحياته ولماذا الاحتفاء به وماذا قدم لك أو للناس. أما أن ينظر إليه بعضهم كخبر عاجل يفوز به لعله يضيف متابعين جدداً، فهذه مأساة.
00:05 | 23-02-2024

صورة مروعة للموساد من الداخل

لنبتعد قليلاً عن زحمة ما يحدث من دمار في غزة ونلقي نظرة بانورامية على عملية طوفان الأقصى. لماذا لم تعرف المخابرات الإسرائيلية والس آي إيه والام أي سكس عن عملية طوفان الأقصى قبل حدوثها.

غزة منطقة ضيقة مساحتها لا تتجاوز مساحة عدد من الأحياء في الرياض ومكتظة بأكثر من مليوني نسمة، جلهم من الفقراء والبائسين واليائسين وفاقدي الأمل في المستقبل، وتعلمنا وأقتنعنا أن المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية ينصتون حتى لدبيب النمل في بيوتنا.

مدينة مثل غزة أو غزة ذاتها مكان سهل للحصول على مخبرين. كل الأمم لا تخلو من الخونة، فكيف سيكون الأمر في بلاد يغرق أهلها في البؤس واليأس والفقر. وإسرائيل تملك الأموال وأحدث تقنيات التجسّس والتحسّس وتملك اليد الطولى في غزة، وتحصل على الدعم المخابراتي والتقني اللامحدود من بريطانيا وأمريكا وألمانيا وبقية الدول الغربية، ومع ذلك استطاعت حماس اقتحام الحدود الإسرائيلية المترسة بالأسمنت والكاميرات والرقابة، وأن تحوس وتدوس مدة ساعتين وتشحن عشرات الرهائن وتعود إلى ثكناتها غانمة سالمة. وقبل هذا كانت حماس تبني الأنفاق والمتاهات تحت الأرض وتحشد الأسلحة وتصنعها وتستوردها وتوظّف المقاتلين وتدربهم. كأن هذا يحدث في القطب الشمالي لا تحت أرجل الإسرائيليين. من يفسر هذا الأمر المحيّر؟

جواب هذه المسألة المحيّرة يكمن في المثل الشعبي الذي يقول (نصف الحرب دهولة) فالدهولة مراحل: الأولى (حسبما أرى) يعتمد على قوة الإعلام في إضعاف وتيئيس إرادة العدو، والمرحلة الثانية عندما يتبنى العدو محتوى الدهولة واعتبارها حقيقة، والمرحلة الثالثة عندما يسلك العدو سلوك الإذعان ويسمي سلوك هذا واقعية.

هذه الدهولة الإسرائيلية ساعدت الزعماء الفلسطينيين على قتل بعضهم بعضاً بعد أن توفر لهم المتهم الجاهز. يستطيع القيادي الفلسطيني قتل منافسه ونسب جريمته للموساد. من يراجع سجلات اغتيالات الزعماء الفلسطينيين من السبعينات إلى اليوم والصراع بين الفصائل الفلسطينية على المراكز والمال سيتمكن من الفرز إلى حد ما بين من اغتالتهم إسرائيل ومن تم تصفيته في الصراع الداخلي.

في عام 1990 صدر في كندا كتاب بعنوان (عن طريق الخداع) وبعنوان جانبي (صورة مروعة للموساد من الداخل) أحدث ضجة كبيرة بعد أن اعترضت عليه الحكومة الإسرائيلية واحتجت أمام القضاء الكندي مما عظم الإقبال على قراءته، فالكتاب في صورته العامة يفضح الأساليب القذرة والخطيرة التي تنتهجها «الموساد» في التعامل مع أعداء إسرائيل ولكن عندما تنتهي من قراءته لا تملك إلا أن تكبر وتعظم هذا الجهاز وتصاب بالرعب واليأس. قيمة هذا الكتاب أن مؤلفه أحد العاملين المتقاعدين في الموساد، حيث يسرد فيه خطوات التوظيف والعمل والطرق التي يتبعها لمواجهة أعداء إسرائيل، عندما تنتهي من قراءته ستشعر بأنك أمام جهاز أسطوري.

الحروب لا تقوم على القوة العسكرية فقط، فالقوة الحقيقية تكمن في الإعلام الذي ينشر اليأس في صفوف الجماهير المعادية. كثير منا اليوم على قناعة أن إسرائيل دولة متقدمة علمياً وتقنياً ومخابراتياً... إلخ ونتجاهل تماماً أنها تعيش بكاملها في حضن الولايات المتحدة. إسرائيل دولة غنية ومع ذلك مازالت تتلقى المساعدات المالية والعسكرية والاقتصادية، والأهم المساعدات البحثية في كل مجال دون أن ندرك أن كل صناعة إسرائيلية هي في نهاية الأمر أمريكية كالقبة الحديدية والدبابات والرشاشات وغيرها. المساعدات التي تتلقاها إسرائيل سنوياً من الدول الغربية تكفي لتصنع من الصومال دولة أكثر تقدماً من السويد ومع ذلك لم ترتق إسرائيل إلى دولة مستقلة تستطيع السباحة في هذا العالم وحدها. ما نعرفه عن إسرائيل هو الوجه الذي يقدمه لنا الإعلام وخصوصاً من العرب الذين دفعتهم الدهولة إلى اليأس. من النادر أن يعرف المثقف العربي بنية إسرائيل الاجتماعية ومستوى انتماء الإسرائيلي لدولته لأنه لا يسمع إلا ما تبثه إسرائيل عن نفسها وهذا معنى أن نقول نصف الحرب دهولة.
00:10 | 5-01-2024

متى نكف عن تقديس الإعلام الغربي ؟

بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، ثم الهجوم الإسرائيلي على غزة، أصبح اللعب على المكشوف.

ثقافات وقيم تربينا عليها أزمنة حتى أصبحت في وعينا حقائق تكاد لا تقبل الدحض؛ أولى هذه القيم حرية الإعلام وحرية التعبير المقدسة في البلاد الغربية. في أول زيارة لبريطانيا كان أول شيء زرناه ووقفنا عليه ركن الخطباء في حديقة الهايد بارك بلندن. كنا نسمع عنه ثم سمعنا بأذاننا خطابات الخطباء في ذاك الركن الإعلامي الشهير. عرفنا أن من حقك أن تقف على جالون أو صندوق أو أي شيء يعلو بك على الآخرين وتقول كل ما تريد أن تقوله. تنتقد ملكة بريطانيا وتسخر منها ومن رئيس وزرائها وتنتقد الكنيسة وتنتقد حكومات العالم إذا شئت. صحب هذا إذاعة (هنا لندن) التي كان العرب ينتظرونها لتخبرهم بالحقائق التي تخفيها عنهم حكوماتهم، وعرفنا أن هذه الحرية العظيمة متوفرة أيضاً في الصحافة البريطانية والغربية على وجه العموم، فالقانون في الغرب يحمي حق التعبير المقدس.

من أهم الطرائف التي تداولناها قبل سنوات تلك الطُّرفة التي رواها الرئيس الأمريكي رولاند ريجان: أن مواطناً أمريكياً قال لمواطن روسي نحن في أمريكا نستطيع أن ننتقد الرئيس الأمريكي دون أن يعترضنا أحد، فرد عليه الروسي قائلاً ونحن أيضاً يحق لنا نقد الرئيس الأمريكي في روسيا دون أن يعترضنا أحد، فضحك الجمهور حتى بانت نواجذهم وضحكنا أيضاً.

لحظة دخول الجيش الروسي أوكرانيا فوجئنا برد فعل غربي بدا لنا غريباً. توحَّد الإعلام الغربي وأصبح ميكروفوناً واحداً، ثم توالت القرارات اللاغية للقيم التي تعودناها منهم، نسوا أن الرياضة لا علاقة لها بالسياسة، وتبين أن الاتحادات الرياضية هي أداة سياسية عند الحاجة، وأغلقوا أي منبر إعلامي يعبِّر عن وجهة النظر الروسية ونهبوا استثمارات المستثمرين الروس.

أما بعد حادثة 7 ديسمبر فأصبح اللعب على المكشوف، أسقطوا كل القيم ولم يستثنوا منها حتى قتل الأطفال، تنزل آلاف القنابل تدمر المستشفيات وتمسح المدارس من على وجه الأرض وتسحق كبار السن وتطارد الهاربين من الجحيم وتقتل الصحفيين. كل هذا صار اسمه في الإعلام الغربي دفاعاً عن النفس. فتأكد لكل من يريد أن يعرف الحقيقة أن الإعلام الغربي يديره جهاز واحد (حرفياً). نفس السؤال الذي يطرح في الـ(سي إن إن) يطرح في (فوكس نيوز) وفي الـ(بي بي سي) وغيرها من الميديا. صياغة السؤال واحدة ويجب أن يكون الجواب واحداً. يختفي عند اللزوم الفرق بين الإعلام الغربي وإعلام كوريا الشمالية الذي كنا ندينه معهم.

في مواجهة العقيدة الراسخة في عقولنا كنا نبرر ونغفر أي خروج على المبادئ من أي مسؤول غربي. تصدر أمريكا بيانات تنديد شديدة اللهجة ضد الصين أو روسيا أو زمبابوي والدول العربية شرقاً وغرباً. كانت انتهاكات حقوق الإنسان في دول العالم (غير الديموقراطية) توجع المؤسسات الغربية وتبكيها. كنا نؤيدها حسب الحاجة. إذا كانت موجهة ضد خصومنا أبرزناها وبروزناها، وإذا كانت موجهة ضدنا أبرزها خصومنا وبروزوها، وبهذا التبادل المستمر اكتسبت بيانات الدول الغربية المتعلقة بنا صدقية تكاد تصل إلى القدسية، وتطور الأمر حتى أصبحت تقارير الصحف الغربية عنا وعن خصومنا مرجعية ندعم بها آراءنا. تسمع من يقول بكل ثقة «النيويورك تايمز ذكرتها يا أخي» فيصمت الطرف الآخر مسلّماً طالما أوردتها الـ(نيويورك تايمز) أو (الواشنطن بوست) أو (الفرون بولسي) وحتى الـ(صن البريطانية).

متى نكف عن تأليه الإعلام الغربي.
00:26 | 29-12-2023