أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1235.jpg&w=220&q=100&f=webp

علي محمد الحازمي

الديموغرافيا والتخطيط الاقتصادي..!

أظهرت دراسة حديثة انخفاض معدل الخصوبة في المملكة العربية السعودية من مستويات مرتفعة تاريخيًا قاربت سبعة مواليد لكل امرأة، إلى نحو 2.1 مولود، وهو مستوى يقترب من حد الإحلال السكاني. ولا يختلف اثنان على أن هذه المرحلة تمثّل نقطة انتقالية مهمة على الصعيد الديموغرافي، تتزامن مع تحوّلات اقتصادية واجتماعية واسعة. ومن هنا، فإن هذه التطوّرات لا تستدعي القلق بقدر ما تستدعي قراءة استباقية واعية، بوصفها جزءًا طبيعيًا من مسار التنمية والتحديث الذي تمر به الاقتصادات الصاعدة والمتقدّمة على حد سواء.

لقد شهدت المملكة خلال السنوات الأخيرة تحوّلات اجتماعية واقتصادية جوهرية، من أبرزها ارتفاع مستويات التعليم، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، وتغيّر أنماط الحياة. وتمثّل هذه التحوّلات مكاسب تنموية حقيقية تعكس تقدّمًا في بنية الاقتصاد والمجتمع. غير أن هذه المكاسب، إذا لم تُواكب بسياسات موازنة ومدروسة، قد تفرز آثارًا جانبية ديموغرافية، من أبرزها انخفاض معدلات الخصوبة وتأخر تكوين الأسر.

وفي هذا السياق، لم تعد المتغيّرات السكانية شأنًا اجتماعيًا بحتًا كما كان يُنظر إليها في السابق، بل أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي وصناعة السياسات العامة. فالديموغرافيا اليوم تمثّل أحد المحددات الرئيسة لقدرة الاقتصادات على تحقيق نمو مستدام، وقياس كفاءة أسواق العمل، وتقدير حجم الطلب المحلي، واستشراف الضغوط المستقبلية على المالية العامة.

اقتصاديًا، يرتبط النمو طويل الأجل بتوازن دقيق بين حجم السكان، وتركيبتهم العمرية، ومستوى إنتاجيتهم. ومع تحسّن مستويات التعليم، وارتفاع معدلات المشاركة في سوق العمل، وتغير أنماط المعيشة، تميل معدلات النمو السكاني في كثير من الدول إلى التباطؤ. ويُعد هذا الاتجاه قابلًا للإدارة متى ما جرى استيعابه ضمن نماذج التخطيط الاقتصادي بعيدة المدى، بما يضمن تحويله من تحدٍ محتمل إلى عنصر قابل للتكيّف.

يُعد توزيع السكان بحسب الفئات العمرية أحد الجوانب المحورية في هذا الإطار. فالحفاظ على نسبة متوازنة من السكان في سن العمل يظل عاملًا مهمًا لدعم التوسع الاقتصادي وتلبية احتياجات القطاعات الإنتاجية والخدمية. وفي المقابل، فإن أي تحوّل تدريجي في هذه التركيبة يتطلب استعدادًا مؤسسيًا مبكرًا، لا سيما فيما يتعلق بأنظمة التقاعد، والرعاية الصحية، وسياسات سوق العمل.

ترتبط هذه الاعتبارات ارتباطًا مباشرًا بمستهدفات التنويع الاقتصادي ورفع تنافسية الاقتصاد الوطني. فمواءمة الاستثمارات مع الخصائص الديموغرافية المستقبلية تُعد شرطًا أساسيًا لتعظيم العائد الاقتصادي والاجتماعي، وضمان استدامة مكتسبات التنمية. وعليه، تمثّل الديموغرافيا اليوم متغيّرًا اقتصاديًا لا يقل أهمية عن الاستثمار أو الإنتاجية، وإدماج هذا البعد ضمن منظومة التخطيط الإستراتيجي يعزز من قدرة الاقتصاد السعودي على التكيف مع المتغيّرات، ويسهم في بناء مسار تنموي متوازن ومستدام يخدم الأجيال الحالية والمستقبلية.

00:02 | 25-12-2025

الذكاء الصناعي بين الفقاعة والقيمة!

في كل تحوّل تقني كبير، يتكرر السؤال ذاته: هل نحن أمام ثورة حقيقية تعيد تشكيل الاقتصاد، أم أمام فقاعة تضخم سرعان ما تنفجر؟ اليوم يُلح علينا هذا السؤال بقوة حول الذكاء الصناعي، في ظل الارتفاع الحاد في تقييمات الشركات، وتسارع الاستثمارات، وتزايد الحديث عن مستقبل الوظائف والإنتاجية.

إذا نظرنا من زاوية الأسواق المالية، تبدو بعض مؤشرات «الفقاعة» حاضرة وبقوة. وهذا ملاحظ من خلال شركات تُقيَّم بمليارات الدولارات قبل أن تحقق عوائد ملموسة، وتدفقات استثمارية تقودها التوقعات أكثر مما تقودها النتائج. من يقرأ التاريخ جيداً سيدرك أن هذا السلوك ليس جديدًا؛ فقد شهد العالم شيئًا مشابهًا في مطلع الألفية بما يسمى فقاعة الإنترنت، حين انفجرت التقييمات قبل أن تستقر التكنولوجيا في مسارها الطبيعي.

وحتى تتضح الرؤية، الاقتصادات لا تُقاس فقط بحركة الأسواق المالية، وإنما بما يترجم على أرض الواقع من اقتصاد حقيقي. وهنا تتغيّر الصورة، فالذكاء الصناعي بخلاف كثير من التقنيات السابقة، حيث إنه بدأ يُظهر أثرًا واضحًا على الإنتاجية، وهي المؤشر الأهم لأي ثورة اقتصادية. فعلى سبيل المثال، في الصناعة يُستخدم الذكاء الصناعي في الصيانة التنبؤية وتقليل الأعطال، وفي الصحة يسهم في التشخيص المبكر وتقليص الأخطاء الطبية، وفي الخدمات يرفع كفاءة العمليات ويخفض زمن الإنجاز والتكلفة.

وفي ضوء ما سبق، يكمن الفرق الجوهري، إذًا هو بين فقاعة مالية محتملة وثورة إنتاجية حقيقية. الفقاعات تولد حين تنفصل التقييمات عن القيمة المضافة، لكنها لا تُلغي جوهر الابتكار. فحتى فقاعة الإنترنت، رغم خسائرها، كانت البوابة التي خرج منها اقتصاد رقمي عملاق غيّر وجه العالم فيما بعد.

حتى نطلق على الذكاء الصناعي ثورة حقيقية من منظور اقتصادي، لا بد من أن يترافق معه خفض تكاليف الإنتاج، ورفع إنتاجية القوى البشرية، وتحسين جودة القرار. المؤكد اليوم، أن كل المؤشرات تشير إلى أنه يسير في هذا الاتجاه، وإن كان بوتيرة متفاوتة بين القطاعات والدول. ولهذا فإن السؤال الأدق ليس: هل الذكاء الصناعي فقاعة أم ثورة؟ بل: من سيحوّله إلى إنتاجية حقيقية، ومن سيكتفي بملاحقة الضجيج الاستثماري؟

إجابة السؤال أعلاه، يعتمد اعتماد كلياً على الدول التي تميّز بين الضجيج والقيمة. فالأسواق قد تضخّم التوقّعات وتولّد ضجيجًا ماليًا مؤقتًا، في حين تُترجم القيمة الفعلية إلى مكاسب إنتاجية مستدامة تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي.

00:01 | 18-12-2025

جازان.. ركيزة الجنوب الاقتصادي..

في خريطة التحوّلات الاقتصادية التي تشهدها المملكة اليوم، تبرز جازان كواحدة من أكثر المناطق استعدادًا لتكون محركًا اقتصاديًا مهّمًا خلال العقد القادم، ليس لأنها تحمل إمكانات غير مستغلة فقط، بل لأنها تمتلك مزيجًا فريدًا من الموارد والموقع والبنية التحتية. وفي هذا السياق، تنطلق في جازان الأسبوع القادم جولة مسك، وهي مبادرة تهدف إلى إلهام الشباب الواعد في المنطقة وتمكينهم من اكتشاف مسارات جديدة في الإبداع وريادة الأعمال والابتكار. وستتضمّن الجولة جلسة حوارية بعنوان «جازان أرض الفرص وبوابة المستقبل»، وهي جلسة تعكس عمق التحوّلات التي تشهدها المنطقة والدور المتنامي للشباب في صياغة مستقبلها الاقتصادي. وجود مثل هذه المنصات يؤكد أن جازان ليست مشروعًا حكوميًا فقط، بل مشروعًا مجتمعيًا تشارك فيه المواهب الشابة لبناء اقتصاد جديد يقوم على الطموح والعمل والابتكار.

اقتصادياً، منطقة جازان تقف على شريط ساحلي إستراتيجي من أهم الممرات البحرية العالمية، على مقربة من خطوط التجارة التي تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا، وهو ما يجعلها نقطة ارتكاز رئيسية في «طريق البحر الأحمر الاقتصادي» الذي أصبح اليوم أحد أعمدة التجارة الدولية. هذا الموقع لم يعد مجرد ميزة جغرافية، بل تحوّل إلى ميزة تنافسية اقتصادية مع جاهزية الميناء، والمنطقة الصناعية، وتكاملها مع الممرات اللوجستية الوطنية.

عندما ننظر إلى مدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية، ندرك أن المنطقة مشروع اقتصادي ضخم يعيد صياغة مستقبل الجنوب السعودي. فالمشاريع الصناعية القائمة والمخطط لها، من الطاقة والبتروكيماويات إلى المعادن والغذاء ستخلق منظومة إنتاج جديدة تدعم سلاسل التوريد المحلية، وتفتح الباب أمام توطين صناعات عالية القيمة. ومع اكتمال ربط المنطقة بالموانئ والطرق المحورية، ستصبح جازان إحدى أهم المرتكزات الصناعية واللوجستية في المملكة.

وهنا لابد من بيان، أن القوة الصناعية ليست وحدها ما يجعل جازان اقتصاد المستقبل. فالمنطقة تضم ثروة زراعية لا تتكرر في أي منطقة سعودية أخرى. كيف لا! وهي منطقة البن العربي ومزارع المانجو والموز والفاكهة الاستوائية، والتي تعد موارد ليست فقط ذات قيمة غذائية، بل ذات قيمة اقتصادية وسياحية أيضاً. ومع توجّه المملكة لتعزيز الأمن الغذائي والصناعات الزراعية، تصبح جازان مركزًا حيويًا لبناء سلاسل قيمة زراعية حديثة قادرة على المنافسة والتصدير.

ولا يمكن الحديث عن جازان دون ذكر جزر فرسان، أحد كنوز المملكة الطبيعية، والتي تمتلك مقوّمات تجعلها وجهة عالمية للسياحة البحرية ذات الشواطئ البكر، والمحميات الطبيعية، والحياة البحرية الغنية، وهي عوامل تتماشى مع إستراتيجيات السياحة الوطنية في تنويع التجارب المميزة وجذب الزوار من داخل المملكة وخارجها. فرسان قادرة على أن تكون «رئة سياحية» لجازان، ومحورًا لصناعة سياحة مستدامة تشكّل مصدر دخل وفرص عمل على مدى طويل.

علاوة على ذلك، في ظل وجود بنية سكانية شابة، وارتفاع الطلب على الخدمات، وتوسع مشاريع الإسكان، وتطوّر البنية التحتية للمطار والميناء والطرق، فإن المنطقة تمتلك كل مقوّمات التحول إلى اقتصاد ديناميكي قادر على جذب الاستثمارات وتوليد الوظائف وتعزيز التنوع الاقتصادي. المؤكد أن «جازان أرض الفرص وبوابة المستقبل» ليست شعارًا، وإنما وصف دقيق لمسار بدأ فعليًا، وتزداد سرعته عامًا بعد عام. فهذه المنطقة تمتلك ما يكفي لتكون مركزًا صناعيًا، وزراعيًا، وسياحيًا، ولوجستيًا يخدم المملكة والمنطقة، ويضيف قيمة اقتصادية حقيقية في العقد القادم وما بعده.

00:00 | 11-12-2025

ميزانية توسعية لا تخشى العجز

في الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى شدّ الأحزمة، وخفض النفقات، واعتماد سياسات مالية أكثر تشدّداً بسبب تباطؤ النمو وارتفاع مستويات الدَين وتزايد حالة عدم اليقين، أعلنت السعودية هذا الأسبوع ميزانية توسعية تعاكس هذا الاتجاه العالمي. قد يبدو هذا التوجه استثنائياً، لكنه في الحقيقة يعكس فلسفة اقتصادية واضحة ترى أن الاستثمار في التحوّل الوطني اليوم أقل كلفة من تأجيله، وأن إنهاء المشاريع الكبرى هو الطريق الأسرع لتعظيم العوائد الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.

عالمياً، تتراجع الاستثمارات العامة في معظم الدول المتقدّمة. الولايات المتحدة وأوروبا تتأثران بارتفاع كلفة التمويل نتيجة الفائدة المرتفعة، بينما تتعامل اقتصادات آسيوية عديدة مع ضغوط الديون وضعف الإنتاجية. ومن هذا المنطلق، تفضّل الحكومات العالمية تقليص الإنفاق الرأسمالي وتأجيل المشاريع الكبرى، ليس رغبة في الإصلاح، بل خشية من تضخم جديد أو هزات مالية غير محسوبة.

في المقابل، السعودية تسير عكس هذا المسار بدافع الثقة البنيوية في قوة اقتصادها ووضوح أهدافها. السبب الأول لهذا التفرد هو أن مستويات العجز في الميزانية السعودية تبقى من الأدنى عالمياً مقارنة بالاقتصادات الكبرى. فبينما يسجل العجز الأمريكي ما بين 6 إلى 8% من الناتج، والأوروبي بين 4 و6%، تحافظ المملكة على عجز منضبط ومرن، مدعوماً بمزيج من قوة المالية العامة وانخفاض الدين العام ووجود أصول استثمارية كبيرة عبر الصناديق الحكومية. بمعنى آخر، العجز السعودي ليس نتاج خلل هيكلي في الإيرادات، بل نتيجة استثمار متعمّد في مشاريع مستقبلية.

السبب الثاني أن الإنفاق السعودي ليس إنفاقاً استهلاكياً، بل إنفاق رأسمالي موجّه نحو قطاعات عالية العائد تتمثل في البنية التحتية، والصناعة، واللوجستيات، والسياحة، والطاقة المتجدّدة، والنقل، والتقنية. هذه المشاريع ليست مجرد منشآت، بل ركائز لإنتاجية أعلى ستولد إيرادات غير نفطية، ووظائف نوعية، وحركة استثمارية متسارعة في السنوات القادمة. وهنا تبدو الفلسفة واضحة، إنهاء المشاريع الكبرى اليوم أفضل بكثير من إبطائها أو إعادة جدولتها، لأن كلفة التأخير أعلى من كلفة التمويل نفسه.

تتبنى السعودية اليوم إستراتيجية مالية شبيهة بما قامت به الاقتصادات التي نجحت في التحوّل الهيكلي خلال العقود الماضية. على سبيل المثال، اليابان استثمرت بكثافة في بنيتها التحتية رغم ارتفاع الدين، والولايات المتحدة أطلقت أكبر خطط صناعية منذ الثمانينيات عبر قانون CHIPS، وكوريا الجنوبية ضاعفت إنفاقها الاستثماري رغم تباطؤ النمو. الفكرة الجوهرية هنا هي أن الدول لا تتقدم عبر تقليص الإنفاق، بل عبر توجيهه نحو القطاعات التي تضاعف الناتج لاحقاً.

الميزانية السعودية للعام 2026 تحسب كإستراتيجية نمو مدروسة، ترى أن المستقبل يُصنع بالاستثمار الذكي لا بالتأجيل. وبهذا التوجه، ترسّخ السعودية موقعها كأحد الاقتصادات القليلة التي تبني نموها في وقت يتراجع فيه الآخرون.

00:21 | 4-12-2025

الزيارة التي أكّدت مسار المستقبل..!

في الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد العالمي واحدة من أكثر مراحله ضبابية خلال السنوات الأخيرة، تؤكد السعودية تحركها في مسار مختلف تماماً. فبينما تنكمش التوقّعات في العواصم الاقتصادية الكبرى، وتتصاعد مخاوف الركود، وتستمر أسعار الفائدة المرتفعة في إضعاف شهية الاستثمار حول العالم، يبرز الاقتصاد السعودي كحالة منفصلة عن السياق الدولي، حالة تتقدّم بينما يتراجع الآخرون، وتبني بينما تتردد دول كثيرة في اتخاذ القرار. العالم اليوم يعيش دورة تباطؤ واضحة؛ التجارة الدولية تفقد زخمها، أسعار الطاقة تتأثر بضعف الطلب الصناعي، الأسواق المالية تعيش حساسية كبيرة تجاه أي تغيّر في سياسات الفائدة، وحتى الاقتصادات الكبرى التي كانت تُعرف بقدرتها على امتصاص الصدمات باتت تبحث عن حلول تبقيها فوق خط النمو على أقل تقدير. ومع ذلك، تخطو المملكة في لحظة اقتصادية أكثر اتساعاً من أي وقت مضى، ليس لأنها محصّنة من التباطؤ العالمي، وإنما كونها تبني اقتصاداً لا يعتمد على الظروف الخارجية بقدر اعتماده على مشروع تحوّل داخلي عميق.

منذ سنوات، تتجه السعودية نحو إعادة تشكيل اقتصادها جذرياً، بعيداً عن دورات النفط التقليدية، وبعيداً عن قراءة الاقتصاد من منظور موسمي أو ظرفي. الاستثمار في البنية التحتية، وتطوير الصناعات، وتوسيع قطاع اللوجستيات، ودخول مجالات التقنية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، كلها خطوات تشير إلى أن المملكة تسير وفق نموذج اقتصادي جديد تماماً؛ نموذج يراهن على المستقبل، لا على تقلبات الأسواق الآنية. هذا النموذج هو ما يفسر قدرتها على التحرك بثقة بينما تتباطأ حركة الاقتصاد العالمي. بعيداً عن تحسّن الظروف الاقتصادية العالمية يصنع الاقتصاد السعودي ظروفه الخاصة. لا ينتظر تراجع الفائدة كي يبدأ الاستثمار، ولا يربط نموه بمزاج الأسواق الدولية، بل يقوم على رؤية أوسع من دورات الاقتصاد التقليدية.

في قلب هذا التحوّل، جاءت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى الولايات المتحدة لتضيف بعداً أكثر عمقاً لهذا المشهد. الزيارة كانت امتداداً طبيعياً لاقتصاد سعودي يتحوّل من اقتصاد يعتمد على سلعة واحدة إلى اقتصاد يقوم على الابتكار والشراكات التقنية والاستثمار النوعي، وهنا تخرج من كونها حدثاً سياسياً أو بروتوكولياً. العالم يناقش اليوم كيفية الخروج من مرحلة التباطؤ، بينما كانت الرياض في واشنطن تبحث كيفية قيادة المرحلة القادمة من الاقتصاد العالمي، من خلال اتفاقات تمتد إلى قطاعات الذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والصناعات الدفاعية، والاقتصاد الرقمي، والتقنيات الحيوية، وهي القطاعات ذاتها التي ستحدّد شكل المنافسة الاقتصادية خلال العقدين القادمين. بهذا المعنى، حملت الزيارة رسالة واضحة: إن الشراكة السعودية الأمريكية تنتقل من علاقة طاقة تقليدية إلى علاقة تكنولوجية واستثمارية عالية القيمة، علاقة تعكس طموحاً اقتصادياً يتجاوز اللحظة الراهنة إلى ما بعدها. زيارة ولي العهد الأخيرة للولايات المتحدة دليل على أن المملكة تتحرك اليوم استجابةً وصناعة للواقع الحالي والمستقبلي معاً. من يقرأ بين السطور لتلك الزيارة سيشعر لوهلة أن الرسالة كانت واضحة للعالم أجمع، وهي أن الاقتصاد السعودي لا يبحث عن مكانه في خريطة العالم فقط، وإنما يسعى ليكون أحد الذين يرسمون تلك الخريطة في السنوات القادمة.

إن الربط بين هذا التحوّل وبين تباطؤ الاقتصاد العالمي يكشف الفارق الكبير في طريقة تفكير المملكة. فبينما تتردد دول كثيرة في اتخاذ خطوات جريئة خلال فترة التباطؤ، تتحرك السعودية بطريقة معاكسة؛ توسع استثماراتها، تبني قدراتها، تعقد شراكات استراتيجية، وتدخل مجالات جديدة لا تزال حتى الدول المتقدمة تتعامل معها بحذر. هذه ليست مجرد قراءة متفائلة، فهذا واقع تؤكده مؤشرات النمو، والاستثمار، والبنية التحتية، وقدرة المملكة على جذب شركات عالمية إلى الرياض في توقيت تتراجع فيه حركة الاستثمار الدولي.

00:15 | 27-11-2025

خريطة التجارة تُرسم من جديد!

منذ أن انطلقت شرارة الحرب التجارية العالمية في بدايات العام 2018 بين الولايات المتحدة الامريكية والصين، شهدت التجارة العالمية تحوّلاً جذرياً في بنيتها واتجاهاتها، بعدما كانت العولمة تمثل الإطار الاقتصادي المسيطر منذ ثمانينيات القرن الماضي. كان التوسّع في الأسواق العالمية، وانسيابية تدفق السلع، وسهولة سلاسل الإمداد التي تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب هي السمة الغالبة على النظام التجاري العالمي. نشاهد منذ عقد تقريباً هذا النموذج الذي بدا راسخاً لعقود بدأ يتعرّض لهزات قاسية مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، والحروب التجارية بين القوى الكبرى، وأزمة سلاسل الإمداد التي برزت خلال الجائحة، إضافة إلى التغيّرات المعقدة في الطاقة والتكنولوجيا. ومع هذه التحديات، ظهر اتجاه عالمي جديد يستبدل السوق العالمية المفتوحة بنظام يقوم على التكتلات الاقتصادية، حيث تجتمع الدول وفق المصالح السياسية والاستراتيجية قبل الاعتبارات التجارية والاقتصادية.

بدأت فكرة العولمة كمشروع اقتصادي يهدف إلى تعزيز الكفاءة وخفض التكاليف عبر توزيع الإنتاج بين الدول وفق ميزاتها النسبية تحقيقاً لتوجهات العالم الاقتصادي ديفيد ريكارد، لكنها تحوّلت لاحقاً إلى أداة سياسية في يد الدول الكبرى. ومع تزايد الصراع بين الولايات المتحدة والصين خلال العقد الأخير، ظهر بوضوح أن التجارة لم تعد مجرد تبادل للسلع، بل أصبحت ساحة صراع على النفوذ والتكنولوجيا وسلاسل الإمداد. هذا التحوّل أدّى إلى تراجع دور البنية المؤسسية الدولية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية، التي فقدت الكثير من قدرتها على إدارة النزاعات أو وضع قواعد موحدة للسوق العالمية.

ونتيجة لتلك العوامل، بدأت التكتلات الاقتصادية في الصعود بشكل متسارع. فهناك التكتلات الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي أعادت تشكيل تجارتها عبر سياسات حمائية مدعومة بقوانين مثل دعم الصناعات التقنية والطاقة النظيفة، فضلاً عن بناء سلاسل إمداد صديقة بعيداً عن الصين. وفي المقابل، توسع الصين نفوذها من خلال مبادرات كبرى مثل «الحزام والطريق» وتوسيع «مجموعة بريكس»، في محاولة لبناء نظام تجاري ومالي موازٍ. وبين الطرفين، تنمو تكتلات إقليمية مرنة مثل آسيان، وميركوسور، تحاول إيجاد توازن بين مصالح القوى الكبرى والاستفادة من التنافس بينها.

لعبت هشاشة سلاسل الإمداد التي كشفتها الجائحة دوراً مهماً في هذا التحول، حيث أدركت الدول أن الاعتماد على الإنتاج البعيد قد يعرّض اقتصادها للمخاطر. كما أدى صعود السياسات الصناعية إلى عودة مفهوم «صُنع محلياً»، مع توسع كبير في الدعم الحكومي للصناعات الاستراتيجية، خصوصاً التكنولوجيا والأدوية والطاقة. علاوة على ذلك، تلعب الجغرافيا السياسية دوراً كبيراً في إعادة تشكيل طرق التجارة، ما جعل الأمن الاقتصادي مقدماً على الكفاءة الاقتصادية.

من يلاحظ المشهد التجاري العالمي يدرك أن العولمة لم تختفِ، لكنها لم تعد بالشكل الذي عرفناه. فالتجارة العالمية تُعاد صياغتها وفق اعتبارات الأمن، والسياسة، والتحالفات. وفي ظل هذا المشهد المتغير، تمتلك بعض الاقتصادات الصاعدة فرصة تاريخية للتموضع كمراكز تجارية ولوجستية عالمية تربط بين الشرق والغرب، وتستفيد من إعادة رسم خريطة الاقتصاد الدولي خلال العقد القادم.

00:04 | 20-11-2025

لماذا تفشل السياسات الاقتصادية الجيدة أحياناً؟

في كتب الاقتصاد نقرأ حقائق وكأنها وصفات دقيقة ونظن في ذات الوقت أننا سنشاهدها على أرض الواقع بمجرد أن نغلق تلك الكتب، غير أن الواقع يقدّم مشهدًا مختلفًا تمامًا. على سبيل المثال؛ إذا خُفِّضت أسعار الفائدة يحفّز الاستثمار، وإذا ارتفع الإنفاق الحكومي تسارع معه بالتوازي النمو الاقتصادي، وإذا تحسّن الانضباط المالي ارتفعت الثقة. فكم من سياسة وُصفت في انطلاقتها أنها حكيمة إلى أنها انتهت إلى نتائج غير مرغوب بها، وكم من إصلاح اقتصادي كنا نظن أنه مكتمل الأركان اصطدم بجدار الواقع السياسي أو الاجتماعي قبل أن يؤتي ثماره. والسؤال الذي يتكرر في أروقة صُنّاع القرار هو؛ لماذا تفشل السياسات الاقتصادية الجيدة أحياناً؟

على الرغم من أن هناك مبررات لفرضية ثبات العوامل الأخرى عند التحليل الاقتصادي، إلا أنها أثبتت جمودها وعدم جدواها في رسم السياسات الاقتصادية، وخاصة في ظل عالم اقتصادي متغيّر بين الفينة والأخرى. فالنماذج الاقتصادية تفترض أن الأفراد عقلانيون، وأن الأسواق مرنة، وأن المؤسسات في غاية الاستقرار، لكنها في الواقع ليست كذلك. فالمستهلك يتصرف أحياناً بدافع الخوف لا المنفعة، ورجل الأعمال قد يتردد أمام غموض المستقبل، والبيروقراطية قد تفرغ الإصلاح من محتواه. وهنا يحدث الانفصال بين العقل الاقتصادي في النموذج والعقل الإنساني في الواقع.

الأمر الآخر، السياسة الجيدة تحتاج إلى أوركسترا متناغمة من مؤسسات مالية ونقدية ورقابية، ولكن حين تعزف كل جهة لحنها الخاص، تضيع النغمة الإصلاحية. فكم من برامج إصلاحية مالية تعطلت في العديد من الدول العالمية لأن وزارة المالية والبنك المركزي لم يتحركا بإيقاع واحد، أو لأن الأنظمة المساندة لم تواكب التغيير في الوقت المناسب.

السياسية الاقتصادية الناجحة ليست فقط أن تكون صحيحة في جوهرها، بل أن تُطبّق في اللحظة المناسبة. فالتحفيز المالي مثلاً قد يكون علاجًا في أوقات الركود، لكنه يصبح وقودًا للتضخم في فترات الازدهار. وكما الحال في الطب، لا تكفي جودة الدواء، بل يجب أن يُعطى في التوقيت الصحيح وبالجرعة المناسبة.

هناك أيضاً العامل السلوكي والنفسي، الذي يتزايد تأثيره في عصر وسائل التواصل الحديثة بمختلف أنواعها «السوشل ميديا» والأسواق المترابطة. فالتوقعات تشكّل نصف الاقتصاد، والثقة تشكّل نصف النجاح. فإذا فقد المواطن أو المستثمر ثقته في جدوى السياسات، فإن أي إجراءات مهما كانت مدروسة ستفقد أثرها، لذلك باتت إدارة التوقعات والتواصل الاقتصادي الفعّال جزءًا أساسياً من السياسة الاقتصادية الحديثة. ولا يمكن إغفال البيئة المؤسسية والسياسية التي تحكم نجاح أي سياسة. فالإصلاح يحتاج إلى جهاز إداري قادر على التنفيذ، ونظام تشريعي مرن، وإرادة سياسية مستقرة. فكم من خطط مالية طموحة تعطلت بسبب ضعف الكفاءة أو تضارب المصالح أو مقاومة التغيير.

ولا بد من التأكيد على أن فشل السياسات الجيدة لا يعني أن النظريات الاقتصادية خاطئة، بل يعني أن الواقع أعقد من أن يُختزل في نموذج. فالاقتصاد ليس علماً رياضياً فحسب، بل نظام اجتماعي وسياسي متكامل تحكمه العواطف والمصالح والتوقعات. ولذا فإن نجاح السياسة لا يقاس فقط بما تحققه من أرقام في التقارير، بل بقدرتها على فهم الواقع كما هو، وتطويعه كما ينبغي، وتحقيق التوازن بين الممكن والمطلوب.

00:19 | 13-11-2025

الخوف.. في زمن اللايقين !

في عالم الاقتصاد، لا شيء يحرّك الأسواق أكثر من المشاعر. فالمؤشرات تصعد بالثقة وتهبط بالخوف، وغالباً ما تسبق الانفعالات القرارات. هذه الحقيقة التي يعرفها المستثمرون جيداً، أصبحت اليوم أحد أسرار الاقتصاد العالمي المتقلّب: فالأزمات لم تعد في الأرقام، بل في الثقة التي تبرّرها أو تنفيها.

خلال السنوات الأخيرة، بدا جلياً أن الاقتصاد العالمي يعيش حالة من «اللايقين المنظّم»؛ فالتضخم يتراجع في بعض الدول ويعود للارتفاع في أخرى، ومعدلات الفائدة تتجه للانخفاض، بينما أسواق الأسهم ما تزال قلقة حائرة. هذه المفارقات تعكس شيئاً واحداً؛ أن الثقة في السياسات الاقتصادية باتت أهم من السياسات نفسها.

المؤكد أن الثقة لا تُقاس بمؤشرات، لكنها تصنع مؤشرات نفسها. فعندما يثق المستثمر في اتجاه الحكومة، تقلّ تكلفة التمويل، ويرتفع الإقبال على المخاطرة، ويتحوّل الاقتصاد من حالة الجمود إلى حالة الحراك. في ذات الوقت، عندما تتراجع الثقة، مهما كانت المؤشرات الكلية إيجابية، تتجمّد قرارات الاستثمار ويهرب رأس المال نحو الملاذات الآمنة.

تاريخياً، لطالما كان الفرق بين الركود والتعافي مرتبطاً بإشارات الثقة لا بالأرقام فقط. فبعد الأزمة المالية العالمية عام 2007-2008، لم تبدأ الأسواق في الانتعاش إلا عندما أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي التزامه الكامل بحماية السيولة، لا عندما تحسّنت المؤشرات. كانت الرسالة أوضح من أي إجراء آخر؛ لسنا خصماً للسوق، بل شريكاً يقف إلى جانبه.

اليوم، في ظل التحوّلات الاقتصادية الكبرى تكمن الثقة في الاستقرار، والشفافية، وأن الإصلاحات لن تتراجع أمام الضغوط. وهذا ما يجعل الاقتصادات الناشئة التي تبني مؤسسات قوية ومؤشرات واضحة قادرة على جذب استثمارات تتجاوز حجمها الجغرافي أو السياسي.

ومن هذا المبدأ، فإن الاقتصاد ليس مجرد معادلات رياضية، بل شبكة من التوقعات المتبادلة. وحين يثق الناس بأن السياسات متماسكة والرؤية مستمرة، يصبح النمو نتيجة طبيعية. أما حين تٌفقد الثقة، فإن كل الأرقام تصبح بلا معنى. وفي ضوء ذلك، فإن المعادلة الحقيقية هي أن الخوف يُحدث ركوداً، والثقة تصنع ازدهاراً، وبينهما، يتحدد مصير الاقتصادات ليس بما تملكه من موارد، بل بما تؤمن به من قدرة على المستقبل.

00:05 | 6-11-2025

فلسفية عقلانية البشر!

منذ نشأة علم الاقتصاد كتخصص مستقل وهو يحاول جاهداً أن يكون علمًا مُحكمًا، ويكون المنطق والعقل ميزانان لقرارات الأفراد والمجتمعات. فنماذج الاقتصاد الكلاسيكي بُنيت على فرضية سقراط البسيطة وهي أن «الإنسان كائن عقلاني» يسعى إلى تعظيم منفعته بأقل تكلفة ممكنة. في المقابل، يخبرنا الواقع بخلاف ذلك فكلما تعمّق الاقتصاديون في دراسة السلوك البشري، اكتشفوا أن هذا الكائن الذي يفترض أنه منطقي، يتصرف في مرات كثيرة على نحوٍ لا يمكن تفسيره بالمنطق. وهذا يؤكد أن عقلانية البشر في جوهرها أتت من زاويةٍ فلسفيةٍ مثالية بحتة لا تمت للواقعية بصلة. فالبشر لا يعيشون وفق العقل وحده، بل وفق ما يعتقدون أنه عقلاني. وبناءً على ذلك، الإنسان لا يُوجَّه فقط بما يعرف، بل بما يؤمن به.

فالمنطق يقول إن المستثمر يتبع الأرقام، والمستهلك يختار الأرخص والأجود، غير أن الأسواق أثبتت أن القرارات الاقتصادية لا تحكمها فقط المعادلات، بل المشاعر، والتوقعات، والتجارب السابقة، والمعتقدات. يمكن القول إن الإنسان قادر على أن يكون عقلانيًا، لكنه نادرًا ما يكون كذلك؛ لأن طبيعته الأعمق ليست «العقل»، بل «الاعتقاد».

لماذا تتضخم الأسواق في فترات الازدهار، ثم تتهاوى فجأة؟ ولماذا يرتفع سهم لا تملك شركته أرباحًا، أو ربما يُشترى منزل بثمن يتجاوز قيمته الحقيقية؟ المنطق لا يملك جوابًا كاملاً؛ لأن خلف هذه القرارات معتقدات عن المستقبل أكثر مما هو حساب للحاضر.

في الاقتصاد الحديث، الخيال أصبح جزءًا من المعادلة. فالثقة في النظام المالي ليست رقمًا، بل حالة نفسية، والتضخم لا يتحرك فقط لأن الأسعار ارتفعت، بل لأن الناس يتوقعون أنها سترتفع. التوقعات أي الخيال المنظم للمستقبل باتت تسبق الوقائع وتعيد تشكيلها. ومع دخول العالم عصر الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، أصبح الخيال أكثر حضورًا من أي وقت مضى.

ليس من العقلانية والمنطق أن تُقيَّم شركات بمليارات الدولارات قبل أن تحقق أي إيراد فعلي، وعملات رقمية تنشأ من لا شيء سوى الثقة أو الأمل، وأسواق مالية تتحرك بآراء مؤثرين أكثر مما تتحرك بمؤشرات وأرقام مالية واقتصادية فعلية. كل ذلك يثبت أن الخيال لم يعد نقيض المنطق، بل شريكه غير المرئي في صنع القيمة.

أخبرتنا الأزمات المالية والاقتصادية أن الفقاعات لا تنشأ من قوة الاقتصاد، بل من المبالغة في الثقة، ومن الإيمان بأن الارتفاع سيستمر إلى ما لا نهاية. وفي ظل تلك المؤشرات فإن أعظم التحديات أمام صُنّاع القرار اليوم هي كيفية الموازنة بين منطق الأرقام وخيال الرؤى. فالرؤية الاقتصادية الناجحة تحتاج إلى خيالٍ ومنطق معاً، فالأول قادر على رسم المستقبل، والآخر يساعد في حمايتها من المبالغة والوهم. فالأمم لا تتقدّم بالمنطق وحده، ولا تبني مستقبلها بالخيال وحده؛ بل حين يلتقي الاثنان في نقطةٍ واحدة تسمى الرؤية.

00:04 | 23-10-2025

تراجع الثقة!

في عالمٍ تُدار فيه الثروات بالأرقام بعيداً عن العواطف، تتحرك تريليونات الدولارات بصمتٍ عبر الحدود، تبحث عن الأمان واضعة فكرة الأرباح خلف ظهرها. إنها الأموال الحذرة التي آثرت أن تلوذ بالعوائد الثابتة، هاربةً من أسهم النمو إلى السندات، ومن العملات الورقية إلى الذهب. فالمال، حين يفقد ثقته بالمستقبل، لا يٌستثمر، بل يختبئ. منذ أن بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يلمّح إلى مرحلة تخفيف تدريجي في معدلات الفائدة، بدأت الأسواق تُعيد ترتيب أولوياتها؛ عوائد السندات تتراجع، والدولار يفقد بريقه، فيما يعود الذهب إلى الصدارة كأنه يستعيد دوره التاريخي ملاذاً للثقة ومرآةً لقلق العالم. عادت التريليونات الصامتة لتختبر شجاعتها في زمنٍ تتراجع فيه الثقة، وحين يصمت المال، لا يتحدث سوى الذهب بلغةٍ لا تُخطئها الأسواق، وإن تجاهلها صُنّاع السياسة النقدية. كل خفضٍ في الفائدة يعني تراجع تكلفة الاحتفاظ بالمعدن الأصفر، وكل إشارةٍ على تباطؤ الاقتصاد تُنعش الطلب عليه ملاذاً نفسياً قبل أن يكون مالياً، حتى أصبح الذهب اليوم أشبه بصوتٍ يترجم خوف الأسواق حين تصمت المؤشرات.
لكن هذا البحث الحثيث عن الأمان له ثمنه؛ فكل دولارٍ يُكدّس في البنوك هو استثمارٌ مفقود في مصنعٍ أو فكرةٍ أو وظيفةٍ لم تُخلق بعد. وهكذا يتحوّل الحذر إلى دوامةٍ تُعيد إنتاج نفسها؛ الخوف يُجمّد رأس المال، فينكمش النمو، فتعود البنوك المركزية إلى خفض الفائدة من جديد لتُغذي الخوف ذاته الذي تحاول تهدئته. وهنا ندخل في دائرة «فكرة اقتصاد المخاطرة المحسوبة» إلى «فكرة اقتصاد الحذر المبالغ فيه»، حيث تُدار الثروات بعقلية الدفاع، كون السيولة أصبحت تتحرك بدافع القلق أكثر من أي شي آخر.
يعلّمنا التاريخ أن الفترات التي يصمت فيها المال، هي ذاتها التي تنضج فيها الأفكار الجريئة وتولد منها الدورات الاقتصادية الجديدة. وهذا يتضح جلياً من خلال التردد الذي تعيشه الاقتصادات المتقدّمة بين الخوف والانتظار، في المقابل تتحرك اقتصاداتٌ أخرى مثل السعودية والصين والهند لتحويل السيولة الخاملة إلى استثمارٍ منتجٍ ومؤسسي، إيماناً بأن المال لا يستعيد قيمته إلا حين يُستخدم في بناء المستقبل.
00:30 | 16-10-2025