أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/okaz/uploads/authors/1022.jpg?v=1763641491&w=220&q=100&f=webp

رامي الخليفة العلي

العد التنازلي بدأ: المنطقة تنزلق نحو حرب جديدة..!

في ظل المعطيات الخطيرة والتسريبات المقلقة التي رافقت اللقاء الأخير والحاسم في العاصمة بغداد بين رئيس الوزراء محمد شياع السوداني والمبعوث الأمريكي توم براك، يتضح جلياً أن المنطقة تقف اليوم على فوهة بركان يوشك أن يقذف حممه ليحرق الأخضر واليابس، حيث لم تكن الرسائل الأمريكية التي حذّرت من عملية إسرائيلية وشيكة في لبنان مجرد برقيات دبلوماسية روتينية، بل كانت إنذاراً نهائياً بأن الغطاء قد رُفع، وأن أي انخراط للفصائل العراقية في هذه المعركة سيحوّل العراق إلى ساحة مستباحة لضربات إسرائيلية مدمرة لن تمنعها واشنطن، وهو ما يضعنا أمام حقيقة مرة مفادها أن استقرار الشعوب وأمن الأوطان بات رهينة بيد أطراف غير مسؤولة تمارس العبث السياسي والعسكري بلا أدنى درجات الحكمة أو التعقل، ويأتي في طليعة هذه الأطراف حزب الله الذي يصر بتعنّت غريب على التشبّث بسلاحه خارج إطار الشرعية، رافضاً التحوّل إلى مكوّن سياسي مدني يؤمن بمنطق الدولة والمؤسسات، ومفضلاً البقاء بوضعية «الميليشيا» التي تصادر قرار السلم والحرب وتفرض أجنداتها الخاصة على الدولة اللبنانية المنهكة، مغامراً بمصير شعب كامل لخدمة شعارات لم تجلب إلا الدمار، وفي المقابل تقف الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة كوجه آخر لهذه العملة الرديئة، بعد أن تخلت تماماً عن لغة السياسة والدبلوماسية، واستسلمت لعقيدة القوة العمياء، متوهمة أن الحلول العسكرية الصرفة وسياسة الأرض المحروقة قادرة على صنع الأمن، متجاهلة أن هذا الهروب إلى الأمام عبر الحروب المفتوحة لن يولد إلا مزيداً من العنف والكراهية وعدم الاستقرار الذي سيرتد عليها عاجلاً أم آجلاً، وتكتمل أركان هذه المأساة بالدور الذي يلعبه «الطرف الإقليمي المعروف» الذي يقف خلف الكواليس، والذي يبدو أنه يعيش في عزلة شعورية تامة عن الواقع، عاجزاً عن قراءة التحوّلات الجيوسياسية العميقة التي شهدتها المنطقة والعالم، إذ لا يزال هذا الطرف يراهن على سياسات تصدير الثورة والأزمات وتشغيل الأذرع بالوكالة، مكرراً نفس الأخطاء الإستراتيجية القاتلة التي أدّت سابقاً إلى كوارث اقتصادية وعقوبات وحروب عبثية، وكأنه لم يستوعب بعد أن زمن اللعب على حافة الهاوية قد ولّى، وأن العالم لم يعد يحتمل المزيد من هذه المناورات المكشوفة التي تدفع ثمنها الشعوب العربية من دمائها ومقدراتها، إن هذا الثلاثي المأزوم بتركيبته المتناقضة يجر المنطقة برمتها نحو سيناريوهات سوداوية، جاعلاً من العراق ولبنان ساحات لتصفية حسابات عدمية لا ناقة للشعوب فيها ولا جمل، وهو ما يستدعي وقفة جادة وعقلانية لرفض هذا الانجرار الأعمى خلف دعوات التصعيد، فاللحظة الراهنة لا تحتمل المغامرة، والتاريخ لن يرحم أولئك الذين استبدلوا منطق العقل والسياسة بمنطق البارود والنار، وأضاعوا فرص السلام والاستقرار جرياً خلف أوهام الزعامة والنفوذ، فمن يزرع الريح في حقول السياسة الملغومة لن يحصد سوى العاصفة التي تقتلع الجذور وتهدم البنيان، ولات حين مندم لمن لا يرى في الأفق إلا دخان الحروب ولا يسمع إلا صليل السيوف، ناسياً أن حكمة القيادة تتجلى في صون الدماء لا في إراقتها، وأن الحفاظ على الأوطان هو الغاية الأسمى التي تتضاءل أمامها كل الشعارات الجوفاء والمشاريع العابرة للحدود.

منذ يومين

الأمير محمد بن سلمان.. زعامة تفرض شروطها

تُشكّل الزيارة التاريخية التي قام بها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الأمريكية واشنطن منعطفاً جيوسياسياً حاسماً يعيد رسم خرائط النفوذ والقوى في القرن الحادي والعشرين، إذ لم تكن هذه الرحلة مجرد بروتوكول دبلوماسي تقليدي أو تجديد لعلاقات روتينية عابرة، بل جاءت لتعلن عن ميلاد حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تضع المملكة العربية السعودية في مصاف القوى العظمى المؤثرة في صنع القرار العالمي، وقد تجلى هذا البعد الاستراتيجي العميق في تكريس «معاهدة دفاع استراتيجي» تعد الأقوى والأكثر متانة بين الولايات المتحدة وأي دولة أخرى خارج منظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما يعكس قناعة أمريكية راسخة بأن أمن المنطقة واستقرار الاقتصاد العالمي يمران حكماً عبر بوابة الرياض، ولم يقف هذا التحالف عند حدود التفاهمات السياسية، بل تُرجم عملياً على أرض الواقع من خلال إنجازات دفاعية نوعية غير مسبوقة، كان أبرزها الاتفاق على تصدير 35 طائرة من طراز «إف 35» الشبحية المتطورة إلى المملكة، في خطوة تحمل دلالات عسكرية وسياسية بالغة الأهمية، وتؤكد على مستوى الثقة الاستراتيجية العالية التي باتت تتمتع بها القيادة السعودية لدى دوائر القرار في واشنطن، متجاوزة بذلك كل التحفظات السابقة، وفي سياق متصل، أثبت الأمير محمد بن سلمان من خلال هذه الزيارة أنه لم يذهب إلى واشنطن بصفته ممثلاً للمملكة فحسب، بل حط رحاله في البيت الأبيض زعيماً حقيقياً للشرق الأوسط، حاملاً على عاتقه هموم المنطقة وقضاياها المعقدة، ومدافعاً شرساً عن مصالح شعوبها، حيث تصدّر الملف السوداني المباحثات، وانتزع سموه تعهدات صريحة ومباشرة من الرئيس الأمريكي بالانخراط الفعلي والجاد لإنهاء الصراع الدامي في السودان، مؤكداً بذلك دور المملكة المحوري كصانعة للسلام ووسيط نزيه لا غنى عنه في حلحلة الأزمات الإقليمية، وبالتوازي مع ذلك، وبجرأة سياسية معهودة ورؤية استشرافية ثاقبة، فتح ولي العهد ملف العقوبات المفروضة على سوريا، دافعاً بقوة نحو ضرورة إنهاء هذه العقوبات لتمهيد الطريق أمام عودة الاستقرار، وتعزيز آفاق التعاون بين دمشق وواشنطن بما يخدم الأمن الإقليمي، في طرح يعكس الواقعية السياسية التي تنتهجها المملكة لتصفير المشاكل ولم الشمل العربي، أما على الصعيد الاقتصادي والتجاري، فقد كانت لغة الأرقام والمصالح هي السائدة، حيث تم توقيع اتفاقيات تجارية ضخمة، إلا أن الأهم من حجم هذه الاتفاقيات هو الروحية التي سادت توقيعها، فقد أوضح الأمير محمد بن سلمان لنظيره الأمريكي بلهجة القائد الواثق والمعتز بوطنه أن هذه الصفقات المليارية ليست «محاباة» للولايات المتحدة أو هدية للرئيس الأمريكي، بل هي اقتناص لفرص استثمارية واعدة تخدم «القيادة السعودية» ورؤيتها الطموحة، وتعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، مرسّخاً بذلك مبدأ الندية في التعامل، وأن المملكة لم تعد مجرد سوق استهلاكية، بل هي شريك يصنع الفرص ويفرض شروطه بما يحقق مصالحه العليا، لتختتم هذه الزيارة فصولها وقد كرّست صورة الأمير محمد بن سلمان كعرّاب لمرحلة جديدة من النهضة العربية، وقائد استثنائي يمتلك أدوات القوة الناعمة والصلبة، قادر على توظيف علاقاته الدولية لخدمة قضايا أمته، وجعل المملكة الرقم الأصعب في المعادلة الدولية الذي لا يمكن تجاوزه أو تهميشه.

00:02 | 26-11-2025

الرياض وواشنطن وصياغة توازن جديد للمنطقة

تأتي زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية في لحظة سياسية بالغة الحساسية، إذ تشكّل محطة أساسية في مسار العلاقات بين الرياض وواشنطن، وتفتح الباب أمام إعادة صياغة الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين على أسس أكثر عمقاً وشمولاً. فالمملكة، بقيادتها الشابة الطموحة ورؤيتها للمنطقة، تسعى إلى تعزيز موقعها الدولي عبر علاقات متوازنة وقائمة على المصالح المتبادلة، فيما تدرك الولايات المتحدة أن السعودية اليوم تمثّل ركناً محورياً لا يمكن تجاوزه في منظومة الأمن الإقليمي وميزان القوى العالمي. وتكتسب هذه الزيارة أهمية بالغة لأنها تجمع بين متغيّرات إقليمية متسارعة وتحديات اقتصادية وأمنية مشتركة، ولأنها تأتي في توقيت يشهد إعادة ترتيب للنفوذ في الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل الحوار السياسي بين الجانبين ليس رفاهية دبلوماسية، بل ضرورة استراتيجية تمليها التحوّلات العميقة في المنطقة. وتشكّل الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية عمق المباحثات، إذ من المتوقع أن يناقش الطرفان تطوير التعاون الدفاعي، وتعزيز قدرات الردع المشتركة، والتعامل مع التحديات المتنامية المرتبطة بالأمن البحري والطائرات المسيّرة، إضافة إلى بحث برامج التحديث العسكري والتصنيع المشترك بما يخدم طموحات المملكة في بناء قوة رديفة تستند إلى التكنولوجيا المتقدّمة. كما سيحضر الجانب الاقتصادي بقوة، وخصوصاً في ظل رؤية السعودية 2030 التي تفتح آفاقاً واسعة للاستثمار في مجالات الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية، وهي مجالات تتقاطع مع أولويات الشركات الأمريكية الكبرى، ما يجعل الزيارة فرصة لتمتين الروابط الاقتصادية في مرحلة تشهد منافسة عالمية محتدمة. وعلى المستوى الإقليمي، ستتضمّن النقاشات ملفات الشرق الأوسط الحساسة، وفي مقدّمتها الوضع في سورية، حيث تحرص المملكة على دعم مسار سياسي يضمن وحدة الدولة السورية ويحدّ من الفوضى التي استنزفت المنطقة لسنوات، إلى جانب الملف اللبناني الذي أصبح بحاجة ماسة إلى مظلة عربية ودولية تمنع انهياره الكامل ومساعدة السلطة بحيث تكون قادرة على مواجهة الأزمات المالية والسياسية العميقة. كذلك ستُطرح قضايا أكثر اتساعاً مثل مستقبل الاستقرار في العراق واليمن، والعلاقة مع إيران، ومسار التهدئة في غزة والضفة الغربية، وهي ملفات تدرك واشنطن أن حلّها أو احتواءها يمر عبر بوابة السعودية باعتبارها اللاعب الأكثر تأثيراً في توازنات الشرق الأوسط. وتسلّط هذه الزيارة الضوء على حقيقة راسخة بأن المملكة العربية السعودية لم تعد مجرد قوة نفطية كما كانت تُقدَّم في الماضي، بل أصبحت القوة العربية المركزية التي ترتكز عليها معادلة الأمن الإقليمي، والركيزة الأساسية لضبط إيقاع التوترات ومنع المنطقة من الانزلاق نحو مواجهات غير محسوبة. ومن هنا، فإن هذه القمة بين الأمير محمد بن سلمان والقيادة الأمريكية ليست لقاءً بروتوكولياً، بل حدث إقليمي مفصلي يرسّخ حضور السعودية لاعباً لا غنى عنه، ويمهّد لمرحلة جديدة من التعاون تُعيد رسم مستقبل الشرق الأوسط. وهكذا تُختتم الزيارة بتأكيد أن المملكة، برؤيتها الاستراتيجية وحضورها الدولي المتصاعد، باتت العنصر الأساسي في استقرار المنطقة والعنوان الأكبر لإرادتها السياسية القادرة على صياغة مستقبل عربي أكثر توازناً وأمناً.

01:11 | 19-11-2025

قمة الشرع-ترمب: زيارة تاريخية تعيد سورية إلى الساحة الدولية!

جاء اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الأمريكي دونالد ترمب في البيت الأبيض يوم العاشر من نوفمبر 2025 ليشكّل نقطة تحوّل تاريخية في مسار العلاقات الدولية، إذ كسر حاجز العزلة الطويل الذي أحاط بسورية لعقود، معلناً عن عودتها إلى قلب المشهد السياسي العالمي. إن رمزية الزيارة، بوصفها الأولى لرئيس سوري منذ حصول سورية على استقلالها، تتجاوز حدود البروتوكول الدبلوماسي لتعكس اعتراف واشنطن بالقيادة السورية الجديدة كقوة شرعية وفاعلة في الشرق الأوسط، فيما يبرز الهدف الأعمق لهذا الحدث في إعادة إدماج سورية في المجتمع الدولي وتثبيت سلطة الرئيس الشرع في مواجهة التحديات الداخلية المعقدة التي أفرزتها سنوات الحرب الطويلة. تمثّل هذه الزيارة مكسباً استراتيجياً للرئيس الشرع من حيث تعزيز شرعيته الداخلية وترسيخ مكانته في المشهدين العربي والدولي، فهي تمنحه دعماً سياسياً ومعنوياً لا غنى عنه لتثبيت الحكم ومعالجة الملفات الداخلية التي أثقلت كاهل البلاد. ويعد البعد الاقتصادي أحد أهم رهانات هذه القمة، إذ تشير التسريبات إلى بحث خطوات ملموسة نحو تعليق بعض بنود «قانون قيصر» أو حتى العمل على إلغائه، وهو ما سيشكّل دفعة حقيقية لإعادة الإعمار وتحسين الواقع المعيشي للمواطنين. أما على الصعيد الإقليمي، فإن الزيارة فتحت الباب أمام تحوّلات كبرى في بنية الصراع، لعل أبرزها إمكان بلورة اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل بوساطة أمريكية، بما يضع حداً لواحد من أعقد الملفات في الشرق الأوسط. هذا التحوّل يعكس انتهاج دمشق سياسة جديدة تتّسم بالبراغماتية والتوازن، مبتعدة عن منطق المحاور التقليدي الذي حدد سياستها الخارجية لعقود، في حين أن إعلان انضمام سورية رسمياً إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب يمثّل مؤشراً واضحاً على رغبتها في بناء شراكات أمنية جديدة تعيد رسم صورتها كدولة مسؤولة ومؤثرة في محيطها. لم تكن هذه الانفراجة ممكنة لولا الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي قادتها المملكة العربية السعودية خصوصاً الأمير محمد بن سلمان، التي لعبت دور الجسر السياسي بين واشنطن ودمشق وساهمت في تهيئة الأجواء لإنجاز هذا اللقاء التاريخي. فقد جاءت الوساطة السعودية امتداداً لسياسة واقعية هدفها دعم استقرار الإقليم وإعادة سورية إلى محيطها العربي والدولي، بما يخدم التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. ويمكن القول إن القمة رسّخت عودة سورية كفاعل إيجابي في المعادلة الإقليمية، وأعادت إليها قدرتها على المشاركة في صياغة الحلول بدل أن تكون جزءاً من الأزمات. ومن المتوقع أن تفتح هذه الخطوة الباب أمام تدفق الاستثمارات العربية والدولية وإطلاق مشاريع مشتركة تعزز الأمن الاقتصادي والاجتماعي، بالتوازي مع توقيع اتفاقيات أمنية تضمن سلامة الحدود واستقرار الجوار. إن زيارة الشرع إلى واشنطن تمثّل تتويجاً لمرحلة انتقالية دقيقة عاشتها سورية، وبداية لعهد دبلوماسي جديد تتطلع من خلاله إلى استعادة مكانتها ودورها التاريخي. غير أن التحدي الحقيقي الذي ينتظر الرئيس الشرع هو في قدرته على ترجمة هذا الدعم الدولي إلى واقع ملموس داخل البلاد، يعيد الثقة إلى السوريين ويضعهم على طريق الاستقرار والازدهار بعد سنوات من المعاناة والاضطراب.

00:03 | 12-11-2025

هل توصيف النهضة السعودية جريمة؟

حين يتحدث رئيس دولة بموضوعية وبلغة العقل والواقع، يفترض أن يُقابل حديثه بالاحترام والتقدير، لا أن تنهال عليه سهام الإعلام المأجور الذي فقد بوصلة المهنة وشرف الكلمة، واختار الاصطفاف في خندق الضجيج والافتراء. هذا ما حدث تماماً مع الرئيس السوري أحمد الشرع عقب كلمته في مؤتمر الاستثمار في الرياض، حين أشاد بالدور الريادي للمملكة العربية السعودية، مؤكداً أنها تقود قاطرة التنمية في المنطقة، وتمثّل النموذج الذي يُحتذى به في الإدارة والتخطيط الاقتصادي والنهضة الشاملة. لم يقل الرجل سوى الحقيقة الواضحة التي يدركها كل من يتابع مسار التحوّل الذي تشهده المملكة خلال العقد الأخير، من استقرار سياسي واقتصادي، إلى إصلاحات هيكلية كبرى، إلى رهان واعٍ على الشباب السعودي كركيزة للتقدّم، إلى توظيف ذكي للتقنيات الحديثة في كل مفاصل الدولة. ومع ذلك، لم ترَ بعض المنابر الإعلامية في هذا الموقف سوى فرصة لتصويب سهامها نحوه، لا لسبب إلا لأنها لا تحتمل أن ترى نموذجاً عربياً ناجحاً يقود من دون وصاية أحد، ويصنع نهضته بإرادته لا بتوصيات المؤسسات الدولية أو بإملاءات الخارج. هذا الإعلام الذي يتدثر برداء الوطنية ويتغذى على الخطاب الشعبوي هو نفسه الذي يسكت عن الفساد ويُبرر الإخفاق، ثم يتجرأ على من يشهد بالحق لدولة عربية شقيقة تقف اليوم في مقدّمة الركب. ما قاله الشرع ليس مدحاً سياسياً عابراً، بل هو توصيف موضوعي لواقع ملموس، فالمملكة العربية السعودية باتت تمثّل اليوم مركز ثقل اقتصادي وسياسي في المنطقة، وهي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تجمع بين الرؤية الاستراتيجية والانضباط التنفيذي، وبين الأصالة والحداثة، وبين الثروة المادية والثروة البشرية. فهل يُعقل أن يتحوّل الإقرار بهذه الحقائق إلى «تهمة» تستوجب الهجوم؟ أم أن بعض الإعلاميين باتوا يرون في نجاح الآخرين مرآةً تعكس عجزهم وفشلهم في فهم المعادلات الجديدة؟ إن الإعلام الذي يهاجم الشقيق حين ينجح، ويمتدح الغرباء حين يفشلون، هو إعلام فقد انتماءه قبل أن يفقد مهنيته. إعلام لا يملك مشروعاً سوى تسويق الوهم وبث الغيرة المسمومة بين الشعوب. الإعلام الذي هاجم الرئيس السوري لم يفعل ذلك دفاعاً عن قضية أو عن مبدأ، بل لأنه لا يحتمل رؤية موازين القوة تتغيّر في المنطقة من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الشعارات الجوفاء إلى الإنجاز الحقيقي. المملكة اليوم تصنع التاريخ الحديث للمنطقة بهدوء وثقة، ومن الطبيعي أن يزعج ذلك من اعتادوا على الضجيج وبيع الكلام. نعم، الخير الذي يصيب المملكة يصيب العرب كلهم، والاستقرار الذي تبنيه هو سياج يحمي المنطقة من الانهيار، أما الذين يسخرون من النهضة السعودية فهم أول من يهرع إلى طلب دعمها عند أول أزمة. لقد آن للإعلام أن يعود إلى رشده، أن يتخلى عن الغيرة المرضية والعداء المجاني، وأن يتعلّم أن الاعتراف بالنجاح العربي ليس ضعفاً بل هو قوة ومروءة وشهادة للتاريخ. المملكة لا تحتاج مديح أحد، ولكن من العيب أن يُحارب نجاحها من قبل إعلام عربي فقد صوابه، فصار يرى في كل ضوءٍ عربي مشعٍّ تهديداً لعتمته هو. وختاماً، فإن الهجوم على من يقول الحقيقة لا يغيّر الحقيقة، بل يزيدها بريقاً، وإن من يهاجم منطق الاعتدال والإنجاز، إنما يوقّع بيده شهادة سقوطه الأخلاقي والمهني أمام الرأي العام العربي.

00:17 | 5-11-2025

الطوارئ في سورية ضرورة لا خيار.. حين تُهدِّد الأكاذيب الدولة

القضية الأخيرة التي أثارت الجدل في سورية كانت قضية السيدة نغم عيسى، التي أُعلن قبل ستة أشهر عن اختفائها وسط اتهامات وُجّهت – صراحة أو ضمناً – إلى أجهزة الأمن السورية بأنها وراء الحادثة. إلا أن المفاجأة جاءت لاحقاً حين تبيّن أن السيدة المذكورة ما تزال على قيد الحياة وأنها تقيم في لبنان، وأن اختفاءها لم يكن سوى جزء من مؤامرة مدبرة لأهداف شخصية وسياسية في آن معاً، تستهدف بالدرجة الأولى تشويه صورة الدولة وإضعاف ثقة المواطنين بها. هذه الحادثة ليست استثناءً، بل أصبحت جزءاً من نمط يتكرر في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً من قِبل أطراف معارضة أو متضررة من الحكومة الحالية، تسعى لإظهار سورية وكأنها دخلت مرحلة الفوضى الكاملة، ولزرع الشك في قدرة الدولة على ضبط الأمن وحماية المجتمع. ومع أن تلك الحملات الدعائية تسعى بوضوح إلى تدمير ما تبقى من استقرار، إلا أن المسؤولية لا تقع بالكامل على خصوم الإدارة الحالية، فالحكومة السورية نفسها تتحمّل جزءاً من العبء؛ لأنها لم تتعامل بالصرامة المطلوبة مع تكرار هذه الحالات، ولم تُظهر الحزم اللازم في تطبيق القانون أو في ملاحقة الذين يستخدمون الإعلام وسيلة لتضليل الرأي العام وإشعال الفتنة. إن أي نظام، مهما كانت عيوبه أو أخطاؤه أو حتى مظالمه، يظل في نهاية المطاف أفضل من حالة الفوضى التي تُفقد الدولة معناها وتُهدد حياة المواطنين ومصيرهم. التجربة السورية أثبتت أن غياب الانضباط القانوني، ولو لفترة قصيرة، كفيل بفتح أبواب الجحيم أمام الطائفية والعنصرية والانقسامات الاجتماعية. واليوم، مع تعدد الجهات الداخلية والخارجية التي تعبث بأمن البلاد، بدأ الإحساس العام لدى كثير من السوريين يميل إلى أن ثمة حالة من التسيّب والتراخي في تطبيق القوانين وفي ملاحقة المجرمين، ما يشجع آخرين على استغلال هذا المناخ المنفلت لخدمة أجنداتهم السياسية أو الطائفية. إن أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها لا تقتصر على تقويض ثقة الناس بمؤسسات الدولة، بل تتعداها إلى ضرب السلم الاجتماعي في الصميم، إذ غالباً ما يجري تقديم حالات الخطف أو الاختفاء وكأنها تستهدف فئات مذهبية أو طائفية معينة، مما يزرع بذور الكراهية والشك بين مكوّنات المجتمع السوري. هذه الفبركات الإعلامية لا تقتل الأفراد فحسب، بل تقتل الثقة التي تشكّل أساس التعايش الأهلي. يضاف إلى ذلك حالة الانفلات الإعلامي، إذ أصبحت بعض الوسائل الإعلامية المحلية والخارجية تمارس التحريض المكشوف، فتتحدث بخطاب طائفي وعنصري تحت ذريعة «الحرية الإعلامية»، في حين أن الحرية الحقيقية لا تنفصل أبداً عن المسؤولية، ولا يجوز أن تتحوّل إلى غطاء لتدمير النسيج الوطني أو للتحريض على الكراهية. من هنا، فإن الظروف الراهنة في سورية باتت تستدعي إعادة النظر جذرياً في السياسات الأمنية والإعلامية، بل وتفرض – من وجهة نظر قانونية وسيادية – إعلان حالة الطوارئ، وربما حتى فرض الأحكام العرفية في مناطق محددة ولمدة محددة، حمايةً للوطن والمجتمع من الانزلاق نحو الفوضى الشاملة. ليست حالة الطوارئ انتقاصاً من الحريات العامة بقدر ما هي وسيلة قانونية استثنائية تُمكّن الدولة من التصدي للأخطار غير العادية، خصوصاً في ظل أوضاع كالتي تعيشها سورية اليوم، إذ تتقاطع الأزمات الداخلية مع تدخلات إقليمية ودولية واضحة. لقد آن الأوان لأن تُظهر الدولة السورية، بمؤسساتها كافة، أن هيبتها ليست شعاراً بل واقع ملموس، وأن القانون ليس مجرد نصوص جامدة بل قوة رادعة لكل من يعبث بالأمن أو يستخدم الكذب الإعلامي سلاحاً.

01:07 | 29-10-2025

تركيا وإسرائيل.. تنافس خفي فوق الأراضي السورية!

منذ سقوط نظام الأسد برز إلى المشهد السوري الدور التركي والمطامع الإسرائيلية، وهو تنافس غير مباشر لكنه بالغ التأثير، تتقاطع فيه المصالح حيناً وتتعارض حيناً آخر، فينعكس سلباً على مستقبل الاستقرار في سورية. هذا التنافس الخفي حيناً والظاهر أحياناً أخرى يُعد أحد أهم معوقات عودة الدولة السورية ككيان موحد ذي سيادة، إذ إن تل أبيب تتعامل مع الأراضي السورية كمنطقة نفوذ أمنية، دون اعتبار كافٍ لآثار ذلك على المجتمع والدولة السورية. تركيا ترى في سورية عمقاً أمنياً لا يمكن التفريط به، وتسعى جاهدة لمنع قيام كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها الجنوبية تمثله «قسد/YPG». في المقابل، تنظر إسرائيل إلى سورية من زاوية مختلفة تماماً، إذ تعتبرها بوابة النفوذ التركي إلى المشرق العربي، ولهذا تسعى تل أبيب إلى منع أي تموضع عسكري تركي على الأراضي السورية، فضلاً عن سعيها الدائم للحفاظ على تفوقها الجوي وأمن حدود الجولان. ورغم أن الجانبين تلاقت مصالحهما أحياناً، إلا أهدافهما النهائية متباينة؛ فتركيا تريد ترسيخ منطقة نفوذ تضمن أمن حدودها، فيما تركز إسرائيل على إضعاف الدولة السورية ككل لضمان تفوقها وردع خصومها في المنطقة، مما يجعل التنافس بينهما جزءاً من معادلة شدّ وجذب مستمرة تُبقي الأزمة السورية مفتوحة على احتمالات متعددة. هذا التنافس ترك بصماته الواضحة على الواقع السوري، إذ ما زال يساهم في إضعاف أي سلطة مركزية والتي تمثلها حكومة الرئيس أحمد الشرع والتي تحاول إعادة بناء الدولة، إسرائيل باتت تمثل عقدة في مسار الحل السوري لأنها تدعم قوى محلية تعمل خارج إطار الدولة، فتسعى لتكريس انقسام الجغرافيا السورية. وتبدو محافظة السويداء مثالاً حياً على هذا التفكك، حيث يتقاطع الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب الجيش السوري مع الديناميكيات المحلية التي أنتجت تمرد «الهجري» وما يشبه الإدارة الذاتية المحدودة، في حين لا تبدي تركيا اهتماماً حقيقياً باستقرار الجنوب ما دام بعيداً عن حدودها. كما يعرقل هذا التنافس أي تسوية لملف «قسد»، إذ ترى أنقرة أن إنهاء وجودها شرط لبناء سورية آمنة، بينما تنظر إسرائيل (ومعها واشنطن) إلى «قسد» كأداة ضرورية للضغط على تركيا ودمشق في الآن معاً، ليجد السوريون أنفسهم أمام مشهد واحد هو منع إعادة بناء المؤسسة العسكرية الوطنية وبقاء البلاد في حالة «اللااستقرار». وسط هذا المشهد، تلعب الولايات المتحدة دور «ضابط الإيقاع»، فهي الحليف لكل من تركيا العضو في الناتو وإسرائيل الشريك الإستراتيجي، وتنجح في منع الصدام المباشر بينهما لكنها لا تقدّم حلاً حقيقياً. فواشنطن تدعم «قسد» عسكرياً، وتنسق مع تركيا استخباراتياً، وتغطّي الضربات الإسرائيلية سياسياً، ما يجعل سياستها خليطاً من التباينات التي تحافظ على توازن هشّ يمنع الانفجار لكنه لا يقرّب التسوية. الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر مبادرة أمريكية تجمع أنقرة وتل أبيب على طاولة واحدة، لتتحوّل إلى «قيادة دبلوماسية»، بما يضمن مخاوف تركيا الأمنية ويأخذ في الحسبان هواجس إسرائيل. فالمصلحة المشتركة بين الطرفين تكمن في إدراك أن استمرار الفوضى سيؤدي إلى عودة تنظيمات متطرفة مثل داعش. ومع ذلك، يبقى العائق الأكبر في الحكومة الإسرائيلية الحالية ذات النزعة المتطرفة التي يصعب أن تلعب دوراً بنّاءً في مشروع إقليمي متوازن، لكن يبقى الرهان قائماً على واشنطن بوصفها الطرف الوحيد القادر على ممارسة ضغط فعلي لتقريب وجهات النظر. وفي نهاية المطاف، تظل السيادة السورية هي جوهر أي حل حقيقي، إذ لا يمكن أن يستعيد الشرق الأوسط توازنه ما دامت سورية تُستخدم كساحة لتصفية الحسابات، فاستمرار هذا الواقع لا يعني سوى تكريس الفوضى التي لن يسلم من آثارها أحد.

01:12 | 22-10-2025

التحالف الهش.. «قسد» و«الهجري» في مواجهة الدولة

في ظل التحوّلات المعقدة التي تشهدها الساحة السورية بعد إسدال الستار على مرحلة الأسد، ظهر إلى الواجهة تحالف غير متجانس بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) وبعض الفعاليات المحلية في السويداء، وعلى رأسها المرجعية الدينية لطائفة الموحّدين الدروز ممثلة بشيخ العقل حكمت الهجري. هذا التحالف، وإن بدا في ظاهره محاولة لبناء جبهة موحّدة في مواجهة السلطة المركزية الناشئة في دمشق، إلا أنه في جوهره هشّ ومؤقت، ويبدو أنه محكوم بالفشل لأسباب بنيوية وسياسية عميقة. قسد، باعتبارها قوة عسكرية وسياسية ذات ثقل نسبي في شمال وشرق سورية، تعتمد في بقائها على دعم مباشر من الولايات المتحدة، وتمتلك خبرة تنظيمية ومؤسساتية واضحة، من المجالس المدنية إلى القوة العسكرية المدربة والمنضبطة نسبياً. غير أن هذه القوة تواجه معضلة ديموغرافية كبيرة، إذ إن المناطق التي تسيطر عليها تشمل كتلاً سكانية عربية واسعة لا تنظر بعين الرضا إلى هيمنة قسد ذات الغلبة الكردية. هذا التناقض البنيوي يعمّق من عزلتها المجتمعية، ويحد من قدرتها على التمدد أو بناء تحالفات راسخة خارج بيئتها التقليدية، ناهيك عن رفض دول إقليمية كتركيا بشكل قاطع لأي مشروع حكم ذاتي كردي في الشمال السوري، وهو ما يضعها في حالة من الحصار السياسي والجغرافي. أما في السويداء، فقد دخل الشيخ حكمت الهجري في صلب المشهد السياسي بصفته مرجعية دينية عليا، مستنداً إلى الرفض الشعبي الواسع لأيديولوجيا الإدارة الجديدة في دمشق، وساعياً إلى فرض واقع سياسي مغاير عبر الدعوة الصريحة إلى استقلال السويداء. لم يكن هدفه تفادي الفوضى أو الصدام الأهلي، بل استثمر في مناخ التوتر لترويج مشروعه الانفصالي، وانخرط بشكل كامل في إنشاء جهاز عسكري خاص به، مدعوم من قبل إسرائيل، يضم مليشيات محلية مسلحة. غير أن هذا الجهاز بدأ يُظهر مؤشرات على التفكك وعدم الانضباط، وهو ما كشف محدودية قدرة الهجري على فرض هيمنة أمنية متماسكة. وإلى جانب ذلك، لا يمتلك الهجري إدارة مدنية قوية قادرة على إدارة شؤون المنطقة بشكل فعّال. أما تحالفه مع قسد، فهو محاولة لإيجاد حليف بعد أن أصبح معزولاً. إن الضرر الأكبر على صورة الجبل جاءت من موقف الهجري الداعي إلى الانفصال، وهو ما ألّب عليه قطاعات واسعة من الرأي العام السوري والعربي والإسلامي، وأدّى إلى عزلته المتزايدة. الأخطر في هذا التحالف هو غياب الرؤية المشتركة أو المشروع السياسي الموحّد. فقسد، من جهة، تسعى إلى فرض نظام حكم ذاتي فدرالي بعيد عن المركز، وتُظهر قدراً من البراغماتية السياسية، إذ إنها لا تمانع في الوصول إلى تسويات وسطى مع المركز إذا توفرت الظروف، خصوصاً أنها تنصت جيداً للنصائح الأمريكية. أما مرجعية السويداء، فقد باتت لا تؤمن بوجود الدولة السورية كمفهوم سياسي جامع، وهو ما يجعل من إمكانية تفاهمها مع السلطة المركزية أمراً شبه مستحيل. هذا التباين في النهج والأسلوب، يجعل من التحالف بينهما هشاً، وأشبه بتحالف الضرورة، لا تحالف المصير. لذلك، فإن هذا التقاطع المؤقت بين قسد والهجري، وإن بدا موجهاً ضد المركز، إلا أنه يحمل في داخله كل عناصر التفكك والانهيار، إذ لا تتوفر له مقوّمات الاستمرار لا على المستوى العسكري، ولا الاجتماعي، ولا السياسي. ومع غياب الدعم الإقليمي لهذا التحالف، ورفض معظم السوريين لأي مشاريع تقسيم أو انفصال، فإن فرص نضوجه وتحوّله إلى حالة سياسية صلبة تبقى شبه معدومة. ومن ثم، فإن مصيره الطبيعي هو الفشل، وربما بسرعة تفوق ما يتوقعه أصحاب هذا المشروع الهجين.
01:06 | 15-10-2025

زلزال في الإليزيه.. حكومة اليوم الواحد تتلاشى

تعيش فرنسا اليوم واحدة من أكثر لحظاتها السياسية اضطرابًا في تاريخها الحديث، بعد الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة وحكومته التي لم يمضِ على تشكيلها سوى يوم واحد، في السادس من أكتوبر ٢٠٢٥، في خطوة صادمة فتحت الباب على مصراعيه أمام أزمة سياسية عميقة وغير مسبوقة. لقد كانت هذه الاستقالة بمثابة القشة التي قصمت ظهر الائتلاف الحكومي الهش، وكشفت عن حجم الاختلالات البنيوية التي تراكمت خلال الأشهر الماضية داخل المشهد السياسي الفرنسي. فمنذ لحظة الإعلان عن أسماء الوزراء الجدد، تفجّرت موجة من الاعتراضات الحادة من قبل قوى سياسية أساسية رأت في التشكيلة الحكومية تجاهلاً للتوازنات التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة. وما جعل الوضع أكثر تعقيدًا هو أن الاعتراضات لم تأتِ فقط من الخارج، بل انطلقت من داخل الحكومة نفسها، إذ أعرب وزير الداخلية، وهو شخصية ذات وزن سياسي وأمني كبير، عن رفضه لتعيين شخصيات معينة في مواقع وزارية حسّاسة، معتبراً أن وجودها يهدد الأمن القومي. هذا الرفض العلني من داخل الفريق الحكومي أضعف موقف رئيس الحكومة بشكل كبير، وأفقده القدرة على الدفاع عن خياراته السياسية أمام البرلمان والرأي العام. أمام هذا المشهد المأزوم، تدخل الرئيس إيمانويل ماكرون لمحاولة احتواء الأزمة، ومنح رئيس الحكومة المستقيل مهلة حتى يوم الأربعاء لإجراء مفاوضات عاجلة مع مختلف القوى السياسية من أجل التوصل إلى صيغة حكومية جديدة أكثر توازناً. غير أن هذه الأزمة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق السياسي الذي سبقها، فالمسؤولية الأساسية تعود في جوهرها إلى الرئيس نفسه الذي ارتكب خطأً إستراتيجياً حين قرر الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة قبل أشهر في محاولة لإعادة ترتيب التوازنات داخل البرلمان بما يمنحه هامشاً أوسع للمناورة. كانت تلك خطوة محفوفة بالمخاطر، وجاءت نتائجها كارثية، إذ أدت إلى برلمان أكثر انقساماً وضعفاً في التحالفات، ما جعل تشكيل أي حكومة مستقرة مهمة شبه مستحيلة. لقد عبث ماكرون بالبنية الحزبية الهشة أصلاً، وخرج بنتائج عكسية وضعته اليوم أمام مأزق سياسي غير مسبوق. إلى جانب ذلك، تكشف هذه الأزمة عن انفصال عميق بين الطبقة السياسية الفرنسية والواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تعيشه البلاد. ففرنسا تواجه أزمة مالية طاحنة، ودَيْناً عاماً متصاعداً، وضغوطاً متزايدة لاعتماد سياسات تقشفية قاسية من أجل استعادة ثقة الأسواق الأوروبية والدولية. لكن الطبقة السياسية تبدو منشغلة بصراعات السلطة وتقاسم الحقائب، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى إصلاحات جذرية وإدارة حازمة. هذه اللامبالاة بالوضع الاقتصادي تنذر بتفاقم الأزمة المالية وتقلص هوامش المناورة السياسية في المستقبل القريب. والأخطر من ذلك أن الأطراف السياسية الفاعلة، سواء في الائتلاف الحاكم أو في المعارضة، تفتقر إلى الشجاعة السياسية اللازمة لتحمل مسؤولياتها التاريخية. فالجميع يدرك أن إنقاذ البلاد يتطلب قرارات غير شعبية تشمل تقليص الإنفاق العام وإعادة النظر في برامج الدعم الاجتماعي والإصلاح الضريبي، لكن لا أحد يجرؤ على خوض هذه المواجهة خوفًا من الغضب الشعبي أو خسارة المواقع السياسية. هذه الجبن الجماعي يفرغ العملية السياسية من مضمونها الإصلاحي ويحول الحكومات المتعاقبة إلى كيانات إدارية عاجزة عن اتخاذ القرارات الصعبة. وهكذا، فإن الأزمة الراهنة لا يمكن اختزالها في أزمة تشكيل حكومة أو فشل رئيس وزراء في بناء تحالف برلماني، بل هي أزمة نظام سياسي فقد توازنه الداخلي، وطبقة سياسية تعيش في عالم موازٍ بعيد عن التحديات الاقتصادية الحقيقية، ورئيس راهن على مغامرة انتخابية انتهت إلى نتائج عكسية. وفي ظل غياب الإرادة السياسية لإجراء إصلاحات مؤلمة لكنها ضرورية، فإن أي حكومة جديدة ستجد نفسها محاصرة بالمعوقات نفسها، وستظل البلاد تدور في حلقة مفرغة من الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعمق حالة اللايقين وترسم ملامح مرحلة جديدة أكثر هشاشة واضطراباً في تاريخ الجمهورية الخامسة.
00:08 | 8-10-2025

خيبتنا وفجيعتنا بالفنان السوري

منذ عقود طويلة، احتل الفن السوري مكانة مميزة في الوعي الجمعي للشعب، فقد شكّلت الدراما والمسرح والسينما جزءاً من الهوية الثقافية، ورافقتها أصوات ممثلين ومغنين حملوا على عاتقهم رسالة فنية كان من المفترض أن تكون صوت المجتمع ووجدانه. لكن هذه الصورة المثالية تصدّعت منذ أن ظهر الدور الذي لعبه كثير من الفنانين السوريين في مرحلة ما قبل سقوط نظام بشار الأسد، إذ تحوّلت المنابر الفنية إلى أدوات تسويغ وتلميع لصورة السلطة، وغدا كثير من الوجوه المحبوبة وجوهاً دعائية تخدم رواية النظام وتبرر ممارساته. فالفنان الذي يفترض أن يكون صوت الحق وصدى آلام الناس انخرط في خطاب رسمي يبرر القمع ويمجّد القائد ويهتف للسلطة في وقت كان فيه السوريون يعانون من استبداد خانق ومصادرة لحقوقهم الأساسية، فبدلاً من أن تكون الدراما نافذة للحرية صارت أداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تكرس الخوف والتبعية. هذه الخيانة الرمزية لم تقف عند حدود الماضي، بل امتدت آثارها إلى الحاضر حين اكتشف السوريون بعد سقوط النظام أن كثيراً من هؤلاء الذين كانوا يتصدرون الشاشة لم يستغلوا شهرتهم ومكانتهم لإعادة بناء الثقة مع الناس أو لترميم الشرخ العميق الذي أحدثته مواقفهم السابقة، بل على العكس انسحبوا من المشهد العام أو انشغلوا بمصالحهم الخاصة بعيداً عن قضايا الناس وهمومهم. لقد كان الأمل معقوداً على أن يستعيد الفن السوري دوره في التعبير عن المعاناة وفي بناء الوعي الوطني، غير أن هذا الأمل تبدد أمام مشهد من اللامبالاة والانسحاب، وكأن التجربة المريرة التي عاشها الشعب لم تكن تعني شيئاً لكثير من الفنانين الذين لطالما تغنّى الجمهور بأعمالهم. هنا تحديداً تتجلى خيبة الأمل الكبرى، فالفنان الذي يملك تأثيراً هائلاً على الوجدان العام فضّل الصمت أو التواطؤ، تاركاً الناس يواجهون وحدهم قسوة الواقع. المفارقة المؤلمة أن الفنان الذي كان يزهو بالحديث عن القيم الإنسانية والمبادئ السامية على خشبة المسرح أو عبر الشاشة، تراجع حين احتاجه الناس في أصعب لحظاتهم، وترك مكانه شاغراً أمام أصوات أقل صدقاً وأكثر جرأة على تزوير الحقائق. الناس لا تريد من الفنانين الانخراط المباشر في العمل السياسي، بل يكفي أن ينهضوا بواجبهم الاجتماعي في مناصرة قضايا المواطن البسيط، من تعليم وصحة وحقوق اللاجئين وإعادة توطينهم، وأن يكونوا جزءاً من المبادرات الإنسانية التي نشأت هنا وهناك في مواجهة المأساة السورية. لكن ما حدث أن معظمهم آثر الغياب، ولم نرَ منهم حضوراً فاعلاً إلا من رحم ربي، بينما ظلوا في الغالب صامتين وغائبين كخُشب مسنّدة، لا حياة فيها ولا أثر. لقد فقدت الدراما بريقها منبراً للتعبير عن هموم الناس، وفقد الجمهور ثقته بنجومه الذين لم يعودوا يمثلون سوى أنفسهم. إن خيانة الفنان ليست مجرد خيانة فردية، بل هي خيانة للقيم التي يرفعها الفن وللدور الذي يجب أن يلعبه في توعية المجتمع والدفاع عن كرامته، وحين يسقط الفن في امتحان الأخلاق، فإن السقوط يكون مدوياً ومؤلماً لأنه يطال الوجدان الجمعي برمته. لذلك فإن الشعب السوري الذي قدّم التضحيات العظام لا يمكن أن يغفر بسهولة هذا التخاذل، وهو ينظر إلى الفنانين الذين صمتوا أو تواطؤوا بعين الريبة والمرارة؛ لأنه كان يتوقع منهم أن يكونوا صوتاً للحقيقة لا بوقاً للسلطة، ويداً للبناء لا وسيلة للهروب، لكنهم يا للأسف خذلوه مرتين: مرة حين اصطفوا مع الاستبداد، ومرة حين غابوا عن لحظة الحاجة إلى صوت صادق يعيد شيئاً من الأمل وسط ركام الخراب.
01:15 | 1-10-2025