-A +A
تركي الدخيل

الشعر عند أبي الطيب المتنبي، في المدائح والمراثي، تصوير لما يتمنى المتنبي أن يكون الحاكم، وهو الذي وجده ردحا طويلا، في الأمير سيف الدولة الحمداني، وارث الحمدانيين، والأمير الذي يرث مملكة من جنى آبائه يسارع في البناء، فيبني بفكره، ويتبنى من يبني له من مملكته وخارجها، كي يرى الناس بنيانه، فيستقيم في محال الأمراء والملوك، وإن كان منهم؛ كما المسك من الغزال، لذلك وفي مصداق ذلك قال أبو الطيب:

رَأَيتُكَ في الَّذينَ أَرى مُلوكاً

كَأَنَّكَ مُستَقيمٌ في مُحالِ

فَإِن تَفُقِ الأَنامَ وَأَنتَ مِنهُم

فَإِنَّ المِسكَ بَعضُ دَمِ الغَزالِ

وللإمارة عند المتنبي، في مدخل الولوج للملك الصالح وعوالمه، لذلك أيقن المتنبي أنه للأمير، صوت الحكمة شعرا، ومن ينطقون فإنما يرددون حكمته وشعره للأمير عينه، فيسرد لأميره:

أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما

بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا

وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني

أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

ولعل اطلاع المتنبي على كتب ورسائل: «أدب الملوك والأمراء»، مؤثر في رؤيته للأمير المراد، لأن أبا الطيب «غفر الله له» في ذاته وصفاته، لم يكن طالب ملك كما توهم من توهم، بل كان طالب تحويله إلى مشير بالشعر لمكارم آداب فن الإمارة، بالجد والفهم، وإلا فلِمَ قال:

يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ

وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى

كَأَنَّ بَنيهِم عالِمونَ بِأَنَّني

جَلوبٌ إِلَيهِم مِن مَعادِنِهِ اليُتما

وَما الجَمعُ بَينَ الماءِ وَالنارِ في يَدي

بِأَصعَبَ مِن أَن أَجمَعَ الجَدَّ وَالفَهما

فهو في كل بلدة؛ وإن كان لا يصرح بمبتغاه، يعلم أن الناس يرون فيه جالب فخر بدعوته للإصلاح الكلي، في سوء فهمهم له، ولكنه كان يريد أميرا، يكون فيما بعد ملكا، يعاني مثله صعوبة جمع الجد في الإمارة والفهم في سياستها، لذلك وفي إدراكه لأهمية رؤية الأمير لسنوات مقبلة في إصلاح المُلك، يقول بواضح القول حكمة يجب أن توضع ضمن «أدب الأمراء»:

فَرُبَّ غُلامٍ عَلَّمَ المَجدَ نَفسَهُ

كَتَعليمِ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنَ وَالضَربا

إِذا الدَولَةُ اِستَكفَت بِهِ في مُلِمَّة

كَفاها فَكانَ السَيفَ وَالكَفَّ وَالقَلبا

فالدولة، والمملكة، والحكومة، وفن الحكم، تستكفي بأميرها، فيكفيها، فيكون لها سيف قتالها، وكف بنائها، وقلب مودة أهليها له، فيا لله ما أبين المتنبي وهو يصوغ «أدب الأمراء»، لمن سيحكم اليوم، وغدا، وبعد غد، ويا له من مصيب حد المفصل، في اجتهاده في إبلاغ أميره.

وعلى كثرة من مدحهم المتنبي، ورثاهم من الأمراء، ومن دونهم ومن فوقهم، كان يجد نفسه ناثر حكمة «أدب الأمراء» على سيف الدولة، لا لحاجة سيف الدولة لذلك، بل لأن المتنبي من موقعه الشعري، أحس في نفسه أمانة تصوير الأمير، الذي يتقبل الحكمة، والموعظة الحسنة، من الكل عموما، ومن خاصة الخاصة خصوصا، لذلك يقول المتنبي في حكمة أدب الأمراء التي بز بها شعرا، من كتب من مؤلفي الرسائل والكتب فيها نثرا:

إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ

فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ

وهذه قاعدة كلية، موجهة لأميره، أيا كان اسمه، تدله على أن يستمر في صعوده بمملكته للنجوم لا دونها، ويضع قاعدة كلية أخرى للإمارة، وضوابط سياساتها، فيقول في أهمية مساواة الأمير لرعيته:

وَيَطلب عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه

وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ

فهو (أي الأمير) يطلب من الناس وعندهم، ما عند نفسه هو مساويا إياهم، وهو ما لا يدعيه سواه، ممن لم يكلفوا أنفسهم حب الناس بإمارتهم عليهم، ثم يتحول المتنبي في تمثل أدب الأمراء، ليجعل أميره المستحق للإمارة والسلامة في قيادته قومه من رعيته، وهي سمة أمراء القلوب، فيقول مخاطبا أميره:

أَلا أَيُّها السَيفُ الَّذي لَيسَ مُغمَداً

وَلا فيهِ مُرتابٌ وَلا مِنهُ عاصِمُ

هَنيئاً لِضَربِ الهامِ وَالمَجدِ وَالعُلى

وَراجيكَ وَالإِسلامِ أَنَّكَ سالِمُ

فهي تهنئة من صاحب حكمة واجتهاد، في صورة الأمير وعمله، وكونه لا يرتاب فيه، ولا يعصم من عصيانه بسلطته الشرعية، فيجمع ذلك كله مع النصر في الحرب، والمجد في السلوك، والعلى في التاريخ، الذي سيكتب عن الأمير.

إن هذا مما انفرد به المتنبي من معانٍ، عجز عنها معاصرو سيف الدولة، كالسري الرفاء وأبي فراس، وانفرد بها في حِكَمِهِ السياسية، عن أبي تمام، والبحتري، وابن الرومي، والمعري، لأنهم قصروا في فهم وتفهيم، وتصور وتصوير، أدب الأمراء بشكله الشعري.

لذلك فهو يرى في أميره، الهمة والكرم، وأن تدين لرؤيته القادمة الدنيا، فيجلس ويقومون لخططه ومشاريع مملكته، فيهدر قائلا له:

أَراعَ كَذا كُلَّ المُلوكِ هُمامُ

وَسَحَّ لَهُ رُسلَ المُلوكِ غَمامُ

وَدانَت لَهُ الدُنيا فَأَصبَحَ جالِساً

وَأَيّامُها فيما يُريدُ قِيامُ

وهذا القطر من البحر، في شعرية أدب الأمراء عند أبي الطيب، يجعلنا نفهم لم امتزجت شعرية المتنبي، بالرؤية السياسية للأمير، المراد في الحقيقة والمجاز، ذاك الذي يتحول في الشعر إلى كليات سياسية، تصلح لكل أمير يبايعه قومه، فينهض بهم في رؤية تبني مدنا، وتتحول في موارد البلاد نحو الاستدامة والتقدم، وتدخر للبلد أجمل قواعد أدب الأمراء، التي أوجزها أبو الطيب، بقوله لأميره المبايع على تقدم المملكة:

وَكُلُّ أُناسٍ يَتبَعونَ إِمامَهُم

وَأَنتَ لِأَهلِ المَكرُماتِ إِمامُ

وكذلك كل أمير بويع مثله..