-A +A
فؤاد مصطفى عزب
الذكريات مثل المشاعر تمضي بلا جواب شاف.. تجد اليوم هو نفسه اليوم ولكنه يترك لكل امرئ بصمة مختلفة يصور كل إنسان فيلمه الخاص عن الحكاية نفسها.. أحياناً عندما أفكر في البدايات.. أستعيد حياتي.. أرى كل ما عشته في أقل من لمحة أحياناً في لحظة تختصر الزمن.. يمر خيط الذكريات.. زمن النعيم.. ذكرى أقوى من أي حجاب.. عندما أبحث في ذهني كيف بدأت علاقتي بالدين والصلاة أطل على أيام رحبة.. شاهدت جدي منتصباً في أحد الأيام كان يقف على قدميه العاريتين مرتدياً ثوبه الأبيض وعلى رأسه كوفية خطوت إلى داخل الحجرة دون أن أغلق الباب ورائي.. رمش بعينيه كأنه لاحظ وجودي لكنه لم يلتفت إلى ظلي كان يتمتم بصوت خفيض لم أتبين سوى كلمة واحدة هي (الله أكبر) يعلو صوته بها بين الكلمات تقدمت بخطوات حذره ودرت حوله.. أشاهد الرجل المهيب من مختلف الجهات وهو ينتصب ويرفع يده على صدره أو خلف أذنيه ثم ينحني فجاءة يسجد مخفضاً هامته حتى الأرض كان يتوسل ويتضرع لكائن لا أره ويكاد ينهار أمامه ظللت واقفاً بالقرب منه لا أحرك ساكناً أحسست أنه يُرمقني من طرف خفي فأكملت خطواتي حتى أصبحت وراءه أتبعه من الخلف وهو ينتصب وينحني ويركع ويسجد كالجبل العتيد، كان جدي عملاقا وكان عنوانا للرهبة أستمرت عيناي تتبعان حركة الصعود والهبوط في الجسم والخواطر تروح وتجيء.. فكرة أضاءت في ذهني مثل النور القوي فانجذبت إليها عندما سجد على الأرض تبددت الرهبة وتلاشى الخوف زاد الإغراء بحيث لم أعد أقاومه وهكذا في قفزة فجائية طارت معها البقية الباقية من الحذر امتطيت ظهره غارساً أصابعي في العنق المديدة حتى لا أقع اجتاحتني موجة من الفرحة القوية ضاع في ثناياها كل المخاوف أصبحت فوق الرجل العملاق وهو يسجد وفي لحظة وجدت نفسي ملقاً على الأرض أغلقت عيني أخذت أبكي فجاءة وسط الدموع لمحت نظرة غريبة من جدي وهو يقول السلام عليكم ورحمة الله وانحنى علي ورفعني بيديه ثم ربت على رأسي وأحاطني بذراعيه قال لي لا تفعل ذلك فأنا (أصلي) لله وبدأ يشرح لعقلي الصغير الصلاة ومعناها كان يحدثني ببساطة وسلاسة وحنو كان كلامه كمياه نقية فوق الصخور وأغلق ذلك الموقف مع جدي فصلا من حياتي بكل تفاصيله ليبدأ فصل جديد منفصل عنه ومرتبط به فالحياة عملية مستمرة انتقلت إلى المدرسة.. كانت المدرسة امتداداً طبيعياً للتقاليد والأفكار ومقايس الأخلاق التي غرسها جدي وأبي في طوال السنوات الأولى من عمري كانوا يبذلون جهداً مستمراً لإنارة عقلي وكان أسلوبهم يتميز بالبساطة والتركيز على ما هو مهم دون التفاصيل كنت أعلم أنني في ذلك الوقت لم أكن أملك شيئاً حقيقياً في الحياة ولا حتى (أب) كنت أطأطئ رأسي عندما أرى الآباء ينتظرون أبناءهم خارج المدرسة كي لا تصطدم نظراتي بعيون الآباء من حولي لكني كنت ابناً لأولئك العظماء من المدرسين الذين ظلوا حاضرين في ذاكرتي ولم أنسهم أبداً أسماء كانت لامعة وازدادت لمعاناً كانوا أهل علم وخبرة كانوا نهراً في صورة معلم لم يفسدوا رؤيتنا لم يحدثونا عن (الصحوة) ولا (السكرة) علمونا أن اللون الأبيض سيد الألوان وأنه خبز الإنسان وأنه بالقتل والكرة والتدمير ينهدم البنيان وأننا يجب أن نطعم ونسقي ونسكن ونتطيب ونحب ونتفيأ وأن أولي العزم لهم موعد تحت ظلال الكلم الطيب وأننا كبشر نتباين في الحروف والألفاظ والمذاهب لكننا حتماً نتوحد ونتجدد ونتزود من نبع لا ينضب علمونا أن لا يرتفع شيء فوق حب الأم إلا حب الله فلم يفكر أحد منا في قتل أمه كانوا يعلموننا ديناً نقياً لا خزعبلات لا تكفير لا كراهية لا تبرير للقتل لا عنصرية لا طائفية لا تفرقة بين البشر رسخوا مبادئ لا يمكن اقتلاعها بأي قوة فوق الأرض أو تحتها أصبحنا قادرين على فهم ديننا تعلمنا منهم أكثر مما تعلمنا من الكتب كانوا أكبر من المواد التي يدرسونها لا إسراف ولا مبالغة ولا تحريض ولا تشنج، كانوا يتلون علينا قصة يونس في بطن الأحزان وأيوب عند ما مسه الضر ويوسف في قاع الجب ليقولوا لنا إن أبواب الرحمة مشروعة مهما كان البلاء وإن الصخرة لابد أن تتزحزح عن باب الكهف وإن كل الأزمات تمضي وتزول ما دمنا نؤمن بالدعاء لم يدعونا يوماً للموت أدخلوا الأحلام بين ضلوعنا وجعلوا ورود الحياة في عروة قمصاننا علمونا كيف نحفر في الصخر أو نصعد ونحفر في الغيم ونشق الجبال بلا سند لم يسرقوا أحلامنا لم يضعونا في حيرة كانوا يقولو لنا إن العالم صغير ولكنه ليس ضيقاً كانوا يعلموننا الضحك لا البكاء والفرح لا الحزن وأن كل الناس طيبون وليسوا سيئين وأن فعل الخير لا يحتاج أذناً من أحد وأن الجهاد في تطوير الوطن.. أحياناً يهيأ لي أن الصورة التي أحملها عن تلك الأيام أجمل مما كانت في الحقيقة وكأنها تداعب خيالي لتضفي على نفسها رونقاً لم يكن من صميمها ألواناً زاهية إذا ما قورنت بما يحدث اليوم.. ربما تكون هذه الصورة الزاهية التي أنقلها إليكم أحاسيس أحملها لأشخاص ضرباً من الوهم لكن ما تركوه من آثار فينا لم تمحها السنين أصبحت مثل الصفات التي نضفيها على الأبطال والعباقرة والقريبين منا والراحلين ترى هل أنا في حاجة إلى قدر من المبالغة والخيال تضاف إلى الحقيقة.. لا أعتقد!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com