هل الإنسان سجين تصوراته ومفاهيمه ورغباته وأحلامه؟ الواقع الملموس يجعلنا نذهب إلى أن الإنسان فعلا سجين المكان والزمان والثقافة والهوية والأيديولوجية. لا يستطيع تجاوزها لأنه يؤمن بما يتصوره ومعارفه التي تلقاها ورغباته التي تدفعه لطريق قد لا يرى بديلاً منه. أحلام المرء في ماهيته إلا تصورات خلقتها وأوجدتها الثقافة والمحيط الذي نشأ فيه. نعم نحن نرى العالم من خلال عدسة اللغة والثقافة التي نشأنا وكما قيل «حدود لغتي هي حدود عالمي». وذلك في إطار الهوية والذاكرة الجماعية التي لا نختارها بل نتوارثها. ومن هذه المكوّنات تصنع الرغبات التي تتشرّب القيم المجتمعية.

رغم هذه القيود إلا أن هناك لحظات تجاوزية. فإن كانت الثقافة تشكّل أحلامنا، لكنها لا تحددها تماماً. لأن هناك علاقة تفاعلية، فنحن نستقبل من الثقافة لكننا أيضاً نعيد إنتاجها ونغيّرها، كل المبتكرين والمفكرين خرجوا من ثقافة ما، لكنهم استطاعوا رؤية ما وراءها. كما أن هناك لحظات في الحياة (صدمة، حب، تجربة جمالية عميقة، مواجهة الموت، صدمة ثقافية) تُحدث شرخاً في التصوّرات المسبقة. هذه اللحظات تُظهر أن الإنسان قد يخرج مؤقتاً من سجن تصوراته، ولو جزئياً.

القدرة على النقد والتأمل الشيء الذي يميّز العقل البشري «ما وراء المعرفة». ذلك عندما يمتلك العقل القدرة على التفكير في تفكيره نفسه، الأمر الذي يخلق مساحة للتحرر النسبي، بالإضافة إلى الخبرات التراكمية والتفكير فيها، والاستنباط، والتجارب الحدية من الأزمات والمواجهات مع الاختلاف الجذري (كالتعرف على ثقافة أخرى بعمق) قد تهز اليقينيات وتفتح فجوات في قيد المكان والثقافة والزمان. ولا ننسى إن الفن والفلسفة يلعبان دوراً كبيراً وهما أداتان تاريخيتان لكسر التصورات المألوفة، علماً أن العمل الفردي أيضاً قد يعمل فارقاً. إن تاريخ الفلسفة مليء بأمثلة عن أشخاص تجاوزوا ثقافتهم الأصلية (مثل إخوان الصفا في العصر العباسي أو فلاسفة التنوير الأوروبي).

السؤال الذي يفرض نفسه؟ كيف يتسنى للإنسان توسيع فكرة «ما وراء المعرفة»، وكيف يمكن تدريب هذه العضلة العقلية؟ الجواب بسيط، وفي ذات الوقت يحتاج إلى إرادة قوية تجعله يعمل التأمل، الكتابة التأملية، أو الحوار الجدلي مع الذات. لكي نتحرر من سجن ذواتنا. ويجب أن نسعى لحوار حقيقي مع شخص مختلف جذرياً (في الفكر، الثقافة) قادر على زعزعة تصوراتنا وكسر أحادية الرؤية. كما يجب أن لا يغيب عن ذهن المرء أن التحرر من التصورات الموروثة ليس رحلة مُرفهة؛ لأن الانعتاق قد يعني فقدان الدفء الوهمي لليقينيات والانتماء السهل.

وهكذا، نجد أنفسنا أمام معادلة وجودية معقدة. نحن بالفعل طيور تحمل أقفاص ثقافتها ولغتها وزمانها، لكن هذه الأقفاص - على عكس سجون الحجر - تحمل في بنيتها نفسها إمكانيات التحوّل. مفاتيحها ليست في عالم آخر، بل في تلك اللحظات من الدهشة والمواجهة والشك الجذري. الانعتاق هنا ليس هروباً من القفص، بل فن إعادة تشكيله من الداخل. وهي رحلة ليست دون ثمن؛ فالثمن قد يكون اغتراباً مؤقتاً أو قلْقاً من فرط الإمكانيات. لكنها الرحلة التي، عبر الفلسفة والفن واللقاء الصادق مع المختلف، تمنحنا شيئاً ثميناً: لا الإطلاق من كل قيد، بل القدرة على رؤية أقفاصنا، وبالتالي، احتمال اختيار أي من أبوابها نفتح اليوم.