قال لي أحد كِبار الكُتّاب ذات يوم؛ أنتِ (مُصيبة) القلم، وكلماتك (داهية) مثلك، ويا لها من فوضى ساخرة وساحرة.
ابتسمت، وأنا أستمع له، ولكني حاولت أن أفك شفرات كلماته، هل تعتقدون كان يمدحني أم يذمني؟!
وبما أن اللغة العربية قرّرت أن توزع الألقاب وجعلت الرجل إذا أصاب (مُصيباً)، والمرأة (مُصيبة)، ها أنا أقف أمامكم اليوم بكامل (مصائبي اللغوية)، فسمّوا بالله وادخلوا معي في هذه المتاهة، ودعونا نختفي عن أنظار المُحررين، والمُراجعين، والمُدققين، ورئيس تحرير هذه الصحيفة ومُعاونيه.
ولا تسألوني عن مدى سلامتي العقلية، فأنا شخصياً حين أكتب، أبحث عنها في «قسم المفقودات».
فالكتابة الصحفية أمارسها مُنذ زمن كهواية تجري في دمي مجرى الشيطان، ولا استطيع (الفكاك) عنها، فهي مُتشبثة بي، وأنا متمسكة بها ولسان حالي يردد (اللي شبكنا يخلصنا).
الكتابة عندي ليست مهنة؛ ولا بصمة (حضور وانصراف)، بل هي لذة عارمة لا يشعر بها إلا من جرّب أن يُمسك قلماً ويكتب أفكاره السوداء على ورقة بيضاء دون أن ينظر حوله باحثاً عن قرّاء.
ومن فضلكم لا تطلبوا مني أن أكون موضوعية، فالموضوعية في الصحافة كذبة بيضاء اخترعها أولئك الذين لا يملكون حبراً كافياً يملأ المساحات.
أما عني؛ فأحب أن أكتب كما لو أن لا أحداً في قاعة التحرير سوف يقرأ ما كتبت، فلباس «الصحفي» ليس لباسي، ورداء «الكاتب المُتزن» يخنق حروفي ويُقيّدها.
فأنا أفضّل أن أطير على ورق الصُحف، أركض ما بين السطور وأقع أحياناً في حُفر «الرأي العام». وأرفض الانصياع لقوانين «ما يطلبه القراء»، فأنا أكتب لنفسي أولاً، أما القارئ، فله مني فخ من الكلمات، إن عرفت كيف أسقطه فيه فقد نجحت، وإن نجا فربما «أمه داعيه له».
يقولون إن «خير الكلام ما قل ودل»، وأنا أقول: «خير الكلام ما جلّ وخل»، أي ما جعل القارئ في حيرة يضرب كفاً بكف متسائلاً:
هل هذه كاتبة تبني صروحاً من فكر، أم مجرد عابثة بالحرف تهدم ما تبقى من جدران الواقع؟!
ربما يبحث الزملاء الأعزاء في «صالة التحرير والتكرير وإعادة التدوير» عن السبق الصحفي، لكني دائماً أبحث عن «سبقي الخاص» وسأظل (مُصيبة) في نظر القواعد، و(داهية) في نظر الرتابة، وسأبقى أكتب بقلبي قبل قلمي، حتى يمل مني الورق، أو أمله أنا !
وبناءً عليه؛ أتمنى أن يتحمّل رئيس التحرير وزر كتاباتي، لأنني لم أكتب حتى الآن بعد أسوأ ما عندي.
وإلى ذلك الحين؛ أيها السادة المتورطون بقراءتي حتى هذا السطر، لا تحاولوا تصنيفي أو وضعي في قوالب الأعمدة الثابتة، فعامودي آيل للسقوط فوق رؤوس التوقعات دائماً.
وإنني أعتذر مسبقاً لكل مدقق لغوي حاول «تقليم أظافر» كلماتي، ولكل مُحرر حاول فهم ما يحويه (بطن الكاتب) ؟!
فأنا أحب أن أكون (مُصيبة) حلّت بصحفكم، فالتاريخ لن يذكر الكُتّاب الذين التزموا «بمواعيد التسليم»، لكنه سيذكر الكُتّاب الذين جعلوا المطابع تنتظر، والقرّاء يجنّون، والمحررين يتساءلون:
هل سمح رئيس التحرير بنشر هذا؟