الشركات العائلية في السعودية ليست مجرد منشآت اقتصادية؛ إنها جزء من تاريخ الاقتصاد الوطني، وامتداد لجهد مؤسسين بنوا أسماءهم بحكمة التجربة وخبرة السنين. ورغم أن تأسيس الشركة قد يكون سهلاً على يد شخص واحد، إلا أن بقاءها لثلاثة أجيال متعاقبة هو المهمة الأصعب على الإطلاق. فالتحدي الحقيقي لا يبدأ عند التأسيس.. بل عند انتقال الملكية والإدارة من جيل إلى آخر.
وقد أصبح واضحاً خلال السنوات الأخيرة أن الشركات التي تبنّت الحوكمة بشكل مبكر نجحت في حماية نفسها من التقلبات، لأنها لم تترك قراراتها للمصادفات أو الارتجال، بل بنت أسساً واضحة تُنظم علاقة العائلة بالشركة، وتحدد من يملك ومن يدير، وكيف تُصنع القرارات.
وتبدأ هذه الأسس من خطوة جوهرية: فصل الملكية عن الإدارة. فوجود أبناء العائلة في المواقع التنفيذية ليس خطأ بحد ذاته، لكنه يصبح كذلك حين تُدار الشركة بمعيار القرابة لا بمعيار الأداء. ومن هنا، جاء الاتجاه نحو جعل مجلس الإدارة مركز القرار، وترك التشغيل للمهنيين، بحيث تكون القرارات محكومة بالخبرة وبنظام واضح، لا بالروابط العائلية. هذا الفصل لا ينتقص من دور العائلة، بل يحميها من أعباء التفاصيل اليومية، ويعطيها مساحة للرقابة والتوجيه بدلاً من الصدامات الداخلية التي تظهر عند غياب الحدود.
وتتسع هذه الحدود بوجود أعضاء مستقلين داخل مجلس الإدارة؛ أفراد لا يحملون إرثاً عائلياً ولا تحيّزاً تاريخياً، ويستطيعون تقييم القرارات بصفاء وموضوعية. حضور المستقلين في المجلس لا يُعد ترفاً تنظيمياً، بل هو أداة تضمن أن تكون القرارات مبنية على الوقائع لا على الانفعالات، وأن يكون المجلس قادراً على أخذ مواقف حازمة في الوقت الذي قد تتردد فيه العائلة بدافع العاطفة أو المجاملة. كثير من الشركات التي استعانت بمستقلين مبكراً وجدت أن القرارات أصبحت أكثر هدوءاً، وأكثر اتزاناً، وأقرب إلى لغة السوق الحديثة.
وفي المقابل، يظهر عنصر دقيق كثيراً ما يغيب عن النقاش: المركزية في اتخاذ القرار. فالمركزية التي كانت عنصر قوة في يد مؤسس الكيان التجاري بفضل قربه من السوق، وخبرته، وقدرته على الحسم لا تعمل بالطريقة نفسها حين تنتقل الإدارة إلى الجيل اللاحق. ومع توسّع الأعمال وازدياد التعقيد، تصبح الإدارة المعتمدة على الذاكرة أو على أسلوب المؤسس غير قادرة على مواكبة السرعة التي تتحرك بها السوق اليوم. وعندما يستمر الأبناء في تقليد النموذج القديم بدافع الوفاء لتجربة المؤسس، تتحوّل المركزية تدريجياً إلى إطار يحدّ من قدرة الشركة على التوسّع، ويؤخر قراراتها، ويجعلها أقل استجابة للتحوّلات. أما الشركات التي تتبنى آليات واضحة للتفويض وتوسيع الصلاحيات، فتكون أكثر قدرة على بناء إدارة تتناغم مع العصر دون أن تفقد روح العائلة.
ويأتي بعد ذلك دور لا يقل أهمية: الميثاق العائلي. فالعائلة التي تضع مبكراً قواعد انتقال الملكية، ومعايير دخول الأبناء، والضوابط المنظمة للعلاقة بين الشركة والورثة، تحمي نفسها من الكثير من التوتر المستقبلي. الميثاق ليس وثيقة عقابية ولا بروتوكولاً للتجميل؛ هو ببساطة اتفاق يحدد كيف تتصرف العائلة حين تختلف الآراء، وكيف تُدار الشركة عندما تتعدد الرغبات. وقد أثبتت التجربة أن الأسر التي أعدّت ميثاقاً مبكراً، حتى وإن كان مختصراً، استطاعت أن تمر بمرحلة التعاقب بأقل قدر من الاحتكاك وأكثر قدر من الوضوح.
وعند النظر إلى العائد الفعلي لهذه الممارسات، لا تعود الحوكمة مجرد إطار تنظيمي؛ بل تصبح وسيلة عملية لتحسين الوصول إلى التمويل، وجذب الشركاء، ورفع قيمة الشركة عند البيع أو التوسع. فالسوق اليوم تتعامل مع الشركات بقدر مستوى تنظيمها، وليس بقدر شهرة مؤسسها. وعندما تُربط القرارات بنظام واضح ومستقر، تستمر الأرباح حتى مع تغيّر القيادات، لأن الأداء لا يعود مرتهناً لشخص أو لأسلوب، بل لآلية عمل قابلة للبقاء.
والخلاصة أن مستقبل الشركات العائلية لا يُحمى بالنية الطيبة أو بتاريخ المؤسس مهما كان لامعاً. الاستمرارية الحقيقية تتطلب الانتقال من مرحلة «القرار الشخصي» إلى مرحلة «النظام المؤسسي».
الشركة التي تقوم على فرد.. تنتهي بانتهائه.
والشركة التي تقوم على نظام مؤسسي مرن.. تبقى مهما تغيّر الزمن وتغيّرت الأجيال.