كتاب ومقالات

الأفندي عبدالله.. بياض القلب والوجه

علي بن محمد الرباعي

هناك شخصيات، تكتشفها على دفعات، وشخصيات تمنحك نفسها دفعةً واحدة، وشخصيات تقابلها وتتفاعل معها إلا أنك لا تعرفها جيداً إما لغموض فيها أو عجز منك عن سبر أغوار البشر، ويظلّ أعسر ما على الإنسان أن يفقد دفعةً واحدة، صديقاً عرفه بالتدريج.

الصديق الفقيد عبدالله أحمد الأفندي، ممن عرفتهم على دفعات، برغم صلتي الوثيقة بأسرته الكريمة، وأهله الطيبين في منطقتنا، عاد للعمل في العلاقات العامة بإمارة منطقة الباحة، مؤهلاً بشهادة الجامعة، وتزكية العالمين بدماثة خُلقه، وكنا، نراه أنيقاً في اللقاءات محترماً في المناسبات، مثقفاً في التقديم والتعليق على مجريات الأحداث، ونقل آخر المستجدات عبر شاشة تلفزيون الباحة.

عشق الإعلام، وكانت الإذاعة معشوقته الأثيرة، ولذا سرعان ما واتته الفرصة، لاستكمال دراسته في جامعة نايف، فانتقل لإمارة الرياض، ليكون قريباً من التحصيل العلمي، وليشبع نهمه في الاتصال بالعشق الأزلي، ليصلنا صوته الشجي، مخضباً بشذى جبال السراة، ومن برامج الصباح والمساء، ينتقل للبرامج السياسية، في مرحلة حرجة سياسياً، ويطل من خلال الشاشة الفضية في القناة الأولى عبر برنامج أسبوعي واكب فيه أحداثاً واستضاف شخصيات، وأدار حوار النخب باقتدار، فيما عَلِق صوته بالأسماع مقدماً برنامجه الإذاعي الشهير (طبيب الإذاعة).

شاءت الأقدار أن ينتقل الصديق الراحل لقطاع الثقافة، ويشرف بصفة شخصية على تحولات المؤسسات الثقافية، عبر إدارته للأندية الأدبية، وتحمل تبعات جمة في سبيل تمرير مشروع التغيير والتطوير في الشكل والمضمون، وبحكم طبيعة التركيبة الأدبية المعقدة، نجح (أبو أحمد) رحمه الله في حلحلة أزمات، وترتيب توافقات، وخلق توازنات، ولم يكن تقاعده على المرتبة الرابعة عشرة إلا دليلاً على صدقه في العطاء، وحُسن الأداء.

جمعنا لقاء في المدينة المنورة، وكأني مريد في حضرة شيخه، أُصغي إلى الأدب الجمّ، والعبارة المهذّبة، وأتلمّس كرم النفس، ليتجدد اللقاء في معرض الكتاب قبل أعوام، ثم في شهر جمادى الآخرة الماضي، في ليلة بدريّة، كان حواراً مطوّلاً بين القرية والمدينة، وعندما أوصلتني للفندق، استيقظتُ على رسالتك؛ تدعوني فيها لتناول الغداء، كون الجو جميلاً.

لو أننا نستشعرُ مُبكراً فقد أحبابنا لما فارقناهم، أو لكُنّا أعددنا العُدّة النفسية والبلاغية، لاستيعاب صدمة الموت، والتعبير عن المصاب الجلل بما يناسب الموقف، إلا أن الحدث المفاجئ يعقد الألسن، ويصحّر قاموس الوجدان، فتكتب وتمحو، وتضيف وتحذف، وتبكي وتصمت؛ وتخشى وتؤمّل؛ لأنك لا تدري كيف سيقرأ شركاء الوجع كلماتك.

رهبة الوداع، توصد باب الاستعارات، فالحقيقة الصادمة لا تتيح مساحة، يجاورها فيها مجاز، ورسالة الموت هي للأحياء ليبدأ المفجوع بفقد من يحب مراجعة حساباته وفتح حقائب الذكريات، متمنياً لو أنه أحسن ولم يسئ، لو أنه وصل ولم يهجر، لو أنه سلّم ولم يقطع، وكأنما الفقد ناصب فخاخ عتاب مع النفس اللوامة.

تأخرنا في حوارنا يا صديقي، وكنتَ؛ عندما استلمتَ أسئلتي؛ تعدني بإشراع درفات؛ خزينة الأسرار لـ«عكاظ»، لتنفض كل ما بها من مواقف ومواجع وعتب وحُب واعتذار، إلا أن مشيئة الله نافذة، ليحل نبأ الموت، ونغدو كمن حل الظلام علينا ونحن في منتصف النهار.

ودعتنا (أبا أحمد) ببياض القلب، والوجه، واليد، وأنت أشبه بذاك الغيل الصافي الطهور المنساب بجوار منزلكم في الباحة، يتوضأ منه الشيخ أحمد الأفندي، كل صباح، وترتوي منه المزارع، وتحط على أغصان سدرة -تظلل الهابطين لسوق الخميس- عصافير، تعزف أنشودة المشهد الأخير، وتبث في شرايين القرى لحن وداع منكسر.

أُعزي نفسي، وأسرتك، وإخوانك، ومنطقتنا، والوطن، محتسبينك ضيفاً على الكريم المنان.