تحميل...
قبل سنوات كُلفت من قبل إحدى الجامعات بالإشراف على طالبة ماجستير من طالبات المنح الدوليين، وفجأة انقطعت الطالبة عن العمل فأرسلت إليها على الإيميل مستفسراً عن سبب هذا الانقطاع والوقت المخصص لإنجاز الرسالة قارب على الانتهاء؟ فأفادت بأن أخاها الأكبر مفقود من شهور وهي وأهلها لا يعرفون عنه شيئاً! المهم بعد مدة ليست باليسيرة تواصلت الطالبة معي وأخبرتني بأنها ستعود للعمل وأنهم علموا بوجود أخيهم على قيد الحياة، ثم أردفت: بأنهم اكتشفوا وجوده في سجون تلك الدولة بطريقة لا تخطر على بال، فدعاني الفضول إلى سؤالها، فقالت: كانت أمي تسكن معي في هذا البلد، وكانت تحضّر للماجستير فلما حان موعد المناقشة سافرت أمي لإجراء المناقشة، وبعد أن بدأت اللجنة في عملها لاحظت أمي أن الوجوه متجهّمة واللغة التي تخاطب بها في غاية الخشونة، وفي نهاية المناقشة تم إعلان النتيجة بحرمانها من الدرجة وشطب الرسالة! في تلك اللحظة نزلت أمي من المنصة وسجدت لله شكراً وبكت من الفرح لأنها عرفت أن ولدها ما زال على قيد الحياة، وأن حرمانها من الدرجة كان عقوبة لها على فعل ولدها! وبالفعل كان ذلك حيث تتبعوا أمره ووجدوه مسجوناً في قضية تتعلق بأمن الدولة!
هذه الصورة الحالكة السواد يقابلها في وطني صورة ناصعة البياض: كان زميلي في الجامعة يشارك في لجان الإصلاح التابع لرئاسة أمن الدولة ويزاول مهنته بكل حرية داخل السجن، وفي ذات الوقت يذهب بعد انتهاء نوبته ليدخل من باب الزائرين فيزور أخاه الموقوف على ذمة قضية تتعلق بأمن الدولة، وهي قضية من العيار الثقيل! ومثلها صور كثيرة تكشف حجم قيمة العدل ومركزيته في وطني، وآخرها قبل أيام حينما أقامت إدارة السجن في منطقة القصيم حفل تخريج الدفعة الأولى من طلاب برامج الماجستير في الدراسات العليا في الجامعة (جامعة القصيم) في حفل أخوي بهيج، من يشاهده لا يكاد يفرق بين جندي ونزيل من متانة الأواصر بينهما!
إن العدل حينما يكون نهجاً راسخاً للدولة وقيمة مطلقة في كل تصرفاتها وتدبيراتها لا تسل حينها عن قوة الدولة ورسوخها، لأن الجميع سيشعر أن بقاء هذا الكيان/الدولة هو بقاء لأمنه ومستقبله ومستقبل أولاده من بعده، وبالتالي فكل واحد سيبذل الغالي والنفيس في حماية هذه الدولة والذب عن قيادتها، كما هو الحال في وطني ولله الحمد والمنة.
وفي ذات الوقت حينما يغيب العدل في أي دولة بغياب النظام الذي يكفل تحقيقه والمنظومة التي تتأكد من تطبيقه وترسيخه سيشعر الجميع أنهم مستهدفون في أي لحظة، وأن من خارج السجن من الناس يمكن -في أي ساعة من ليل أو نهار- أن يكونوا داخله بحسب مزاج المسؤول ورجل الأمن، حينها يسود الجميع حالة من الانتقام والتشفّي من الدولة ورجالها، وتكون مجالس الناس فيما بينهم مادة للسخط والتعبئة انتظاراً لضعف قبضة الدولة وهشاشة أجهزتها، وهذه لحظة تاريخية لابد أن تحين ما دام العدل غائباً والظلم فاشياً، إذ هي سنّة لا تتخلّف وقانون لا يتحول «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، والعدل بين الناس هو من أعظم أمارات التقوى وظلمهم والبغي عليهم هو عنوان التكذيب والجحود. ولهذا يشتغل المارقون المستأجرون على إفساد أمزجة الناس وتصوراتهم تجاه الدولة، فيعملون بكل وسيلة ممكنة في توظيف اللقطات والصور والتصريحات والأخطاء لصناعة السخط في عيون الشباب وفي قلوبهم ابتغاء للحظة المنشودة. إن قيمة العدل في أي دولة لا يحكم بوجوده أو نفيه من خلال تصرف أو موقف أو حالة، بل معياره ثابت في الشريعة ومؤشراته بينة واضحة، وهي تحقق الضرورات الخمس، فإذا كانت محفوظة ومصونة -في أي بلد- فهذا هو العدل بعينه وإذا كانت مهدرة مسلوبة فهو الظلم بعينه، ونحن بحمد الله في هذا الوطن الشامخ حفظت لنا قيادتنا هذه الضرورات وعظمتها وسنت التدابير والأنظمة التي تحمي كل ضرورة وتعلي من شأنها، فالدين معظّم والعقل مصان والنفس معصومة والمال محفوظ والعرض محمي. فلله الحمد أولاً وآخراً على وطن يفيض بالعدل والرحمة، وعلى قيادة رشيدة ترجو الله والدار الآخرة.