-A +A
علي بن محمد الرباعي
ربما اعتاد بعضنا سلوكيات، واستمرأ البعض تصرفات؛ ليس لها ثمرة، أو أن ثمرتها شكلية، وأثرها غير إيجابي؛ على ظاهره البراني، من طعام يسمّن ولا يُغذّي، ولباس يُشوّه ولا يُجمّل؛ شأنها شأن تأثير عبادات مُفرغة من معانيها السامية؛ على باطنه الجُوّاني؛ وإن قال البعض، العبرة بالأداء، إلا أنه ما يُصلّي المُصلّي إلا طلباً للمغفرة، ولا حجّ الحاج إلا أملاً في تكفير ذنوبه، وبعض الأداء؛ مُوجبٌ للإعادة.

وإذا كانت أول كلمة؛ نزلت على سيدنا رسول الله، عليه الصلاة والسلام (اقرأ) فإنها أُتبعت بآيات؛ لها علاقة؛ بالخلْق؛ والعِلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ خلق الإنسان من علق؛ اقرأ وربك الأكرم؛ الذي علّم بالقلم)، وما ذاك إلا لأن القراءة بالبصر والبصيرة، اكتشاف متجدد، وصِلة دائمة بالمُوجِد، والموجودات، وتفاعل حواري مباشر، وغير مباشر، بين البشر والكون، وبين كاتب وقارئ، والقارئ الجيّد إضافة للكاتب والمكتوب، كما أن المتأمل الواعي؛ يضيف معنىً لما تأمله.


لا خلاف على أن القارئ يمنح الكتاب؛ باقتنائه معناه، ويبوئهُ منزلته، ويعلي شأن وجوده، ويحفظ مقام مؤلِفه؛ لترد القراءة الجميل بمثله ؛ فتصوغ وجدان القُرّاء، وتشكّل ذهنيّاتهم، وتُسهم في تحديد طرائق تفكيرهم، وأساليب عملهم، وتُحيل الصحراء القاحلة، في دواخلهم؛ إلى جِنان خضراء.

البعض يريدُ عمراً إضافياً لكي يقرأ، وربما لم يسأل نفسه؛ ما سبب اقتناء الكتب؛ ولماذا أقرأ؟ وهل من غاية لهذه الهواية الشاقة الشيّقة؟، وهل نقرأ لكي نفهم، أم نقرأ لكي نعلم، أم نقرأ لكي نتكلّم، أم نقرأ لكي نتأزم؛ أو لنُسلّم بما نقرأ، ونردد كالببغاء دون نقاش، ولا مساءلة؛ أم نقرأ؛ لنتهذب وجداناً وسلوكا؟.

ليس بالضرورة أن يغدو البعض (دودة كُتب) يلتهم وينتفخ لمجرد التظاهر أنه يصعب فشه، (لكل شيء آفةٌ من جنسه، حتى الحديدَ سطا عليه المبردُ)، وهنا أذكر قصة فيلسوف شخط بعود الكبريت في العلبة، فاشتعل الثقاب؛ فسأل طفلاً لاختبار قدراته؛ من أين جاءت النار؟ فنفخ الطفل بفمه واطفأها؛ وسأل الفيلسوف؛ إلى أين ذهبت؟ فانعقد لسانه.

للقراءة جانب معرفي، وبُعد أخلاقي، وأثر نفسي، وفهم ديني، وتداعيات اجتماعية، وإدراك سياسي، ومن الطبيعي أن تُخرج القراءة منّا أشياء؛ وتُدخلُ فينا أشياء، وتثير فينا أسئلة، وتفتح أعيننا على مضمر، وراء الحروف؛ وتدفعنا للتفكير في اللامكتوب، وتؤسس فينا موضوعية؛ لا تُهادن نصاً بالمحاباة، ولا تتحامل عليه لعدم استمزاج كاتبه.

إذا كانت القراءة؛ ستخلق في القارئ وحشاً هَلِعاً، أو شخصاً جشعاً، أو تجعل منه طاغوتاً؛ أو عفريتاً، أو متزمتاً، أو نصاباً، أو ظالماً، أو خائناً، أو عميلاً، أو عربيداً فلن أقرأ.

إذا كان البعض تتضخم ذاته بالقراءة، ويستصغر ويحتقر الناس، ويتعالم، ويتذاكى؛ ويستعرض ويفرد عضلات الادعاء ويزدد قُبحاً وفُجوراً ويقول زوراً، ويُزايد على تديّن الآخرين، ووطنيتهم فلن أقرأ.

وإذا كان نفر قليل يقرأ ليستدرج وجاهة، ويجلب ضوءاً، ويغري فاتناً، أو يستميل ذا مال ورصيد، أو ليجمع حوله مريدين، أو يضاعف عدد المعجبين والمعجبات؛ فلن أقرأ.

إذا كنتَ تقرأ لتغمط الحقوق وتهدر الكرامات، وتقطع الرحم، وتُفسد العلاقات، وتُدمر الصداقات، وتسيء لكرامة أهل، أو عائلة، أو تستقوي على زوجة، أو تهمل أولاد، أو تزوّر الحقائق، وتدّعي الفضائل فلا تقرأ.

ليتنا نقرأ لنمحو من ذواتنا كل التشوهات، الفطرية، والمكتسبة، ولنشعر بأعداد بشرية مرّوا بما نمر به، من متاعب، ومصاعب، ومثالب ؛ وأحزان؛ وفواجع، فنتأنسن، ونعتني بكل ما له صلة بالحياة النابضة بالحق والخير والجمال.

ليتنا نقرأ؛ إيماناً بأنّ الكتاب صديق، والحروف عشيقة وفيّة، والحبر؛ حارس وعي أمين، والورق؛ صدر الأُم الأبيض الذي يفرّغ الأولاد فيه بالكتابة شحناتهم، ومآسيهم، وشخباطتهم، وعذابات الجرح الدفين.

ماذا يعني أن تحضر معارض الكُتب، وتقتني الأسفار والمراجع، وتقابل المُؤلِفين، وتحاور الناشرين؛ إن لم تعزز القراءة فيك إنسانيتك وترتقي بسلوكك وتكشف معدنك الثمين؟؛ وما قيمة قراءآت لا تحمي؛ من الزيف، والخُرافة، والجهل، والشائعات، والإذعان والتبعية العمياء؟

سنقرأ وفاءً لمن كتبوا، في زمن كان القلم فيها؛ يرتعد، قلقاً بين أنامل الكاتب، ونقرأ عرفاناً لسُهد مؤلف يخرج ويدخل، ويقوم ويقعد؛ في سبيل إتمام فكرة، استعصت عليه؛ فقضّت مضجعه، وأرّقتْ منامه.

القراءةُ؛ كماءِ سماءٍ؛ خالطته بقعر خابية ؛ نفحةُ عناقيد، فزادت النقيُّ نقاءً، وكشفت حقائق الوجوه المُقنّعة، والقراءة ؛ التي لا تغيّر فينا شيئاً ؛ قراءة خاسرة.