-A +A
أسامة يماني
ترتبط كلمـة جاهلـيـة فـي أذهان البعض بأنها الفترة التي سبقت البعثة المحمدية، ولقد دأب بعض المفكرين والكتّاب والأدباء ورجال الفكر الديني على إطلاق هذا اللفظ على الفترة الزمنية السابقة للبعثة النبوية الشريفة.

إن الجهل والجهالة والجاهلية تعني نمطا معينا من الفكر والسلوك والتصرفات تتسم بالسفه والاستخفاف والحمق، فالجهل هو الاعتقاد الجازم شير المطابق للواقع، ويقال الجاهلية والمجهولية والمجهلة، وكذلك يقال الجاهل والمعش والمتعامش، ويقال استجهله واستحمقه واستعمشه (۱).


قـال تعالى: «وأعرض عن الجاهلين» (سورة الأعراف آية ١٩٨)، وجاء في التنزيل: «قالوا اتتخذونا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون مـن الجاهلين» (سورة البقرة آيـة 67)، وقال تعالى: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» (سورة الفرقان آية 63)، فهـذه الآيات تنهى عن صفات تتسم بالخفة والحمق والرعونة والمفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر والفخر بالنفس ظاهرة تدل على العقم الفكري، يهدف صاحبها لإرضاء مركبات النقص ويهدف منها إلى تحقيق التفاخر الاجتماعي على مستوى الكتلة بأسرها.

وهـو أمـر نراه بوضوح في مجتمعاتنا الحالية، فالتفاخر والأنساب كلها سمات تدل على الخفة والحمق والبعد عن الواقع، يقول الصادق النيهوم في كتابه كلمـات تقـال بأمانة عن مشكلة التراث العربي: «فالإنسان يساوي الإنسان كما يسـاوي الغـراب الغراب، والمرء لا يجوز أن يضع هذه الحقيقة البسيطة تحت طائلة النقاش الطائش الذي لا يهدف إلى شيء في نهاية المطاف سوى إضاعة الوقـت.. فالعلامة التجارية فوق علبة السردين ليست هي السردين، ولون الإنسان ولغته وظروفه المباشرة ليست هي الإنسان نفسه».

إن الحضارة قد وعت هذا الدرس بوضوح كافٍ وتعلمت بالتجربة أن حليب الإنسـان هـو عطـاؤه الفكـري لتحقيق المعجزة المتمثلة في إيجاد الطريق أمام الحضارة بأسرها.

فقد عرف الإنسان أنه خليفة الله في الأرض، وعرف أن الله يريده أن يحقـق انتصـاره الخاص على ظاهرة (الشر) في العالم، ويقهر أمراضه وفقره وجهلـه وتسلط الآخرين عن مسيرته ومظاهر الظلم والخداع ورذيلة الجبن في مواجهـة أخطائه.

فأينما وجد هذا النمط من الفكر والثقافة والسلوك، فإنه يطلق عليه جاهلية، فطالما كان هناك ظلم وحروب واقتتال وتفاخر وثارات وانتقام، فإن هذا اللفظ ينطبق عليه، وتراثنا العربي مليء بالحروب والاقتتال والاحتراب على السلطة والتفاخر، وليس هناك إلا ومضات سريعة مضيئة في تاريخنا، ومع ذلك ما زلنا ننزه أنفسنا ونعظـم ذاتنا، وما زال الأخذ بالثار والتفاخر في مجتمعاتنا العربية وغير العربية ظاهرة تئن تحت وطئها المجتمعات العربية وغير العربية.

إن جميع الأنماط السلوكية التي كانت في تراثنا القديم، والذي جاء القرآن ليحاربها ما زلنا نراها في مجتمعات، ما زال معيار الكرامة في مجتمعاتنا للقبلية وليس للتقوى والعدالة والإحسان، وما زال القتل والنهب والاعتداء والإرهاب يمارس في مجتمعاتنا العربية من بعضنا ضد بعض، ما زال الاضهاد الديني نراه بين الطوائف وهو تراث قديم أشار إليه القرآن الكريم: «قتل أصحب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود».

اليوم والحاضـر يوضح بجلاء أن البعض يمارس الاضطهاد على الآخر باسم الدين، وذلك في الوطن الواحد، وما زال البعض لا يقبل بالآخر.