لماذا يصمت المثقف ويجهر بكل ثقة الجاهل؟ والسؤال الأعمق: كيف نعيد الشرعية الاجتماعية للتفكير في عصر يقدّم الإجابات السريعة ويسخر من التساؤل؟ الجواب على السؤال الأول يمكن اختصاره في أن المثقف غالباً يدرك تعقيدات القضايا، ويعرف أن الكلام يحمل تبعات فكرية وأخلاقية وسياسية. هذا يجعله أكثر حذراً، وأحياناً يؤدي إلى «شلل التحليل»، أو كما قيل من حسب سلم. أما «الجاهل» (بالمعنى النسبي) قد لا يرى هذه التعقيدات، فتتولّد لديه جرأة التبسيط والحديث من منظور ثنائي (أبيض/أسود) يسهل تداوله. الواقع أن أسباب الصمت تتعدّد من ثقل المسؤولية، أو في بيئة الرقابة، وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وتسليع المعرفة، حيث تتفوق العبارات الاستقطابية البسيطة على الأفكار المعقدة في «قيمة السوق».
الإجابة على السؤال كيف نعيد الشرعية الاجتماعية للتفكير في عصر التواصل الاجتماعي، يكمن في معرفة المشكلة التي ليست فقط في صمت المثقف، بل في شروط الحوار العام التي أصبحت معادية للتعقيد والتفكير النقدي. المطلوب ليس فقط «كسر صمت المثقفين»، بل إعادة بناء فضاء عام يحترم المعرفة، ويقدّر دور التفكير، ويخلق جسوراً بين العمق الفكري والتأثير الاجتماعي.
المشكلة الأساسية تتمثّل في تصور خاطئ شائع: فالكثيرون ينظرون إلى المعرفة على أنها مادة محايدة، نقية ومتاحة للجميع بسهولة. وهذا التصور يختلف جوهرياً عن الرؤية النقدية التي قدّمها الفيلسوف ميشيل فوكو، الذي يرى أن المعرفة ليست بريئة ولا محايدة، بل هي بالأحرى نسيج تُحاك خيوطه في نول علاقات القوة والسلطة داخل المجتمع. فالمعرفة، في عرف فوكو، تُنتَج وتُتداول لخدمة مصالح محددة، عامة كانت أم خاصة، وتصبح أداة لترسيخ الهيمنة أو، إذا ما أعيد تشكيلها بوعي نقدي، أداة للتحرر والتغيير. لقد حوّل فوكو فهمنا لها من كيان مجرد إلى ممارسة سياسية ملموسة، مظهراً الطبيعة المزدوجة للمعرفة التي يمكن أن تقيّد أو تحرّر، ومن هذه النقطة المحورية تنبثق مسؤولية المثقف ودوره الحاسم في تمحيص هذه الآليات وإعادة تشكيلها.
ميشيل فوكو يدعونا إلى التساؤل باستمرار: من ينتج المعرفة؟ ولمصلحة من؟ وما البدائل الممكنة؟ كيف نعيد الشرعية الاجتماعية للتفكير في عصر التواصل الاجتماعي؟
الإجابة تكمن في عملية ثلاثية الأبعاد: ١-إعادة بناء الفضاء، وذلك بخلق مساحات هادئة داخل الضجيج من خلال مبادرات مثل منصات الحوار المتخصصة، النوادي الفكرية الافتراضية، والبودكاست المتعمق الذي يعيد قيمة الاستماع والتأمل. استعادة «الزمن البطيء» بتشجيع نماذج المحتوى التي تتحدى منطق «السريع والقصير»، مثل الخيوط المفكرة الطويلة (Threads) التي تشرح قضية بترتيب، أو مقاطع الفيديو العميقة التي تتعمّق في السياقات التاريخية والفلسفية.
ومن خلال بناء مجتمعات معرفية محصّنة؛ مثل الصوالين الثقافية التي تقوم على مجتمعات صغيرة ومتوسطة الحجم تركز على الجودة والثقة بدلاً من الوصول الجماهيري، حيث يُكافَأ التعقيد لا التبسيط.
٢-تجديد اللغة، جزء من عزلة المثقف تكمن في فجوة اللغة بينه وبين الجمهور الواسع. التجديد المطلوب الذي يعتمد على فن التبسيط دون تسطيحه: أي القدرة على نقل الأفكار المعقدة بلغة واضحة وجذابة دون تشويه جوهرها. هذه مهارة تحتاج إلى تطوير. أن الرواية والفن حلفاء في هذه المهمة. حيث إن استخدام القصة، السينما، المسلسلات، والرواية كوسائل لنقل الأفكار والتساؤلات المعقدة يساهم في رفع مستوى الخطاب الثقافي، فالفن يُدخل العمق عبر الباب الخلفي للعاطفة والتجربة الإنسانية.
٣-إعادة تعريف الدور؛ لأن دور المثقف بحاجة إلى تحوّل جذري من الناقد إلى الباني؛ لا يكتفي فقط بتحليل الأزمة، بل تقديم نماذج عملية، ومبادرات مجتمعية صغيرة تظهر قيمة التفكير في الواقع الملموس.
المسألة ليست معركة بين «المثقف الصامت» و«الجاهل الثرثار»، بل هي مشروع جماعي لإعادة بناء عقد ثقافي جديد يُعيد للمعرفة قيمتها كقوة تغيير لا كسلعة استهلاكية، ويُكرّس للتساؤل مكانته كفضيلة لا كنقص، ويطالب المثقف بألا يكون حارساً للهوية وحسب، بل وبانياً للبدائل. نحن لسنا بصدد رفاهية نخبوية، بل ضرورة إنسانية للبقاء والفهم في عالم معقّد لا يكف عن التحدي.