لم تكن زيارةُ وليِّ العهدِ رئيسِ مجلسِ الوزراءِ الأميرِ محمدٍ بنِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيز إلى الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيةِ حدثاً دبلوماسياً عابراً، ولا مجرّد محطةٍ ضمن جدولٍ سياسيٍّ مزدحمٍ؛ بل كانت لحظةً فارقةً في تاريخِ العلاقةِ بين الرياضِ وواشنطن، ومنعطفاً يعيدُ تشكيلَ ميزانِ القوى في المنطقةِ، ويضعُ المملكةَ في قلبِ المعادلةِ الدوليةِ بوزنٍ غير مسبوقٍ.
منذ لحظةِ وصولِ ولي العهد، والاستقبالُ المهيبُ الذي نظّمته الإدارةُ الأميركيةُ -استقبالاً أقربَ إلى استقبالِ رؤساءِ الدولِ العظمى- كان المؤشرُ الأولُ على أنّ الولاياتِ المتّحدةَ تدركُ أنّ ضيفَها ليس زعيماً عادياً، وأنّ السعوديةَ لم تعد دولةً تنتظرُ إشعاراتِ الدعمِ أو رضا الحلفاءِ، بل دولةٌ تأتي وهي تحملُ مشروعاً واضحاً، ورؤيةً اقتصاديةً وسياسيةً تجعلُ الآخرينَ يعيدون حساباتِهم.
تحالفٌ يعاد تشكيلُه:
في قلبِ الزيارةِ، وُقِّعت «الاتفاقيةُ الدفاعيةُ الاستراتيجيةُ»، وهي ليست تطويراً للعلاقةِ التاريخيةِ فحسب، بل إعادةُ صياغةٍ لتحالفٍ يريدُ الطرفانِ له أن يمتدَّ لعقودٍ طويلةٍ. تصنيفُ الولاياتِ المتّحدةِ للمملكةِ كـ«حليفٍ رئيسيٍّ من خارجِ الناتو» يؤكّد هذه الحقيقةَ، ويفتحُ البابَ أمام شراكاتٍ عسكريةٍ وصناعيةٍ وتقنيةٍ متقدمةٍ، ويرسّخُ قدرةَ المملكةِ على بناءِ قوةٍ رادعةٍ تحفظُ أمنَها وأمنَ المنطقةِ.
وفي هذا الإطارِ، لم يكن ملفُّ مقاتلاتِ F-35 إلا أحدَ المؤشراتِ على انتقالِ العلاقةِ من مستوى الشراكةِ التقليديةِ إلى مستوى التحالفِ ذي العمقِ العسكريِّ الحقيقيِّ.
اقتصادٌ يتوسّعُ خارجَ الحدودِ:
الملفُّ الاقتصاديُّ كان محوراً أساسياً، إذ أعلنت المملكةُ عن نيتها رفعَ حجمِ استثماراتِها في الولاياتِ المتّحدةِ ليصلَ إلى تريليونِ دولارٍ. هذا الرقمُ لا يعبّرُ فقط عن توسّعِ اقتصاديٍّ، بل عن ثقةٍ بقدرةِ الصناديقِ السعوديةِ على قيادةِ تحولاتٍ كبرى في الاقتصادِ العالميِّ، وعن إدراكٍ أميركيٍّ لأهميةِ أن يكونَ رأسُ المالِ السعوديُّ جزءاً من خارطةِ النموِّ الأميركيِّ في القطاعاتِ الحسّاسةِ.
وشملت النقاشاتُ ملفاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ، والمعادنِ الحرجةِ، والطاقةِ المتقدمةِ، والبنى التحتيةِ، ما يجعلُ الزيارةَ نقطةَ انطلاقٍ لفصلٍ جديدٍ من التداخلِ الاقتصاديِّ الذي يتجاوزُ أرقامَ التجارةِ ويصلُ إلى صناعةِ المستقبلِ.
الملفُّ النوويُّ.. مفاوضاتٌ تُبنى على قوة:
أما التعاونُ النوويُّ المدنيُّ، فكان حديثَ الأروقةِ الأميركيةِ، لأنّ الرياضَ تدخلُ هذا الملفَّ وهي تمسكُ بخيوطِ الطاقةِ العالميةِ، وتملكُ القدرةَ على اختيارِ شريكِها النوويِّ. ولذلك، جاءت تصريحاتُ المسؤولينَ الأميركيينَ واضحةً: لا اتفاقَ نهائياً بعد، لكن المسارَ مفتوحٌ وفق شروطٍ تحافظُ المملكةُ فيها على سيادتِها وخياراتِها.
الشرقُ الأوسطُ من منظورِ الرياضِ:
القضايا الإقليميةُ، من العلاقاتِ الخليجيةِ – الأميركيةِ، إلى التطوراتِ مع إيران، إلى مساراتِ الاستقرارِ في البحرِ الأحمرِ والسودانِ، كانت حاضرةً في الحوارِ، لكنّ الرياضَ لم تعد تطرحُ هذه الملفاتِ من منطلقِ ردِّ الفعلِ، بل من منطلقِ رؤيةِ 2030 التي تعتبرُ الاستقرارَ عنصراً استراتيجياً لازماً للنموِّ ولموقعِ المملكةِ الدوليِّ.
ومن أبرزِ النقاطِ أنّ المملكةَ شدّدت على أنّ العلاقاتِ مع واشنطن تقومُ على الاحترامِ المتبادلِ، وأنّ السعوديةَ ليست طرفاً يبحثُ عن حمايةٍ، بل شريكٌ يملكُ قرارهُ، ويعرفُ أين يضعُ مصالحَهُ، وكيف يصنعُ وزنهُ.
ما بعد الزيارةِ.. ما الذي تغيّر؟:
لقد خرجت الزيارةُ بنتائجَ تتجاوزُ الاتفاقياتِ المكتوبةِ؛ خرجت بتثبيتِ واقعٍ جديدٍ:
أنّ المملكةَ تقودُ الشرقَ الأوسطَ سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وأنّ واشنطن -رغم كل التحولاتِ- لا تستطيعُ تجاهلَ مركزيةِ الرياضِ في صناعةِ الاستقرارِ العالميِّ.
والأهمُّ أنّ الاستقبالَ الأميركيَّ العلنيَّ، والحفاوةَ الاستثنائيةَ، واللغةَ التي استخدمها الرئيسُ الأميركيُّ، كلّها تعكسُ إدراكاً واضحاً بأنّ الأميرَ محمدَ بنَ سلمانَ ليس مجرد قائدٍ في لحظةٍ سياسيةٍ، بل رجلٌ يعيدُ تشكيلَ الجغرافيا والاقتصادِ والتحالفاتِ بطريقةٍ لم يشهدْها الإقليمُ منذ عقودٍ.
زيارةٌ كتبت فصلاً جديداً في علاقةٍ كبرى، وأعلنت أنّ الرياضَ اليومَ ليست تابعاً، ولا باحثاً عن دورٍ... بل صانعٌ للدورِ، وصعوبةٌ في المعادلةِ، ورقمٌ لا يمكنُ تجاوزه.