كتاب ومقالات

ازدواجية المعايير وانتهازية المصالح

طلال صالح بنان

الدول لا تتصرف وفق معايير أخلاقية، كما لا تتوقع أن يتصرف الخصوم والأصدقاء والأعداء بنيات سليمة ولا بأخلاقيات حميدة. ما يدفع الدول للحراك وسط بيئة دولية شبه فوضوية وغير منضبطة هو البحث عن أقل الوسائل تكلفةً وأعظمها منفعة لخدمة مصالحها والذود عن أمنها. هذا لا يعني، بالضرورة، أن الدول تسلك سلوكاً فجّاً وكأنها لا تلقي بالاً لالتزاماتها الدولية، بل عادةً ما تتوارى خلف قناع «مهذب وبريء» من الدبلوماسية الناعمة والغموض.

لكن بعيداً عن ما يمكن أن نطلق عليه «أدبيات» الحروب، عادةً ما تُظْهِر الحروب، بصورة فجّة تصل لدرجة الفضائح المدوية، جانباً لم يكن مرئياً بوضوح في سلوك الدول، في الظروف العادية.

الحرب في أوكرانيا، هذه الأيام، أظهرت مواقف متباينة للدول المتقاتلة، وتلك التي تحاول الدول المتقاتلة أن تحظى بتعاطفها مع قضاياها، لدعم سلوكها القتالي، تحقيقاً لهدف قرار الحرب، نفسه. هناك دولٌ، خارج منطقة الاقتتال المباشرة، قد يتفوق موقفها السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والجيوسياسي وحتى العسكري، في صب المزيد من الزيت على سعير الحرب الملتهب، أشد من ذلك الذي يتفاعل على مسرح عمليات الحرب نفسها.

الغربُ متجسّداً في الناتو وبزعامة الولايات المتحدة عمل على تجييش العالم بأسره ضد روسيا، بالزعم: أن قرار الحرب الذي اتخذته موسكو هو عمل عدواني توسعي غير مبرر. ذلك، ليس دفاعاً عن السلام، بقدر ما هو سلوك يعكس مصلحة استراتيجية غربية لمواجهة عدوٍ لدودٍ وتسوية خلافات تاريخية عالقة معه، بل وحتى لخدمةِ هدفٍ استراتيجيٍ، بعيد المدى، بالتوسعِ شرقاً لتضييق الحصار على الدب الروسي داخل عرينه المتجمد، انتظاراً أن يهلك محاصراً دونما حاجة لإطلاق حتى رصاصة الرحمة عليه.

الروسُ من جانبهم، يقولون: أين غيرة الغرب هذه، على سلام العالم وأمنه، عندما يتصرفون بعدوانية شرسة، كما حصل ويحصل، في كوريا وفيتنام وأفغانستان والشرق الأوسط. أين هو حرص الولايات المتحدة والغرب على سلام العالم وأمنه، في دعمهم اللا محدود لسياسة إسرائيل التوسعية في الأراضي العربية، بينما يزعجون العالم اليوم ضجيجاً بما يفعله الروس في أوكرانيا وشعبها!

روسيا، من ناحية أخرى، لا تستطيع أن تبرر سلوكها القتالي العدواني، الذي يعكس أطماعاً توسعية تاريخية، في أراضي جيرانها، حتى أنه امتد أحياناً لخارج نطاق مجالها الحيوي المباشر. روسيا، لم تتردد في استخدام قوتها التقليدية الجبارة في سوريا، بما لا يقارن بما تفعله إسرائيل ضد العرب. روسيا، بدعوى محاربة ما تسميه الإرهاب، دمرت سوريا، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة والغرب في مناطق مثل أفغانستان والصومال والعراق، أيضاً بدعوى محاربة الإرهاب.

تبقى انتهازية الاستفادة من الحروب، لأطراف دولية بعيدة عن مناطق الصراع، ممثلة بصورة فجّة لدرجة التقزز، في الموقف الإسرائيلي. إسرائيلُ عَلِقَت في خيار إما أن تدين الحرب، فتفقد علاقتها المتميزة مع موسكو، كما أنها تدين نفسها بما تفعله هي بالعرب والفلسطينيين.. أو تمتنع عن الإدانة وتفقد علاقتها الاستراتيجية مع الغرب، بالذات الولايات المتحدة. وفي خضم اهتمام العالم بقضية اللاجئين الأوكرانيين، نرى إسرائيل تعمل كتاجر النخاسة الكريه في أوقات الحروب، باقتصار لجوء الأوكرانيين إلى إسرائيل على اليهود فقط، بشرط أن لا يكون طلباً للجوء، بل للهجرة الدائمة لإسرائيل!؟

الدول في أوقات الأزمات والحروب، كما هي في أوقات السلام والهدوء، لا تقيم وزناً إلا لمصالحها الوطنية وأمنها القومي. في كل الأحوال: علينا ألا نغفل فرص الانتهازية التي تتيحها الحروب، حيث تظهر حقيقة سلوك الدول وطبيعته، بدون رتوش أو مساحيق أو «تجميل» مصطنع.