أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1753.jpg&w=220&q=100&f=webp

سامي الدجوي

انحيازات مديرك تقتل القرار الصحيح وتُشعل الصراع..!

ربما صادفت يومًا سيارة تنعطف فجأة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بينما يبدو سائقها مركّزًا فقط بتحقيق انعطاف آمن لنفسه، متجاهلًا ما قد يسبّبه من أذى أو ارتباك للمحيطين به. هذا التركيز الضيّق يجعله يغفل عن عوامل مهمة تجري حوله. في علم الإدارة والسلوك التنظيمي، يُعرف هذا النمط بـ«الإدراك الانتقائي»، فما هو؟ وما آثاره السلبية؟

الإدراك الانتقائي هو ميل الفرد إلى تركيز انتباهه على ما ينسجم مع مصالحه ومعتقداته، متجاهلًا - عن قصد أو دون وعي - كل ما يخالفها. فالعقل لا يستطيع استيعاب كل ما يدور حوله دفعة واحدة، بل ينتقي ما يتوافق مع اهتماماته ويتجاهل الباقي. لهذا تستمر الصور النمطية لدينا، لأننا نرى ما يؤكدها ونتغافل عما يهدمها، تمامًا كما فعل سائق السيارة. فهل تعتقد أن هذا السلوك سليم؟ على الأرجح ستكون إجابتك «لا»، لأنك أدركت للتو أن تجاهل السياق والمحيط هو إدراك انتقائي، وهو سلوك غير فعّال. فما انعكاساته السلبية في بيئة العمل والمجتمع؟

أولى العواقب السلبية للإدراك الانتقائي، الإخلال بصناعة القرار وتعزيز الأحكام النمطية. ففي بيئة العمل، يركّز الموظف على جزء محدود من الواقع، مستندًا إلى معلومات غير كاملة وهي تتوافق مع قناعاته، متجاهلًا معلومات قد تكون أكثر أهمية، مما يخلق ما يُعرف بـ «رؤية النفق» ويؤدي إلى صناعة قرارات غير موضوعية. أما مجتمعيًا، فإن الإدراك الانتقائي قد يؤدي إلى تعزيز الانحيازات بين أفراد المجتمع وتكوين صور نمطية عن مجموعات معينة من المجتمع. حيث نلاحظ فقط السلوكيات الفردية التي تؤيد انحيازاتنا وقناعاتنا، ثم نصدر أحكامًا نمطية عن هؤلاء الأفراد ويتم تعميمها على المجموعات، وهذا يؤدي إلى تفاقم التمييز الاجتماعي والتقسيمات المجتمعية.

ثانيًا، تصاعد الصراعات وسوء التواصل. في بيئة العمل، يضيّق الإدراك الانتقائي أفق الفهم زاوية الرؤية لدى الموظفين والقادة، حيث يركّز كل طرف بما يؤيد رأيه أو يخدم مصلحته، ويتجاهل ما يخالف ذلك. هذا الانحياز يُشوّه تفسير النوايا؛ فترى ملاحظات الزملاء تُفسر كانتقاص وقرارات القادة تُفهم كتهديد، رغم أنها لا تحمل هذا القصد. وتتراكم الفجوات في الفهم، فتتفاقم النزاعات نتيجة تفسيرات خاطئة وسلوكيات تُحمَّل أكثر مما تحتمل. أما مجتمعيًا، فيُضعف الإدراك الانتقائي الاستماع الفعّال بين أفراد المجتمع، إذ يصغي كل طرف لما يؤكد قناعاته فقط، مما يُشوّه الرسائل المتبادلة ويحول دون بناء حوار حقيقي، فيسود سوء الفهم وتتعطل جسور التواصل.

ثالثًا، مقاومة التغيير وعرقلة الإصلاح. في بيئة العمل، يُضعف الإدراك الانتقائي انفتاح الأفراد على الأفكار الجديدة، حيث يتمسّك الموظفون والقادة بالأساليب المألوفة ويتجاهلون الفرص التي تقع خارج نطاق رؤيتهم المعتادة. هذا الجمود يُعطّل التطوير ويُعيق الابتكار، مما يُقوّض القدرة التنافسية للمنظمة. أما على مستوى المجتمع، فالإدراك الانتقائي يُغذي تمسك أفراد المجتمع بالأفكار القديمة، والمعتقدات التقليدية، ورفض التجديد، مما يؤدي إلى مقاومة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ويُبطئ من وتيرة التقدّم والنهوض بالمجتمع.

تلخيصًا لما سبق، يشكّل الإدراك الانتقائي انحرافًا عن الحقيقة، ويولّد انقسامات ويغذّي الصراعات، ويكبح الابتكار. لذا، فإن الوعي بمخاطره ضرورة لا رفاهية، لبناء بيئة عمل أكثر عدلًا، ومجتمع أكثر وعيًا. فالإدراك الانتقائي ليس خللًا معرفيًا أو سلوكيًا فحسب، بل عائق تنموي يُهدّد إمكانات الدولة للتقدّم. ولأن الأوطان لا تُبنى بعقول منغلقة، فإن مسؤوليتك - كفرد ومؤسسة - أن تتجاوز هذا القيد، لنصنع قرارات أذكى وأكثر عدالة، ونخدم وطننا السعودي ونُسهم في رفع تنافسيته، ونقود مجتمعًا مزدهرًا نحو مستقبل أفضل.

00:12 | 31-10-2025

قرارات عمياء تُقصي الكفاءات الوطنية

تخرجت دانية من جامعة سعودية مرموقة في تخصص اللغة الإنجليزية. وعندما دخلت إلى غرفة المقابلة الشخصية لدى شركة كبرى، تكوّن في ذهن مدير إدارة الترجمة وبعض أعضاء لجنة التوظيف، منذ اللحظة الأولى، أنها لا تبدو كشخصية قيادية. بعد أقل من خمس دقائق من المقابلة، حُسم قرار الرفض. وفي أقل من أربعة عشر شهراً من هذه المقابلة، أصبحت دانية رئيسة قسم الترجمة في شركة رائدة منافسة وحققت نجاحاً في قسمها واستطاعت قيادة موظفيها بكفاءة. فهل كان قرار رفض مدير إدارة الترجمة في الشركة الكبرى صحيحاً في نظرك؟

ربما يتبادر إلى ذهنك أن الإجابة هي أن قرار الرفض كان خاطئاً ومتسرعاً، لأنك علمت بعدها أنها أصبحت رئيسة قسم الترجمة في شركة رائدة منافسة وحققت نجاحاً، فهي بذلك شخصية قيادية. لكن دعونا نعود قليلاً إلى لحظة المقابلة الشخصية الأولى. وتخيّل أنك مدير/‏ة إدارة الترجمة، وتقدّمت إليك مواطنة حديثة التخرج، تمتلك الحماس وحب التعلّم والاستعداد للتطوير، وغالباً لا تمتلك الخبرة الكافية في طبيعة العمل ولا الممارسة الجيدة في المقابلات الوظيفية. هنا، فمن غير المنطقي تقييم مهاراتها القيادية، أو إصدار حكم نهائي بشأنها من مقابلة شخصية واحدة فقط. إذاً، لماذا يُطلق بعض المديرين أحكاماً على الآخرين بسرعة؟

فسّر الدكتور ألكسندر تودوروف (Alexander Todorov) الأستاذ المعروف في علم الإدراك الاجتماعي، أن كثيراً من الناس يُكوّنون أحكاماً (انطباعاً) على الآخرين من خلال اللقاء الأول، وذلك في أقل من 30 ثانية. ربما تُثير هذه الحقيقة العلمية الفاجعة وغير العادلة -عزيزي القارئ أختي القارئة- بعض التساؤلات، أهمها: ما خطورة الحكم المسبق على الآخرين من خلال اللقاء الأول؟

نوضح أن إصدار الأحكام على الآخرين الذي يتكوّن بسرعة خاطفة، هو سلوك بشري طبيعي، نشأ في معظمنا منذ الصِغر، واعتقدناه خطأ أنه صحيح، أو أننا نمتلك قدرة خارقة على الحكم على الآخرين بمجرد النظرة. الأمر الآخر، أن إصدار الأحكام لا يحتاج إلى بذل جهد ذهني كبير أو عمق عقلي في التفكير، بل يعتمد فقط على بعض المعلومات السطحية المخزنة في عقولنا، وبعض الاستنتاجات الظاهرة أمامنا. أما بالنسبة لخطورة إصدار أحكام مسبقة على الآخرين بناءً على الانطباع الأول في بيئات العمل، فهي أولاً: تُؤثر سلباً على صحة القرارات. ومن أبرز تلك القرارات: قرارات التوظيف، والترقية، والمحاكمات. هذا الأمر قد يُعيق المدير عن اتخاذ قرارات موضوعية أو حتى صحيحة. ثانياً: تُعطل فرص التواصل مع الطرف الآخر وبناء الثقة معه، فعندما تصدر أحكام على شخص ما في أول لقاء بناءً على مظهره أو طريقة حديثه، فقد تم تجاهل جوانب أخرى فيه كالرغبة في التعلم والتطوير والتمسك بالقيم والسلوكيات الإيجابية والذكاء العاطفي والاجتماعي، وكل هذه من أهم الصفات.

تلخيصاً لما سبق، فإن الحكم السريع على الآخرين من خلال المقابلة الشخصية فقط، قد يُقصي أشخاصاً مناسبين جداً لمنظماتنا. ورغم أنه من سلوكنا البشري الطبيعي، وأننا نحكم على الآخرين بمجرد النظرة، وأننا لا نريد أن نبذل جهداً كبيراً في تحليل الطرف الآخر قبل الحكم عليه، فإن علينا ضبط هذا السلوك لأنه يؤثر سلباً على قراراتنا ولا يجعلنا نبني ثقة مع الآخرين. أخيراً، الاستعجال في الحكم قد يُضيّع على وطننا قادة فعّالين؛ فلنمنح للكفاءات الوطنية أن تُظهر نفسها.
00:05 | 25-07-2025

حين تُخطئ اللغة.. تفشل الإدارة

منظمة مرموقة شكّلت لجنةً دائمة للتعامل مع تحدياتها الداخلية والخارجية، تضمّ ممثلين عن إدارات متنوعة. في أحد اجتماعات اللجنة، ناقش الأعضاء تصرّفاً غير أخلاقي ارتكبه أحد الموظفين. اقترح عضوٌ إضافة «قيمة» جديدة إلى منظومة قيم المنظمة تعالج هذا التصرف ودمجها في خطتها الإستراتيجية لردع تكرار هذا السلوك. وبعد تأييد من عدة أعضاء، أوضحتُ وجود التباسٍ في المصطلحات، فالأصح هو إضافة «مبدأ» بدلاً من «قيمة»، فهناك فروق جوهرية بين المفهومين. في هذا المقال نستعرض سوياً المفاهيم المتشابهة التي يكثر فيها اللبس في المنظمات، مثل: القيم والمبادئ والأخلاقيات والمعتقدات من منظور علم الإدارة، ونوضح الفروق الجوهرية بين القيم والمبادئ والموضع الأمثل لكلٍّ منهما ضمن الهيكل التنظيمي.

القيم (Values) هي المعتقدات الجوهرية التي يعتنقها الفرد أو الجماعة ويُقدّرها، مثل ما يعتقده اتجاه التعليم والتطوير. أما المبادئ (Principles) فتمثّل القواعد أو قوانين المستنبطة من هذه القيم، التي تُحدّد السلوك المطلوب في مواقف محددة، مثل: الشجاعة في إبداء الرأي. وتتلخّص الفروق الجوهرية بين القيم والمبادئ في ثلاثة محاور، هي: 1) تحدّد القيم ما نُقدّره، بينما ترسم المبادئ كيف نتصرف. 2) تُحدد القيم أولوياتنا وما يهمنا، بينما تُبيّن المبادئ الصواب الواجب اتباعه. 3) المبادئ أكثر ثباتاً وموضوعية وعمومية من القيم، فهي أقل مرونة وأكثر تحديداً لتوجيه السلوك في مواقف معينة، مثل مبدأ عدم إيذاء الآخرين، وعامل الآخرين كما تحب أن تُعامل. أما عن موضع استخدامهما، فتتضمّن القيم في الخطة الإستراتيجية للمنظمة، بينما تُوثّق المبادئ في دليل السلوك الأخلاقي (Code of Ethics).

تشكل الأخلاقيات (Ethics) الإطار الشامل لمجموعة القواعد التي تضبط سلوك الأفراد والمنظمات، إذ تضمّ في طياتها القيم والمبادئ. أما المعتقدات (Beliefs) فهي القناعات الداخلية للفرد التي تنبثق منها القيم، وقد تتطور إلى مبادئ صلبة حين تصبح معايير سلوكية ثابتة. ورغم وضوح هذه الفوارق نظريّاً، إلا أن الخلط بينها شائع في بيئة العمل، مما يؤدي إلى غموض في فهمها وتطبيقها داخل المؤسسات. لذا، بات لزاماً الاستعانة بخبراء متخصصين لتوضيح هذه المفاهيم وفصل الاختلافات بينها بوضوح وفاعلية.

لنتأمل معاً، أيها القارئ وأيتها القارئة، المشهد الافتتاحي لهذا المقال: حيث عُقد اجتماعٌ لمناقشة تصرّفٍ غير أخلاقي ارتكبه أحد الموظفين. تكشف هذه الواقعة حرص المنظمة المرموقة على رصد التجاوزات ومعالجتها الفورية للحفاظ على بيئة عمل صحية ومنع تكرارها. الأمر الثاني، أن المنظمة تُشكل لجنة دائمة لمعالجة التحديات تدل على التزام قيادتها بأدق التفاصيل وسرعة الاستجابة للمشكلات والأزمات. أخيراً، إن اختيار مصطلح «تصرف» بدلاً من مصطلح «سلوك» كان دقيقاً، فالتصرف فعلٌ فردي عارض أو مؤقت يظهر في موقفٍ معيّن أو ظرفٍ محدد، مثل: تصرف البائع القاسي مع الزبون اليوم. بينما السلوك نمطٌ متكرر وثابت تشكّله التفاعلات والعادات والميول، كالتزام الموظف بروح التعاون في مختلف المواقف.

تلخيصاً لما سبق، يؤكد هذا المقال على وجوب انتقاء المصطلحات الملائمة ووضعها في سياقها الصحيح لضمان معالجة المشكلات بفاعلية، إذ إن استخدام مصطلحات غير الدقيقة قد يؤدي إلى عرقلة الحلول. أخيراً، يصعب على المنظمات حل المشكلات بشكل فعّال دون تشخيص علمي دقيق لمشكلاتها. لذا، يجب أن تستفيد منظماتنا بالمواطنين الخبراء والمتخصصين وفي مختلف المجالات، ليتمكنوا من تجاوز التحديات التي ربما ستواجه مبادراتنا الوطنية والعالمية بكفاءة وفاعلية. فبدقّة المصطلحات والمعرفة الصحيحة لموضع استخدامها، ينضج وعي الموظف وتتقوى مؤسساتنا، فينضج مجتمعٌ يحقّق نهضةَ السعودية برؤية علمية رصينة واحترافية عالية.
00:03 | 27-06-2025

سلوك الموظف السيئ.. سرطان يدمر الجودة!

لدي لك عزيزي القارئ أختي القارئة تساؤل عميق: أيهما يؤثر على الآخر، هل الجودة تُؤثر على سلوك الموظف أم العكس؟

قبل أن نجيب عن هذا التساؤل الجوهري، نحتاج أن نُفكر هل هناك علاقة أصلاً بين الجودة وسلوك الموظف؟ تُؤكد أدبيات علم الإدارة أن هناك ترابطاً وثيقاً بين ممارسات إدارة الجودة الشاملة (TQM) ورضا الموظف وبالتالي سلوكه في المنظمة. حيث إن تطبيق مبادئ الجودة الشاملة في العمل لا يقتصر دوره على تحسين مؤشرات الأداء فحسب، بل يمتد ليؤثر إيجابياً على مدى تفاعل الموظفين فيما بينهم واستعدادهم للمشاركة في عمليات التحسين المستمر. ففي المثال الواقعي، طبّق مركز فرجينيا ميسون الطبي بولاية واشنطن نظاماً يُساعد جميع الموظفين على اكتشاف أي خلل، مثل: تأخر توفر الأدوات والمستلزمات الطبية عند الكشف الطبي، مما اضطر الأطباء والموظفين لإيقاف العمل والبحث عنها، وأخطاء في تجهيز الدُفعات وإدخال بيانات المرضى، مما سبّب إعادة عمل وتكرار خطوات غير ضرورية، وهذا أدى إلى وجود خطوات زائدة أدت إلى ارتفاع معدلات العيوب والهدر والتكاليف. لكن بعد تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة، وقيام عدد من الموظفين بالتحسين المستمر انخفضت العيوب بنسبة تتراوح بين 50 و90%. وهذا التحسّن في الأداء الذي قام به الأطباء والموظفون أدى إلى زيادة مشاركتهم في اتخاذ القرارات، وتأثير دورهم في تحسين بيئة العمل، وتعزيز الرقابة الذاتية وتحفيز المبادرة؛ وكل ذلك أدى إلى شعورهم بالرضا الوظيفي.

عودة للتساؤل الذي طرحناه في بداية هذا المقال: أيُّ العُنصرين يؤثر في الآخر، هل الجودة تشكّل السلوك أم أن السلوك يرفع مستوى الجودة؟ الجواب هو أنهما في علاقة تبادلية يُعزّز كلاً منهما الآخر في حلقة إيجابية. فالتطبيق الفعّال لأنظمة الجودة -من تدريب وتقييم وتحفيز- يهيِّئ مناخ عمل يُنمّي في الموظف شعوراً بالمسؤولية والتمكين، فيظهر ذلك جلياً في سلوكياته الإيجابية، مثل: المبادرة والابتكار والالتزام بالمواعيد وتطبيق المعايير. وفي الوقت نفسه، فإنَّ سلوك الموظف الفطري -كاحترافية الأداء وروح الفريق والالتزام بالقيم- يشكّل حجر الأساس لأي استراتيجية جودة ناجحة. فعندما يتبنّى الموظفون سلوكيات عالية المسؤولية والجودة الذاتية، فإنهم يصبحون أقوى حافز لتنفيذ برامج الجودة وتحويلها إلى ثقافة مؤسسية متأصلة، لا تقتصر على الإجراءات الرسمية وحدها.

هنا، قد يلفت انتباهك أننا استخدمنا عبارة «حلقة إيجابية» للإشارة إلى العلاقة التبادلية بين الجودة والسلوك. وهذا يُشير إلى دورة تغذية راجعة متعاظمة (virtuous cycle) بين عنصرين يتبادلان التأثير، بحيث إن تحسين الجودة يؤدي إلى سلوك موظف أكثر إيجابية، مما يولّد مستويات أعلى من التفاعل والمبادرة والحرص على المعايير، فيعزز بدوره مزيداً من تحسينات الجودة. وهكذا تستمر الدائرة في التعزيز الذاتي دون انقطاع. بكلمات أخرى، كلما ارتفع مستوى جودة المنتجات أو الخدمات، شعر الموظفون بأن جهودهم مقدّرة وفاعلة، فزاد حماسهم والتزامهم، مما ينعكس مباشرة على رفع معايير الجودة أكثر فأكثر.

تلخيصاً لما سبق، العلاقة بين الجودة وسلوك الموظف ليست خطية أحادية الاتجاه، بل ديناميكية يُغذّي فيها كل متغير الآخر. الجودة المنشودة لا تُبنى إلا على سلوك موظف ملتزم ومحفَّز، والموظف المنخرط في ثقافة الجودة يرفع من مستوى المخرجات بشكل ملحوظ. ولضمان استدامة هذه الحلقة الإيجابية، يجب على المؤسسات تصميم برامج متكاملة تتضمن التدريب والتقييم والتحفيز، مع بناء ثقافة تنظيمية تشجع على مسؤوليّة الأفراد وتقدّر مساهماتهم في تحقيق التميّز. أخيراً، الجودة وسلوك الموظف وجهان لعملة الوطن. فلْنَستثمر فيهما معاً، ولنصنع التميز، ونبني منظمات تنافسية، ونساهم في تحقيق رؤية المملكة 2030. فاليد التي تُجوّد العمل، هي نفسها التي ترفع راية الوطن بسلوكها، لتكون المملكة يوماً ما ضمن «G7» بإذن الله.
01:27 | 9-05-2025

دوران الكرسي.. إشارة لانهيار كفاءة الإدارة !

دخلتُ يومًا ما على أحد المديرين في منظمة محترمة، لإتمام إجراء معاملة، كان لدى هذا المدير مكتب واسع، وقد بدا أن كل شيء فيه في مكانه المناسب؛ أوراق ومعاملات مرتبة بعناية على مكتب كبير في المنتصف، وعلى جانبه الأيسر مكتب جانبي صغير عليه جهاز حاسب آلي، لا شيء عليه سواه. يجلس المدير على كرسي دوّار واسع، يتحرك بسلاسة في كل اتجاه، ويبدو أنه اعتاد استخدامه للتنقل بين المكتبين دون الوقوف. بعد انتظارٍ معقول حتى انتهى المراجعون قبلي، قدّمتُ إليه طلبي، فتناوله وبدأ يراجع الأوراق بسرعة تنظيمية واضحة. ثم ما لبث أن أدخل بيانات في الحاسب، فعاد بكرسيه إلى المكتب الكبير ليقارن شيئًا في المستند، ثم رجع مجددًا إلى الجهاز ليُدخل معلومة جديدة، ثم عاد... ثم ذهب. تكرر ذلك التنقل ثلاث أو أربع مرات، وكل مرة تستغرق منه حركة وانعطافة، وتعديلًا لوضعية الجلوس، وربما لحظة استيعاب لإعادة التركيز. كان إنجازه احترافيًا ودقيقًا وسريعًا، ولكن شيئًا ما لفت انتباهي كمتخصص في الإدارة. لقد أدركتُ أن المدير -رغم كفاءته- كان يكرر سلسلة من الحركات غير الضرورية: حركة بين مكتبين، ودوران متكرر، وانتقال ذهني بين أوراق وشاشة. استأذنتُ منه بلطف أن أطرح عليه ملاحظة تنظيمية، فرحب بابتسامة مهنية. قلت له: لفت نظري أسلوبكم المنظم في العمل، وحرصكم على الدقة. فقط خطر ببالي أنكم تتحركون كثيرًا بين المكتبين أثناء إدخال البيانات. ربما يمكن دمج نقاط العمل بوضع حامل أوراق بجوار الحاسب، أو نقل الحاسب إلى مكتبكم الأساسي. بهذا الشكل، قد يتم تقليص عدد الحركات، وتوفير وقت يُستثمر لإنجاز عدد أكبر من المعاملات بنفس الجودة والهدوء. ابتسم ووضح لي السبب المنطقي لوضع جهاز الحاسب على مكتبه الجانبي، وأثنى على المقترح، ثم غادرتُ المكان وأنا أعتقد أنه سيفكر في هذا الاقتراح ويطبقه يومًا ما.

من المؤكد أنك صادفت هذا الموقف الحقيقي العملي في حياتك العملية. ويتجلى فيه منهجٌ علمي تطبيقي في علم الإدارة يُعرف باسم «دراسة الحركة والزمن» (Motion and Time Study) أو «القياس الزمني للحركة في العمل»، وهو منهج برز على يد رائد الإدارة العلمية فريدريك تايلور (Frederick Taylor) في بدايات القرن العشرين. ويُستخدم هذا المنهج تحديدًا في إدارة العمليات وتحسين الإنتاجية. ومن المثير للاهتمام أن لهذا المنهج أصلًا علميًا في الفيزياء الكلاسيكية، وتحديدًا في الميكانيكا التي وضع أسسها إسحاق نيوتن، مما يجعل هذا المفهوم جامعًا بين علم الإدارة وعلم الفيزياء.

يُستخدم هذا المنهج لتحليل وتحسين أداء العمل من خلال دراسة عدد الحركات التي يقوم بها الموظف، والوقت المستغرق في أداء هذه الحركات، ويهدف إلى: زيادة الإنتاجية، وتقليل الهدر، والحد من الوقت الضائع، وتحسين الكفاءة المالية، وتطوير بيئة العمل. وفي هذا الموقف العملي، قمتُ بتحليل كل حركة بدنية قام بها المدير أثناء إتمام المعاملة، فوجدت أنه يمكن تقليل عدد الحركات غير الضرورية، ودمج بعضها، مثل: نقل جهاز الحاسب إلى مكتبه الرئيسي، وتحسين الحركات من خلال إضافة حامل للأوراق، وإعادة ترتيب تسلسل الحركات. وهذا كله يُسهم في تقليل الوقت وبالتالي خفض التكاليف.

باختصار، دراسة الحركة والزمن أداة استراتيجية في علم الإدارة تُستخدم لرفع الكفاءة التشغيلية، وهي تمثل أحد أعمدة إدارة الجودة الشاملة والتحسين المستمر (Kaizen)، وتُعد ضرورية في القطاعات الصناعية والخدمية والتعليمية. أخيرًا، الكفاءة ليست فقط في العمل الجاد، بل في العمل الذكي! فلنستلهم من علم الإدارة لتحقيق أعلى إنتاجية بأقل جهد، فكل حركة محسوبة ترفع الإنتاج، وكل ثانية موفَّرة تزيد من كفاءة منظماتنا وتخدم اقتصاد وطننا السعودي القوي. فلنجعل تحسين الأداء سلوكًا وطنيًا يعكس رؤية السعودية الطموحة، فالتفاصيل الصغيرة تصنع الفارق الكبير.
00:06 | 24-04-2025

غيّر أو ستتغير .. 70 % من المنظمات تفشل !

تشير أدبيات علم الإدارة إلى دراسات عديدة أجرتها شركة ماكينزي العالمية -من أكبر شركات الاستشارات الإدارية- تفيد بأنّ نحو 70% من محاولات التغيير في المنظمات تنتهي بالفشل، وذلك لعدة أسباب أبرزها: ضعف التواصل، وغياب القيادة الفعّالة، وعدم إشراك الموظفين منذ المراحل الأولى، في حين تُعد مقاومة التغيير من الموظفين العامل الأول في هذا الفشل. وهذا الفشل ليس بسبب ضعف جهود التغيير أو قلة الموارد الداعمة له كما يظن البعض، لكن غالبًا ما يكون نتيجة سوء تنفيذ عملية التغيير ذاتها. وتُبرز هذه النسبة المقلقة وجود علاقة طردية قوية بين التغيير وسلوك الموظفين؛ فكلما كان أثر التغيير عليهم أكبر، زادت احتمالية مقاومتهم له. فلنأخذ مثالًا على التغيير؛ عندما تُقرر منظمة تطوير خطتها الإستراتيجية، فإن هذه الخطة -إذا تم تنفيذها- ستؤدي إلى تغييرات جذرية تمس الهيكل التنظيمي، والمسميات الوظيفية، ومهمات الأفراد، بل وثقافة المنظمة ككل. وهنا يبرز في أذهاننا سؤال جوهري: لماذا نقوم أصلًا بالتغيير؟ وما هي الخطوات الفعّالة لتقليل مقاومة الموظفين له؟

قبل أن نجيب نحتاج أولًا إلى توضيح ما هو التغيير؟ فالتغيير ببساطة هو الانتقال من وضع حالي إلى وضع جديد مرغوب فيه. لنتأمل بعمق في هذا التساؤل: هل التغيير خيار يمكن تجاهله، أم أنه أمر مفروض على منظماتنا؟ في الواقع، التغيير ضرورة ملحة، إذ إن البيئة الخارجية للمنظمة تتطور باستمرار ولا تتوقف، ولا يمكن تجاهل هذا التغير دون أن تتأثر المنظمة سلبًا أو تتخلف عن الركب. وليس هذا فحسب، بل يتطلب التغيير أن يتم بسرعة ودون تأخير؛ لأن التأخير فيه يؤدي إلى العديد من المشكلات، منها: تأخير تحقيق أهداف المنظمة، واتخاذ قرارات متسرعة وغير مدروسة بشكل وافٍ، واستنزاف الكفاءات البشرية نتيجة ضغط الاستعجال، مما ينعكس سلبًا على رضا الجمهور، والإضرار بسمعة المنظمة، وتترتب عليه تكاليف باهظة لتصحيح الأخطاء. ولتجنب كل هذه المشاكل نتبنى التغيير كاستراتيجية حتمية.

لذا، عندما تدرك المنظمات أهمية التغيير وضرورة تنفيذه بسرعة، يجب أن تُبنى استراتيجيات تُسهم في قبوله لدى الموظفين، فكيف يمكن للمنظمات عمل ذلك بنجاح؟ إليك أيها القارئ العزيز وصفة فعّالة مستمدة من أدبيات علم الإدارة وأثبتت نجاحها في تطبيقها، ومن أبرزها: 1) تحديد أهداف وأسباب التغيير بوضوح وآلية تطبيقه. 2) إبلاغ الموظفين بالمزايا المتوقعة وكذلك الآثار السلبية المحتملة للتغيير بصدق. 3) تشجيع الموظفين على المشاركة الفعّالة في عملية التغيير، وإحساسهم بأنهم جزء فعّال منها. 4) توجيه تركيز الموظفين إلى الفوائد الجماعية والشخصية التي سيجلبها التغيير. 5) رفع مستوى وعي الموظفين من خلال دورات تدريبية تُؤهلهم للتعامل مع التغيير. 6) تعيين قادة يتصفون بالقدوة في تطبيق مبادئ التغيير. 7) الاستماع إلى مخاوف الموظفين ومعالجتها بشكل جاد وشفاف. 8) تقديم حوافز مادية ومعنوية لتعزيز تجاوب الموظفين مع التغيير. وقد نجحت هذه الاستراتيجيات في العديد من المنظمات السعودية، خاصةً مع إطلاق مبادرات رؤية 2030 التي أحدثت تأثيرًا إيجابيًا على المؤسسات والمجتمع.

باختصار، يُعد التغيير ضرورة حتمية، إلا أن 70% من محاولاته تفشل بسبب مقاومة الموظفين. فما الحل؟ يتمثل في اعتماد تواصل شفاف، وإشراك فعّال، وتدريب الموظفين على تبني التغيير والتفاعل معه. فالمنظمات الناجحة لا تُفرض عليها عملية التغيير، بل تصنعها إستراتيجيًا. أخيرًا، جرب هذه الوصفة في منظمتك لتكون ضمن الـ30% الناجحين! فهذه استراتيجية مجموعة الدول الصناعية السبع، التي ستكون المملكة ضمن المجموعة يومًا ما بإذن الله تعالى.
00:11 | 11-04-2025

حين تُرتجل الإدارة.. تنهار المؤسسات..!

دعونا نتخيل أنك قررت بناء منزل، ستبدأ بوضع قواعد خرسانية قوية لتثبيت الهيكل، ثم ستقيم الإطار الداخلي الذي يحدّد شكل المنزل ومساحاته الداخلية، ثم يتم وضع النظم الخاصة بخدمات المياه والكهرباء والتليفونات وغيرها. إذا تأملت جيدًا، ستجد أن بناء المنزل يشبه إلى حد كبير ببناء المنظمة، فكلاهما يحتاج إلى تخطيط دقيق وتنفيذ منظّم يضمنان الاستقرار والفاعلية. دعونا الآن نتعمق في هذا التشبيه، لنوضح كيف يمكن تطبيقه عمليًا على بناء هيكل المنظمة.

عند بناء المنزل، تبدأ بصب القواعد الخرسانية الصلبة التي تحمل الهيكل بأكمله. وبنفس الطريقة، تعتمد المنظمة على رؤية واضحة وأهداف إستراتيجية تمثل أساسًا راسخًا يُبنى عليه كل قرار أو إجراء مستقبلي. بعد ذلك، يُقام الإطار الخشبي الذي يُعطي المنزل شكله العام ويحدد مساحاته وغرفه الداخلية، وهذا يشبه تمامًا الهيكل التنظيمي في المنظمة، الذي يُقسّمها إلى إدارات وأقسام ويُحدد العلاقات والمهام بوضوح. تلي هذه الخطوة تركيب الجدران والسقف لتوفير الحماية والعزل والخصوصية، وهذه في المنظمة هي الأنظمة والإجراءات الداخلية التي تضبط سير العمل وتضمن الكفاءة في الأداء، وتسمح بتدفق المعلومات بوضوح وانسيابية بين جميع الأقسام. بعد ذلك تأتي مرحلة تمديد أنظمة الخدمات الداخلية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي والغاز، والتي تقابلها في المنظمة البنية التحتية من أنظمة التقنية والموارد البشرية والمالية لسير العمل بسلاسة وأداء المهام بكفاءة. وفي الختام، يصل المنزل لمرحلة التشطيب النهائية، مثل طلاء الجدران وتركيب الأرضيات واختيار الديكورات لجعله جذابًا ومريحًا. هذه المرحلة في المنظمة تمثل ثقافة المنظمة وهويتها، بما في ذلك القيم التي تؤمن بها المنظمة، وأساليب التواصل الداخلي والخارجي، وسمعة المنظمة لدى الجمهور. ورغم أن المنزل بعد هذه المرحلة يكون جاهزًا للسكن، إلا أنه يحتاج إلى صيانة مستمرة وتحديثات دائمة لتحافظ على قيمته واستدامته. كذلك المنظمات الناجحة؛ لا تتوقف عند البناء فحسب، بل تحتاج إلى تقييم مستمر وتحسين دوري يشمل مراجعة الأهداف، وتحليل الأداء، وتطوير الإستراتيجيات لتواكب تحديات المستقبل ومتغيراته.

لقد أثبتت هذه الرحلة الممتعة في بناء منزلك ومنظمتك أن النجاح يبدأ بالأساسيات؛ فكما أن البناء يحتاج إلى هندسة دقيقة، تحتاج المنظمة إلى إدارة متخصصة. فبدون أساس متين (رؤية وأهداف إستراتيجية)، يصبح الهيكل هشًا. وبدون أنظمة محكمة (عمليات وإجراءات)، تسود الفوضى وتضيع الجهود. وبدون ثقافة تنظيمية قوية وقيم راسخة، تفقد المنظمة هويتها وقدرتها على جذب المواهب والجمهور. والأهم من ذلك، بدون صيانة دورية وتطوير مستمر، تظل المنظمة راكدةً في عالم يتغير بسرعة. وهنا يأتي دور التخصص: فكما أن بناء منزلك يحتاج إلى مهندس معماري لتصميم الهيكل، ومهندس مدني لتنفيذ البناء، ومهندس كهربائي وميكانيكي لتجهيز الأنظمة الداخلية، فإن بناء منظمتك يحتاج إلى: متخصص في الإدارة الإستراتيجية لرسم الرؤية ويضع الأهداف، ومتخصص في الموارد البشرية لبناء فريق عمل متماسك، ومتخصص في إدارة العمليات لتحسين العمليات التشغيلية والإنتاجية. فهل يُعقل أن تترك بناء منزلك لشخص غير متخصص؟ بالطبع لا! إذن، لماذا تُهمل بعض المنظمات تخصصية الإدارة عندما يتعلق الأمر بمستقبل منظمتك؟

تلخيصًا لما سبق، بناء المنظمة الناجحة كبناء المنزل المتكامل: أساسه الرؤية، وهيكله التنظيم، وحياته الأنظمة والثقافة. وتمامًا كما يحتاج المنزل لمهندسين متخصصين، تحتاج المنظمة لمتخصصين في الإدارة. أخيرًا، كما أن الوطن لا يُبنى إلا بسواعد أبنائه، فإن المنظمات السعودية لن تنمو وتزدهر إلا بالمتخصصين. وقد أنعم الله على هذا الوطن الطموح بقادة وضعوا لنا رؤية واضحة وإطارا تنظيميا متينا وأنظمة فعالة تُمكّن لنا من الإنتاج والنمو والتطور لتكون السعودية يومًا ما ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع.
01:17 | 3-04-2025

هل يقودك مديرك أم يُهددك ؟

لقد تشرفتُ بالعمل مستشارًا في إحدى المنظمات، وأنعم الله علينا بقائدٍ يتمتع برؤية استشرافية، وقدرة على اتخاذ قراراتٍ استراتيجية مدروسة بعد المشورة، لديه طموحٌ لتكون منظمته ناجحةً ومؤثرةً وكبيرة، ويسعى بكل جدٍّ وإخلاصٍ لخدمة دينه وقادته ووطنه. فحقَّق رؤيته وبلغ طموحه، فأصبحت منظمته تتبوأ مكانةً مرموقة بين أنجح المنظمات وأكثرها تأثيرًا ونفوذًا. لو تخيلنا أن هذا القائد الملهم انتقل إلى منظمةٍ أخرى، لبرزت لنا صفاته القيادية الفريدة مرةً أخرى، ولانعكست إيجابيًا على أداء تلك المنظمة ولشهدنا نجاحًا آخر. من هذه التجربة نستخلص الحقيقة التالية: أن نجاح أيّ منظّمةٍ يعتمد بشكل كبير على وجود قائدٍ مميّزٍ وملهم. من هو القائد الحقيقي؟

القائد هو الشخص الذي يُعيّن ليتولى مسؤولية وحدة إدارية (قسم، إدارة، مؤسسة، شركة، هيئة، وزارة،...). هذا التعريف الشامل قد ينطبق أيضًا على المدير، مما يطرح تساؤلًا مهمًّا: كيف نُميّز بين القائد والمدير؟ أحد الفروق بينهما يكمن في أسلوب التعامل مع الآخرين. والمقصود بأسلوب التعامل هنا هو الطرائق والسمات الشخصية والمهاراتية التي تظهر من الفرد أثناء تفاعله مع الآخرين، وتشمل: أسلوب التواصل، وأسلوب توجيه التعليمات أو استقبال الملاحظات، وكيفية التعامل مع الخلافات. فالقائد يتميّز بمرونته في التعامل مع الآخرين وتحفيزه لهم؛ أما المدير فيركز على الصرامة في تنفيذ التعليمات، والالتزام بالأنظمة، والإشراف المباشر على سير العمل.

دعونا نوضح الفرق من خلال مثال واقعي: تخيل أن موظفًا طلب إجازة لمدة عشرة أيام بسبب ظروف خاصة، كيف سيكون رد فعل كلٍّ منهما في حال رفض الطلب؟ المدير يعتمد على الأنظمة في تقييم الطلب. قد يستخدم عبارات رسمية وجافة تشدّد على ضرورة الالتزام بسير العمل وفق الخطة المعتمَدة. وقد يردّ باقتضابٍ وبلهجة مباشرة، قائلًا: لا يمكننا منح إجازة بهذه المدّة في مثل هذا التوقيت. أما القائد، فيبدأ بشكر الموظّف وتقدير ظروفه. قد يطرح بدائل أو حلولًا وسطى؛ مثل اقتراح فترة إجازة أقصر. ثم يستخدم عباراتٍ تعكس الاحترام والتفهّم، ويشرح أسباب الرفض إن لزم الأمر. بالعودة إلى المثال الذي بدأنا به هذا المقال: أذكر أنني طلبتُ من ذلك القائد طلبًا، وغادرتُ مكتبه راضيًا ومبتسمًا رغم أنه لم يوافق على طلبي.

وهنا قد يطرح القرّاء الأعزّاء سؤالًا مهمًا: كيف يمكننا، كالأفراد، التمييز بين من يتعامل بأسلوب القيادة ومن يتعامل بأسلوب الإدارة؟ الجواب: إذا لاحظت أنّ موظّفي هذا الشخص يتعاملون معه بناءً على سلطته الرسمية فقط، وأن المحرك الأساسي لهم هو الخوف من العقاب أو التوبيخ، فهذا الشخص غالبًا يمارس أسلوب الإدارة التقليدية. أما إذا رأيت الموظفين يبذلون جهدًا ويظهرون إخلاصًا وولاءً لهذا القائد وللمنظمة ككل، فهذا دليل على أنهم يعملون تحت قائد ملهم. لنأخذ مثالًا واقعيًا آخر: تعاملتُ مع عددٍ من أعضاء هيئة التدريس في قسم علمي بإحدى الجامعات، ولاحظتُ فيهم عزوفًا عن بذل الجهد الإضافي، وقلّة اهتمامٍ بدقّة وجودة الأداء. وبعد فترةٍ، تعاملتُ مع نفس المجموعة من الأساتذة، فوجدتهم يتحلّون بالنشاط والحماس والإخلاص. وبعد البحث، تبيّن أنّه كانت لديهم رئيسة قسمٍ سابقة تعتمد أسلوب التهديد والصرامة في تعاملاتها، بينما يعتمد الرئيس الحالي أسلوبًا قائمًا على الاحترام والتفهم واللطف في إدارة أعمال القسم. نلاحظ هنا أن أهداف القسم العلمي لم تتغير، والأنظمة الإدارية لم تتعدل، بل وحتى الأشخاص أنفسهم لم يتبدّلوا، لكن الذي تغيّر فقط مديرهم.

أخيرًا، هناك نقطة بالغة الأهمية أود توضيحها: لا أزعم أن أسلوب القيادة أفضل من أسلوب الإدارة أو العكس؛ ولا أدعو إلى الاعتماد على أسلوب واحد لإدارة الوحدة الإدارية بشكل دائم، بل إن الموظفين يحتاجون إلى كلا الأسلوبين معًا، فهم بحاجة إلى الإدارة لضبط العمل وتنظيمه، وإلى القيادة لتحفيزهم وإلهامهم. فكلاهما مكمل للآخر، وكلاهما ضروري لتحقيق أهداف المنظمة. فبالقيادة نصنع التميز، وبالإدارة نحافظ على الاستقرار. لنتمكن من تحقيق رؤية وطن طموحة وبناء مستقبل مزدهر.
00:05 | 21-03-2025

لغتنا الإدارية.. وفوضى المصطلحات

هل شعرت يومًا أنك فهمت التوجيهات جيدًا، ثم تفاجأت بأنك كنت بعيدًا عن المقصود؟ هل خطر لك أن السبب قد يكون في مديرك المباشر، وليس فيك؟ هذا ليس مجرد افتراض، بل حقيقة تؤكدها دراسة حديثة تُظهر أن نحو 60% من المديرين يخطئون في فهم التوجيهات الصادرة من الإدارة العليا. فما هي المشكلة بالتحديد؟ وما هي أسبابها؟ فكيف يمكن معالجتها؟ في هذا المقال، سنخوض معًا في هذه القضية، بحثًا عن الحلول الفعالة لتفادي سوء الفهم في بيئات العمل.

تشير الدراسة إلى أن السبب الرئيسي وراء سوء فهم التوجيهات هو الاستخدام غير الصحيح للمصطلحات. وللتوضيح، تخيل معي هذا المثال الواقعي: قرر مدير تنفيذي تطبيق سياسة «التمكين» (Empowerment) للموظفين، ففسر مديرو الإدارات ذلك على أنها منح الموظفين المزيد من الحريات الشخصية في العمل. لكن الواقع أن المدير كان يقصد «تفويض السلطة» (Delegation of Authority) لتمكين الموظفين من اتخاذ قرارات مهمة بأنفسهم وتحمل مسؤوليات أكبر. هذا المثال يُبرز بوضوح أهمية استخدام المصطلحات العلمية الدقيقة عند إصدار التوجيهات. فحين يتحدث المديرون بلغة مهنية موحدة ومصطلحات واضحة، تقل فرص سوء الفهم والالتباس، ويعزز ذلك صورة المؤسسة كمكان مليء بالكفاءة والمعرفة والخبرة.

يعد استخدام المصطلحات الدقيقة في الاتصالات الإدارية ضرورة حتمية لعدة أسباب أساسية. أولاً، يُحسّن هذا النهج من فعالية إيصال الرسائل؛ فالكلمات الدقيقة تُسهّل على المتلقين فهم المضمون واستيعابه بصورة صحيحة وواضحة. ثانيًا، يعزز العمل المؤسسي بشكل كبير. إذ يعتمد العمل المؤسسي على توثيق المعلومات بشكل دقيق لضمان توفر مرجع موثوق يُعتمد عليه مستقبلاً. لذا، فإن الدقة في اختيار المصطلحات تسهم في بناء قاعدة معرفية قوية وموثوقة، تمكّن المؤسسات من التطور والاستمرارية وتحقيق أهدافها بكفاءة.

قد يتساءل بعض القراء عن الأسباب التي تجعل استخدام المصطلحات الصحيحة أمرًا بالغ الأهمية في التواصل داخل المنظمات. ولعل هناك سببين رئيسيين وراء ذلك: الأول، أن المدير أو الموظف غالبًا ما يكون غير متخصص علميًا في المجال الذي يعمل فيه. فعلى سبيل المثال، كثير ممن يعملون في المبيعات أو الموارد البشرية أو تقنية المعلومات يكتسبون مهاراتهم من خلال الخبرة العملية والتعامل اليومي، بدلاً من التحصيل العلمي المنهجي. الثاني، نقص الوعي أو التدريب، حيث قد يفتقر الموظفون والإداريون إلى الإدراك الكافي بأهمية اختيار المصطلحات الدقيقة. في كثير من الحالات، قد لا يكون هؤلاء الأفراد قد تلقوا التدريب اللازم لفهم واستعمال المصطلحات الإدارية والفنية الصحيحة ضمن سياق عملهم. فكيف يمكن معالجة هذه المشكلة؟

لضمان استخدام المصطلحات الصحيحة وتحسين جودة التواصل داخل المنظمة، من الضروري البدء بتعيين مديري إدارات يتمتعون بالمؤهلات العلمية والتخصص الملائم لوظائفهم. على سبيل المثال، ليس من المنطقي أن يدير مهندس ذو خبرة في المستشفيات قسم الكُلى، أو أن يشغل طبيب منصب المدير المالي، أو أن يتولى مدرس إحصاء إدارة قسم التطوير. إلى جانب التعيين الصحيح، يأتي الحل الثاني المتمثل في تقديم تدريب شامل للموظفين، يشمل الجوانب النظرية والعملية في مجال عملهم. يساعد هذا النهج على رفع مستوى معرفتهم وصقل مهاراتهم وزيادة وعيهم بدورهم، ما يتيح لهم استخدام اللغة الصحيحة بشكل أكثر دقة واحترافية.

باختصار، إن استخدام المصطلحات الدقيقة في الاتصالات الإدارية ليس مجرد ترف لغوي، بل هو ضرورة لضمان وضوح الرسائل، وتقليل الأخطاء المكلفة، والهدر في الموارد. الحل يكمن في اختيار المديرين المؤهلين علميًا، وتوفير التدريب اللازم للموظفين بما يمكنهم من أداء مهامهم بفعالية. فلنلتزم باستخدام لغة مهنية دقيقة، لأن المصطلح الصحيح هو انعكاس للمعرفة، والتخصص هو أساس التقدم. باستخدام المفاهيم الواضحة واللغة المحترفة، يمكننا تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030 بكفاءة وفاعلية، والمضي قُدما نحو الريادة العالمية والتنمية المستدامة.
00:06 | 14-03-2025

الأداء والسلوك.. معادلة المنظمات الناجحة

ربما راودك تساؤلٌ عن الطريقة العادلة لتقييم الآخرين في العمل: هل يكون ذلك استنادًا إلى معايير واضحة ومحددة، أم بناءً على حدسك وشعورك؟ يجيب عن هذا التساؤل الجوهري دراسةٌ علمية نٌشرت عام 1993 بعنوان: «نصف دقيقة: توقع تقييمات المعلمين من خلال لمحات سريعة من سلوكهم غير اللفظي والجاذبية الجسدية». أجرى هذه الدراسة الدكتورة Nalini Ambady من جامعة هارفارد والدكتور Robert Rosenthal من جامعة كاليفورنيا تجربةٌ عملية على عددٍ من المشاركين في البحث، حيث عرض الباحثان مقاطع فيديو قصيرة (حوالى 30 ثانية لكل مقطع) يظهر فيها معلمون من مختلف التخصصات، وقدَّم كلٌ واحد منهم شرحًا لموضوع في تخصصه. ثم طُلب من كل مشارك في البحث تقييم أداء كل معلم بعد مشاهدته للمقطع بالإجابة على سؤالٍ مركَّب: من وجهة نظرك، هل تُفضل أن يتعلم ابنك أو ابنتك لدى هذا المعلم؟ ولماذا؟

وعند مقارنة تقييم المشاركين في البحث مع تقييم الطلبة الذين درسوا فعليًا لدى هؤلاء المعلمين، وجد الباحثان أن هناك اختلافًا جوهريًا بين التقييمين، وأحيانًا اختلافًا عكسيًا، فما السبب؟ بعد الدراسة الدقيقة والتفكير العميق لأسباب تلك الفروق بين التقييمين، أظهرت النتائج أن الأشخاص الذي شاركوا في البحث قيّموا المعلمين بناءً على أدائهم الفعلي مثل: كمية المعلومات التي تم طرحها، وإستراتيجات التدريس، وأسلوب الشرح. في حين أن تقييم الطلبة كان يُرتكز أكثر على سلوك هؤلاء المعلمين تجاههم، مثل: تشجيعهم للطلبة، وصبرهم عليهم، وتفهمهم لاحتياجاتهم الفردية. فأيٌ التقييمين في نظرك يعتبر أكثر عادلًا؟

تُجيب كتب علم الإدارة على هذا السؤال الجوهري بأنَّ الجمع بين الأداء والسلوك هو الخيار الأمثل. فأنت تبحث لأبنائك عن معلِّم يمتلك معرفة كافية بالمادة التي يقدمها، ومهارة عالية في توصيل المعلومة، وأسلوبا جذّابًا ومشوِّقًا، وفي الوقت نفسه يكون محفِّزًا وصبورًا ومتعاونًا. إلا أن الواقع العملي يشير إلى ندرة اجتماع هذه الصفات في شخصٍ واحد. هنا تبرز الأولوية بين الأداء أو السلوك، فأيهما تختار؟ تؤكد الدراسات والتجارب العمليّة أن السلوك الإيجابي مُقدَّمٌ على الأداء الوظيفي. وهذا لا يعني تجاهل الأداء مطلقًا؛ إذ يُعَدّ الأداء الوظيفي عنصرًا أساسيًا في نجاح المنظَّمة واستدامتها. لكن المقصود هو أنه لو خُيّرت بين شخصين: الأول يمتلك أداءً ممتازًا وسلوكًا جيدًا، والثاني لديه أداءٌ جيدٌ وسلوكٌ ممتاز، فإن اختيار الشخص الثاني يكون الأفضل بلا تردُّد.

وهنا قد يسأل بعض القُراء الكرام عن أسباب تقديم السلوك على الأداء؟ فإن الإجابة العلمية والعملية توضح أن هناك العديد من الأسباب، نذكر منها ما يلي: 1) أن السلوك الإيجابي يساهم في بناء الثقة والولاء بين الموظفين، وهذا يؤدي إلى النجاح المؤسسي المستدام. 2) الموظفون ذوو السلوكيات الإيجابية غالبًا ما يمتلكون مهارات قيادية تمكنهم من تحفيز الآخرين وإدارة الفرق بفعالية. 3) هؤلاء الموظفون يساهمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تقليل النزاعات الداخلية وحل المشكلات بصورة بناءة. لهذه الأسباب وغيرها يتم تقييم الموظفين تقييما عادلاً ومفيدًا للمنظمة ومنسوبيها.

تلخيصًا لما سبق، تؤكد الدراسات أن تفضيل السلوك الإيجابي على الأداء الوظيفي هو الخيار الأمثل، إذ يُبني السلوك الثقة ويعزز القيادة ويُقلل النزاعات، مما يدعم نجاح واستدامة المؤسسات. لذا، عند الاختيار، يُفضل الأشخاص ذوو السلوك المتميز حتى لو تباين أداؤهم الوظيفي. أخيرًا، الأداء المميز يُحقق إنجازات للوطن، والسلوك الإيجابي يُرسِّخ القيم في المجتمع. ولكي نبني وطنًا قائمًا على أعمدة القيم، فلنختار قادة قدوة في سلوكهم وملهمين في أدائهم لتنهض منظماتنا ويزدهر وطننا.
00:01 | 6-03-2025