شدّ انتباهي مقطع مُصوّر يتحدث فيه الشاعر الموريتاني محمد الحافظ ولد أحمدو عن تجربته الشعريّة، ويُلقي نصوصاً مُدهِشة، فهي عذوبة معاصرة ولغة أصيلة، فشعره الكلاسيكي، والرومانسي، حضر حيناً من الدهر، ثمّ آمن أن الشّعر هو ما يختط دربه ومساره دون إدراك أو تصنيف الشاعر لما هو صادر عنه، وهذا المنزع الإنساني في قصيدته له روافد قرائية، نوّعت المنبع ووحّدت المصبّ، وهنا بعضُ آرائه الحدِيّة، وتجاربه الشديّة، وقطوفه النديّة، مع امتنان كبير لأريحية استجابته لدعوة «عكاظ» وتثمينها، باعتبارها أحرى وأولى من يبحث عن شاعر يستلهمها كل يوم من خلال شعرائها، فإلى نصّ الحوار..

• إلامَ تعزو فصاحة اللسان الشنقيطي؟

•• من أسباب فصاحة لغة الشناقطة، وخلوصها من هجنة اللحن والتعقيد عوامل، منها: التربوي الدراسي، إذ كنا ننشئ أبناءنا أول ما ننشئهم على حفظ كتاب الله وإتقانه مقرأ وضبطاً وتجويداً، ونفرض عليهم أن يستوعبوا النصوص المقررة في المعاهد الأهلية (المحاظر) التي كانت تضاهي أو تفوق الجامع الأزهر، على حفظ مقرراتها في السيرة النبوية الشريفة، لتنطبع في نفوسهم محبة رسولهم صلى الله عليه وسلم، لما يترتب عليها من الاقتداء والتأسي به، ونقفي على إثر ذلك باستيعاب مختارات الشعر الجاهلي كأشعار الشعراء الستة من اختيار الأصمعي وغيره وجمع وشرح الأعلم الشنتمري الأندلسي، وهذا تقليد ورثناه عن أسلافنا الأندلسيين، وأثناء ذلك نتقن استيعاب شروح المعلقات وما يتصل بها من شواهد نحوية ولغوية إلى غير ذلك من الاختيارات كجمهرة القرشي والمفضليات والحماسات، ولا بد في أثناء ذلك أو بعده من إتقان ألفية ابن مالك واستيعاب شروحها وعقد مجالس الإعراب للمبتدئين المعروفة محلياً «بالزرك» التي كانت بمثابة التدريب على الرماية فكأن كل شيخ يسدد إلى تلاميذه سهام غريب الإعراب ويدربهم على الانتضال والرماية على هذا النحو؛ لذلك ترى بعض مشايخنا يعلقون على اختيارات المجمع العلمي ويخطئونها مثل اختياره التقييم على التقويم بزعم التسهيل بالرغم من أن مادة (قوم) وما تفرع عنها بالواو، إلى غير ذلك مما هو شائع في مخاطبات الإعلام، والعامل البيئي إذ عاش الشناقطة في بيئة بدوية يغلب عليها الحل والترحال والانتجاع شأن حياة الجاهليين تماماً بل إننا أشبهناهم في الاستعاضة عن التدوين بالحفظ فاعتمادنا للرواية قبل أن تتفشى الكتابة وتنتشر الكتب والمطبوعات، وحياة الظعن لا يستقيم معها حفظ الكتب نتيجة لنمط المساكن؛ ولذلك ترانا مولعين بشعر (ذو الرِّمة غيلان)، الذي يقول البعض إن فيه ثلث لغة العرب، وهو حاضر في حياتنا الثقافية والعملية كاختيارنا الملاحف النيلية السوداء لبساً للعرائس تأسياً بشعره حيث يقول: وليلٌ كجلباب العروس ادرعته، بأربعةٍ والشخصُ في العين واحدُ، أحمّ علافي وأبيض صارم، وأعيش مهريّ و أصيد ماجد، وصيدح اسم ناقته، وهو علم غدا صفةً لكل ناقة ركوب عند الشناقطة، ومنها جغرافي إذ عاش الشناقطة في هذه البيئة الصحراوية المعزولة عن المراكز الحضرية شمالاً وجنوباً وذلك ما أسهم في بقاء لغتهم نقيّةً، مما يفرضه الاختلاط العمراني الحضاري، ولم يجد المستعمرون مستقراً حضرياً ينفذون من خلاله إلى المجتمع وثقافته.

• ما سر كثرة عدد الشعراء في بلاد شنقيط؟

•• يقال إن موريتانيا بلد مليون شاعر؛ والسبب في ذلك أن بعثة من محرري مجلة العربي، وفدوا على موريتانيا في ستينيات القرن الماضي قبل انتسابها إلى الجامعة العربية، وكان الكثيرون يعتبرونها من أفريقيا السوداء ففاجأهم أنهم لم يلقوا أحداً من أهل هذه البلاد إلا وهو شاعر أو راوية للشعر فأطلقوا هذا اللقب، والواقع أن الشعراء في موريتانيا قديماً وحديثاً كثير، ويتفاضلون من حيث جودة الشعر، وكان أغلب المتون العلمية في المحاضر منظومات وذلك تسهيلاً للحفظ، فالأذن الشنقيطية عموماً أذن شاعرية تطرب للشعر وتهتز لأوزانه.

• بماذا يمكن تعريف نفسك لقارئ مشرقي عاشق لديوان العرب؟

•• الواقع أنني نشأت في بيئة علمية شعرية، وكان أغلب الشيوخ الذين، أختلف إليهم في الحيّ شعراء ورواة لأحسن الشعر، وتململت في رمضاء الشعر العربي وأنا غضٌّ طريّ، وحفظت منه ما شاء الله أن أحفظ وقرضت الشعر، وأنا صغير تأثرتُ، بالجاهليين ثم أعجبني شعر الأمويين مثل غيلان وجرير وكثير والراعي؛ لأن من خاصية هؤلاء أنهم جمعوا فصاحة الأوائل، مع التأثر ببلاغة القرآن الكريم، وقرأت لأمراء الشعر في العصر العباسي ومنهم، بشّار، وأبو نواس وكلفت بالثلاثة العظماء أبي تمام والبحتري والمتنبي، وكان لأبي الطيب نصيب الأسد من إعجابي فهو خاتمة الشعراء، ومع حبي لأبي الطيب فإني كلف بشعر أبي تمام، وأعتقد أنه لولا ولعه بالصناعة البديعية لكان مثل أبي الطيب، وأحد السفراء العرب في نواكشوط لقّبني بـ(أبو تمام) وأطلق عليّ الدكتور محمد المختار ابن أباه (جواهري موريتانيا)، والواقع أني أعجبت بشعر الجواهري والبردوني وبشعر أحمد شوقي إعجاباً دون ذلك، وقرأت لجميع أدباء وكتاب النهضة العربية، وألممت بدواوين الشعراء العرب المعاصرين كالسياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح عبدالصبور ونزار قباني ومحمود درويش وسميح قاسم وغيرهم من شعراء الحداثة، وقرضت الشعر الحر في أيام شبابي وبعد اطلاعي على أسباب نشأة هذا الشعر مما ليس متداولاً عند الناس من أن وراء أكمته ما وراءها من الكيد لهذه الأمة لتتخلى عن الشعر العمودي، الذي هو ديوانها عمدوا إلى الشعر الجاهلي وشككوا في صحته بالرغم من وضوح وثبات روايته، وصدق تصويره للبيئة والحياة الجاهلية، وإذا كان بعض المحققين شكك في أشياء جزئية من الشعر الجاهلي، فهو من باب الاستثناء الذي يثبت القاعدة، وعقب أن شكك المستشرقون في الشعر الجاهلي شجعوا الشعر الحر ليذبحوا الشعر ذبح الحية بقطع رأسها وذنبها، ولاحظت أنه ما خرجت الأمة على هذا الشعر العمودي الذي هو ديوانها إلا وضاع شلو من أشلائها، إذ كانت الموشحات سبباً في سقوط الأندلس، باعتبارها أهازيج غنائية أخلد أهلها إلى مجالس اللهو والشراب، فاجتاحهم أعداؤهم، وتزامن ظهور الشعر الحر مع نكبة فلسطين، لذلك نرى أنه بينما كان شعر شوقي وحافظ والرصافي يقرأ في مصر وبعد أيام قليلة يظهر في دمشق وبغداد وبيروت وبالرغم من اتساع رقعة التواصل الاجتماعي، ولا تجد الآن شعراً حراً يعالج قضايا الأمة. وللدكتور العلامة السوداني عبدالله الطيب الذي أُطلقُ عليه «عميد الأدب العربي»، وأتأثم من إطلاقه على طه حسين الذي سخر قلمه للتشكيك في ثوابت الأمة، يقول د.عبدالله الطيب: «إن الانقلاب الحضاري في العصر الحديث استدعى التجديد في الشعر وكان الذين تأثروا به لا يملكون استبحاراً في اللغة العربية فكانوا أشبه بالمترجمين».

• مَنْ صاحب فضل تأسيسك الأدبي؟

•• يرجع الفضل في ذلك أولاً لوالدي رحمه الله، الذي نذرني لدراسة النحو والعربية وأنا صغير، وقال لي إن اللغة العربية هي مادة الإسلام، وإن من أتقنها قاده ذلك إلى إتقان جميع العلوم، وإن ملكة اللغة لا تحصل لمن تجاوز الثانية عشرة من عمره، يضاف إليه ما جُبلتُ عليه من حب اللغة الذي لا تصوره العبارة ما جعلني أتتبع مساقط غيثها، وتعدد مشايخي في هذه اللغة، وكثرة مطالعاتي الأدبية، وتنوع مقتنياتي من مدونات الأدب والشعر غير أني أهتم بالتفسير والحديث الشريف اللذين تجمعهما وشائج اللغة بالشعر وعلى العكس من ذلك لا أجد باعثاً قوياً على مصطلحات الفقه والمنطق، بل أزعم أن الاشتغال بها يصلد زند القريحة الشعرية.

• ما أثر المكان في قصيدك؟

•• كان للوطن الموريتاني الحظ الأوفر من مساحة الاهتمام في شعري، وبما أني أؤمن بالعروبة واعتبار الأمة كياناً واحداً، جعلت القطرية تتضاءل في شعري، وبالرغم من كثرة توظيفي للمرويات والأساطير المحلية في شعري إلا أن للربوع القديمة وقعاً سحرياً في نفسي ومن أمثلة ذلك مقاطع من قصيدتي «حج مناسك عذرة» وقصيدة «قالت وقلت» ويكثر توظيف تلك الربوع في غرض المديح النبوي الشريف.

• هل هناك قواسم مشتركة مع شعراء عصور سبقت؟

•• رغم تأثري الذي لا ينكر بما قرأت من الشعر إلا أنني أحاول أن أختط لنفسي طريقاً شعرياً خاصاً ذا ملامح مميزة، ويرى البعض أنني رائد مدرسة شعرية خاصة تدمج التجربة الشعرية الحديثة بالمعجم الشعري الأصيل، وعلى كل حال فإنني أحاول أن أشكل الصورة الشعرية المبدعة في قالب عربي أصيل.

• ماذا عن اطلاعكم على تجارب من الشعر الغربي؟

•• الواقع أني لا أجيد من اللغات إلا اللغة العربية، لكني عوضت عن ذلك بالاستبحار في قراءة الترجمات؛ فقرأت أغلب مترجمات شكسبير وترجمات كورني ويودلير وفيكتور هيجو من الأدب الفرنسي وقرأت لكثير من الشعراء الإيطاليين وقرأت أغلب مترجمات رامبو وإليوت مثل قصيدته (اليباب والأرض الخراب)، كما قرأت لأعلام الأدب الروسي، تولستوي وبوشكن والشاعر الهندي طاغور والشاعر الباكستاني محمد إقبال، والغريب أني لاحظت أن بعض شعرهم أحياناً يشبه الشعر الجاهلي، أذكر من ذلك أن شاعراً جاهلياً شبه لسان الحية بشرارة النار وشبه شاعر فرنسي بانقداح النار من القداحة بلسان الأفعى.

• كيف بنيت هذه الحافظة الشعرية؟

•• كلفت أيام الصبا بالمدارس الأهلية (المحاظر) بحفظ أطايب الشعر، ومنتخباته كاختيارات الأعلم الشنتمري للشعراء الستة والكامل للمبرد وغيرها من مدوانات الشعر العربي، لكن ما إن انتسبت للمدارس النظامية حتى تبخر الكثير منها وبقيت بعض الأطلال والرسوم في الذاكرة أستمتح منها بعض الصور والأخيلة مازجاً إياها بما تلقفت من مدونات الشعر الحديث ليكون الجميع سماداً لحقول الإبداع الشعري، ولعل نسيان كثير مما حفظت كان مساعداً لي في اجتراح خط شعري مميز لا أتوكأ فيه على عصا غيري

• ألا ترى أنك ماهر في تطعيم صورك بالحداثة كمن يقدم العطر المعتق في آنية حديثة؟

•• هذا صحيح في مجمله، وأضرب لك مثلاً بقصائد كتبتها وتقاطعتُ فيها مع امرئ القيس، وغيره في العشق والفخر.

• كم مجموعة شعرية أصدرتَ؟

•• أغلب دواويني ما تزال مخطوطة، ولم ينشر منها على نطاق واسع إلا مجموعة شعرية صغيرة بعنوان (عودة الهديل) غير أن بعض قصائدي قد نشرت ضمن نصوص شعرية موريتانية، كما أن جريدة الشعب الوطنية الرسمية حافلة بما نشرت فيها من قصائد من أيام 1976 إلى قريب من سنة 2000.

• ما رأيك ببرامج المسابقات الشعرية؟ وماذا أضافت للشعر؟

•• لا شك أن تنظيم هده المسابقات يعتبر تشجيعاً للشعر، وإعادة اعتبار لمكانته عند العرب، وشحذاً لقرائح الشعراء الشباب، وتحفيزاً لهم على الإنتاج والإبداع، لكن ما يصاحب بعضها من تغليب المعيار التجاري وجعل كلمته فيصلاً في التنافس يصرفها ويعوقها عن بلوغ أهدافها السامية.

• لماذا تغيب قصيدتا التفعيلة والنثر عن المشهد الشعري في موريتانيا؟

•• القصيدة الحرة أو قصيدة التفعيلة غير غائبة تماماً عن الشعر الموريتاني، وأنا شخصياً تعاطيت كتابتها في شرة شبابي، إلا أن الأقطار المحافظة التي تتوفر على موروث ديني عميق مثل موريتانيا والسعودية واليمن إلى حد ما لا يكاد يطرب جمهورها لغير الشعر العمودي، غير أني أرى أن قصيدة التفعيلة استنفدت طاقتها، وخفت بريقها فأصبحت في الأغلب نوعاً من النثر الباهت، وما أظنها إلا ستختفي كما اختفت الشيوعية غير مأسوف عليهما. فالحقيقة التي لا يمكن دفعها أن الإيقاع الشعري في القصيدة العمودية يلامس اللاوعي الجماعي للمتلقي العربي مهما كانت ثقافته؛ لذلك تجد أحدهم يورد في شعره بيتاً أو مثلاً عربياً فيطرب السامعون كأنه يقدمه رشوة بين يدي شعره لذائقة المستمع العربي، وهذا ما فطن له الشعراء، فقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: تغنّ بالشِّعرِ إمّا كنتَ قائله، إن الغناء لهذا الشعر ميدان؛ ولذلك أطلقوا على إلقائه الإنشاد.

• مما لفت انتباهي إلى تجربتك الشعرية قصيدتك «كسوت نهديك من سحر النسا إتبا»، فهل تأثرت بالراحل نزار قباني في تعبيره عن مفاتن الأنثى؟

•• الواقع أن هذه القصيدة بالذات كانت معارضة لإحدى قصائد نزار، وذلك إثر مشادة بيني وبين بعض غلاة مريديه بالمربد في العراق، إذ تمالؤوا على إغاظتي بتفضيله على المتنبي، فقلت لهم أي قصيدة أكثر إعجاباً لكم في شعر نزار؟ فأنشد أحدهم قصيدته: فرشتُ فوق ثراك الطاهر الهُدبا، والواقع أن وصف نهد المرأة وحسن صدرها ليس قاصراً على نزار ولا يعد من إبداعه، إذ سبق إليه شعراء الجاهلية ومنهم النابغة، الذي قال: «والبطنُ ذو عكن لطيفٌ طيّه، والإتب تنفجه بثدي مُقعدِ»، وهذا كثير في الشعر العربي وأغلب ما صدر عني من معارضة نزار من هذا الوادي.

• هل يفسق قولك شعراً ويعف جسدك وقلبك؟

•• أجيبك بما قال الله جل وعلا عن الشعراء: «ألم ترَ أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون»، وقد درأ الفاروق عمر الحد عن عامله على البصرة بعدما احتج بهذه الآية، وكان قال شعراً فاحشاً.

• كيف تقرأ واقع الشعر العربي بعد رحيل الجواهري والبردوني ومحمود درويش وسميح قاسم وغيرهم؟

•• لقد تقهقر الشعر بعد رحيل الفحلين الجواهري والبردوني، وفي الساحة العربية اليوم شعراء كثر يتفاوتون في درجات الإبداع وعوالم القول.

• على من تعتب اليوم من الشعراء؟ ولمن تقول: شققتَ على من بعدك؟

•• ليس من طبعي التشهير بالمعاصرين وتوجيه النقد اللاذع لهم، وليس هناك من يمكن أن يقال في حقه شققت على من بعدك، فإني أرى أن الإبداع جمال لا يتناهى، إذ ليست له حدود ولا نهايات، ولن تترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين، ورغم إعجابي بالمتنبي فلا أرى أنه بلغ الغاية، وكما أننا لم نؤت من العلم إلا قليلاً فإننا لم نؤت من الإبداع إلا أقل القليل، وأتطلع وجميع الشعراء إلى تثوير اللغة الجميلة والتفنن في الإبداع.