تعد فكرة الفعل وردة الفعل في العلاقات الإنسانية صورة من صور العنصر الخامس من عناصر العملية الاتصالية بعد عناصر المرسل والمستقبِل والرسالة والوسيلة، حيث التغذية الراجعة أو رجع الصدى والنتيجة التي انتهت إليها هذه العملية الاتصالية.

ولأن الإنسان كائن اتصالي بالفطرة فهو خاضع بالضرورة لنتائج هذا الاتصال ورسائله التي تنتج عنه، فما من أحد على وجه الأرض إلا ويؤثر ويتأثر مع من هم حوله، وذلك من خلال ما يأخذ منهم وما يعطي أو يمنح لهم دون إدراك منه؛ ولهذا فلو عاد أحدنا بتاريخه الشخصي للوراء عبر استرجاع الماضي لأدرك أن في حياته الكثير والكثير من المانحين الذين منحوه شكل حياته التي يعيشها الآن، وحتماً سيكون هذا أمراً في غاية الخطورة إذا ما قام به لأنه قد يحرضه -بعد سنين النسيان- على إعادة حساباته مع أولئك الأشخاص الذين منحوه الجوانب السلبية التي يعيش، فليس ثمة ما هو أبشع من أولئك الذين دسوا في جيوب حيواتنا الأولى ملامح القلق وفي حقائب سلوكياتنا مخاوف المصير دون أن يعلموا أنهم قد خلّفوا وراء ظهورهم أناساً مسكونين بالهشاشة كما لو أنهم قطعة بسكويت غُمست في كوب شاي، وكأننا ترجمان عملي لبيت الشعر الذي صدح به إيليا أبو ماضي في قصيدته (ابتسم)، حيث قال:

أَيَكونُ غَيرُكَ مُجرِماً وَتَبيتُ في

وَجَلٍ كَأَنَّكَ أَنتَ صِرتَ المُجرِما؟

وحتماً ليس وحدهم أؤلئك المانحون الذين خلّفوا وراءهم أناساً مكسورين فهناك أصحاب (الحكمة) وطلاب مدرسة الحياة من الذين عشنا بين ظهرانيهم منحونا الحكمة المنقوصة التي تقوم على غرس المبادئ بـ(المطرقة) في عقول طرية وأرواح تائقة فخلطوا في أنفسنا ما خلطوا وبتنا عالقين في دروب وطرقات التيه نفتش عن خرائط تقينا من ذلك لنكتشف في نهاية المطاف أن الممنوح أقوى وأعتى من أن تفكه الخرائط الحديثة ليستقر بنا الحال للعيش في خنادق نفسية تالفة تُسهرها الكلمة العابرة وتقضي عليها إيماءة باردة.

وما سبق إنما هي نماذج يسيرة للعديد والعديد من النماذج التي خلفتها هذه العملية الاتصالية بين البشر والتي تلازمهم من مهد الطفولة إلى مرحلة منتصف العمر لتكون النتيجة النهائية هي أنها خلّفت أجيالاً فاقدة لأدنى درجات الجودة النفسية لنبدأ نحن بدورنا فنعيد الكرة ونمنح الأجيال القادمة من حولنا هذه الأوجاع دونما إدراك منا بذلك ودونما أي اعتراف بأن ثمة خللاً ينخر في قلب المنظومة النفسية للمجتمع.

ولو عدنا برسم الحدود لهذه الإشكالية لوجدنا أن الأسرة التي لم نحفظ عنها -في مقاعد التعليم- سوى أنها نواة المجتمع؛ هي المسؤول الأول والأخير عن ذلك؛ لأن الخوف الذي زُرع في قلب أحدنا إنما زرعه أب خائفٌ أو أخٌ مستبد، كما أن الشتات الذي قادك لمبادئ موشومة إنما خلّفه لك كائن متقلب المزاج من أعضاء الأسرة، وبالتالي فإن جميع ذلك الرقص الصوفي في كل جيل إنما هو نتاج فج لأسرة استبدت بحجة الخوف على الأبناء والخوف من شتاتهم، ولهذا فإن الأمر يتوجب البحث عن (الصندوق الأسود) لكل ذلك، ولا أظن أن ذلك ببعيد عن التعليم الشامل الذي بحضوره وطغيانه على أرجاء المشهد تستقيم الأسرة ويستقيم المجتمع وتنجو الأجيال القادمة من مخاوف المصير وتأرجح المبادئ والأسئلة.