لم أذهب إلى مباراة برشلونة خلال إجازتي في إسبانيا هذه الأيام باعتبارها تسعين دقيقة من الركض، بل ذهبت وكأنني أعبر بابًا جديدًا في رواية أعيشها دون أن أكتبها بعد. كان الطريق إلى الملعب يشبه افتتاح فصل مختلف؛ ضجيج الجماهير حولي بدا كهمهمة قرّاء ينتظرون انطفاء الأنوار في مسرح قديم.

وفي اللحظة التي ارتفعت فيها ألوان البلوغرانا فوق الرؤوس، أدركت أن الأدب ليس دائمًا كلمات، وأن الفن ليس لوحة معلّقة. هناك، في قلب الحشود، بدا كل شيء متحوّلًا إلى حركة، وإيقاع، ونبض جماعي متناغم، يلتقي فيه الجميع دون اتفاق مسبق.

صعدت الدرج المؤدي إلى المقاعد، واستقبلني الضوء المنعكس من أرضية الملعب كما لو أنه ضوء مكتبة مفتوحة في ساعة متأخرة من الليل ضوؤها القمر البرشلوني.. على ذلك العشب الأخضر، كان كل لاعب يمسك بخيط من حكاية؛ لا أحد يركض عبثًا، وكل تمريرة تكمل جملة بدأها لاعب آخر، كأن النص يُكتب بأقدام تتفاهم أكثر مما تتحدث.

جلست أراقب، وأتأمل، وأحاول قراءة ما وراء التفاصيل. هناك شعرت بأن المباراة تشبه الأدب لا لأنها تقدّم قصة جاهزة، بل لأنها تمنح المتلقي مشاركة صامتة في كتابتها، فكل فرصة ضائعة بدت كجملة لم تُختتم، وكل هدف كان استعارة تنفجر في لحظة وتغيّر اتجاه السرد، أما الهتاف الجماعي فكان أشبه بهوامش تكتبها مدينة كاملة على الصفحة نفسها.

أدهشني أن اللاعبين لم يكونوا أبطالًا فرديين كما في الروايات القديمة، بل شخصيات حديثة تتقاطع مصائرها وتتداخل أدوارها، وكأن فلسفة اللعب تعلن بوضوح: لا وجود لبطل كامل هنا... البطولة جماعية، كالروايات التي تنشأ نهاياتها من شخصية هامشية لا يتوقعها أحد.

أما الجمهور من حولي، فلم يكن مجرد جمهور.كان أقرب إلى جوقة مسرحية تُعلّق على الحدث، وتباركه، وتتحوّل أحيانًا إلى ضميرٍ للراوي. وجدت نفسي بينهم، لا كمشاهدة، بل كشخص يكتب دون ورق، ويكتشف أن الجمال قد يحدث مرة واحدة فقط... في ملعب، أو في صفحة قصيدة.

وعندما أطلق الحكم صافرة النهاية، شعرت بشيء يشبه ختام فصل مؤثر. ليس لأن الفريق الذي أحببته فاز، بل لأنني خرجت وأنا أعرف أن ما شاهدته لم يكن مجرد مباراة، بل كان نصًا حيًا يتحرك ويروي ويتنفس، ثم يترك أثره في النفس قبل أن يختفي ويتلاشى.

عند تلك اللحظة فقط أدركت أن الأدب والكرة يلتقيان في مكان واحد: «الجمهور/المتلقّي»، ذلك الذي يبني توقعاته ويعيد تشكيل النص كما يفعل القارئ مع الرواية، فيكتب طبقة إضافية فوق النص الأصلي دون أن يشعر.

ختامًا... يقول إريك كانتونا: «عندما ألعب، أبحث عن الشعر في الحركة»، وأقول: إن العلاقة بين كرة القدم والأدب أعمق مما نتصوّر؛ فكل مباراة حكاية قائمة بذاتها، فيها صراع وأبطال وخصوم، ومفاجآت... ونهاية، قد تكون سعيدة، أو مفتوحة، أو حزينة بما يكفي لتبقى في الذاكرة.