أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1773.jpg&w=220&q=100&f=webp

تركي الرجعان

اللهم احشرني مع فلان.. حين يتجرأ الناس على الغيب..!

صار بعض الناس يتحدّث عن الجنة كما يتحدّث عن وجهة سفر، يختار من يود أن يُحشر معه، وكأن الغيب أصبح متاحاً بالحجز المسبق، إلا تلاحظون كثرة من يرددون هذه الأيام عبارة «اللهم احشرنا مع فلان» أو «احشرني مع فلان»؟ نسمعها في المجالس، ونقرؤها في التعليقات، وتتردد على الألسنة وكأنها نوع من الولاء الإيماني أو بطاقة عبورٍ نحو الجنة. حيث تُقال بخفةٍ عجيبة، حتى يخيل إليك أن مفاتيح الجنة أصبحت تُمنح بالعاطفة، وأن مصائر الناس باتت شأناً شعبياً، يحدده المزاج لا الميزان الإلهي.
في كل مرة أسمع فيها أحدهم يدعو أن يُحشر مع شخصيةٍ أُعجب بها، أتساءل: متى تحوّل الدعاء إلى ادّعاء؟ في زمنٍ كان فيه «الحشر مع الصالحين» أمنيةً تُقال بوجلٍ وخشوع، أصبح اليوم شعاراً يُطلقه من لم يقرأ عن ذلك الرجل سوى سطرٍ في خبرٍ أو تغريدةٍ عاطفية. لم يعد الدعاء رجاءً، بل صار إعلان انتماءٍ وموقف، وكأن الإيمان تصنيف اجتماعيّ يُعبَّر عنه بالولاء للرموز لا بالتقوى.
لقد تمدّدت ظاهرة الإعجاب المقدّس حتى طغت على وعي الناس. فبدل أن يتقربوا إلى الله بالعمل، تقربوا إلى صور الأشخاص بالدعاء. وكأن الجنة في نظر هؤلاء مجمع سكنيّ فاخر يُدار بالعلاقات العامة، لا بميزان العدل الإلهي. من يعجبهم أحد يرفعونه إلى مقام الأولياء، ومن يختلفون معه يسقطونه إلى درك الفسق، وكأنهم أمناء السرّ على الغيب.
ولعلّ المدهش أن بعضهم يدعو قائلاً: «اللهم احشرني مع البخاري» وآخر يقول: «اللهم احشرني مع ابن تيمية»، وكأنه اطّلع على مصائرهم، أو أُوحي إليه بما أُخفي عن العالمين. ناسِياً أن لا أحد مبشّر بالجنة إلا عشرة بشّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بوحيٍ صادقٍ لا يقبل الظن. كان من الأحرى أن يدعو أن يُحشر مع أولئك الذين شهد لهم النبي، لا أن يتبرع هو بالشهادة لمن لم يُشهد له. ذلك لأن الحشر ليس رغبةً عاطفية، بل منزلة إلهية لا تُنال بالظنّ ولا تُوزّع بالمشاعر.
إن الخلط بين الولاء والدين صار علامة هذا العصر، فالكثيرون لا يفرّقون بين الحب في الله، وبين الحماسة لشخصٍ يرونه يمثل «الإيمان» أو «الحق». يتمنّون الحشر معه، لا لأنهم شاركوه العمل الصالح، بل لأنهم تشاركوا الإعجاب العاطفي. وهكذا، تحوّل الدين في منظور هذه الفئة إلى شبكةٍ من الولاءات الوجدانية، لا منظومة من القيم التي تهذب النفس وتؤصل الوعي.
ويأتي السؤال الفلسفي الأهم، متى يصبح الدعاء ادّعاءً؟ عندما يغيب عنه الخشوع، ويحضر فيه الغرور الخفيّ. حين يدعو الإنسان بما لا يعلم، ويُزكّي من لم يعرف، ويتحدث عن المصائر وكأنه يقرأ لوح القدر. ذلك هو التناقض العميق بين ظاهر الورع وباطن الجهل، بين من يدّعي الخشية وهو أسير انفعالٍ لا يعي معناه. إن الدعاء الحقيقي لا يُرفع بلسانٍ يجهل ما يقول، بل بقلبٍ يعرف أنه لا يملك من أمر الآخرة شيئاً.
تعلم أن الأسماء لا تصنع النجاة مهما لمع بريقها، ولا القرب من الرموز الدينية يمنح الإنسان رفعةً يوم الحساب. فالله يزن القلوب لا الألقاب، ويقيس الصدق لا الانفعال، ويعلم السرائر لا الشعارات. من أراد الحشر مع الصالحين، فليسر على دربهم في الصدق والتواضع والرحمة. أما من يتوسّل الجنة بالعواطف، فسينتهي به الأمر أن يكتشف أنه دعا كثيراً ولم يعمل شيئاً.
وفي النهاية، فالحشر مع الصالحين لا يُنال بالتمني، بل بالتشبه بهم في الطريق، لا بمرافقتهم في القول. أما الذين جعلوا الدعاء وسيلةً لتلميع الذوات وتجميل المواقف، فليعلموا أن الجنة لا تُفتح بالتصفيق، بل بصدقٍ لا يعرف الاستعراض، وإيمانٍ لا يحتاج جمهوراً ليصفّق له.
00:21 | 19-10-2025

بريطانيا: هل يقاس أمن الدول بجريمة قتل؟

في زمن الشبكات الاجتماعية وتسارع تداول الخبر، تحوّل الحديث عن أمن الدول من خطاب مؤسسي تحكمه الدراسات والتحليلات، إلى خطاب شعبوي تقوده العاطفة والانفعال. حيث باتت بعض المعرفات في وسائل التواصل الاجتماعي تُصنّف الدول الآمنة وغير الآمنة لا بناءً على مؤشرات الجرائم، بل وفق ما يتصدّر قائمة «الترند»، وكأن دولة بأكملها يمكن أن تفقد تصنيفها الأمني بسبب مقطع فيديو، أو حادثة فردية مؤلمة.

خلال الأيام الماضية، تناقلت بعض الحسابات والوسائل خبر مقتل أحد المبتعثين السعوديين في بريطانيا -رحمه الله- على أنه شاهد إثبات بأن هذه الدولة «غير آمنة»، وبدأت موجات التحذير والتخويف، والدعوات العاطفية في إطلاق أوصاف تجاه هذه الدول أنها غير آمنة. وكأن الجريمة حدثت في فراغ، أو أن الدول الأخرى معزولة تماماً عن مثل هذه الحوادث. وما يُؤسف أن هذا الخطاب الشعبوي لا يفرّق بين الحادثة الفردية والمنظومة الأمنية، ولا يدرك أن الجريمة -كظاهرة بشرية- لا تنعدم في أي مجتمع مهما بلغ تطوره، بل تبقى موجودة بنسب متفاوتة، والفرق الحقيقي هو، كيف تتعامل الدولة معها؟

الأمن ليس غياب الجريمة، بل حضور النظام، في الدول المتقدمة، تُرتكب جرائم، وتحدث اعتداءات، ولكن ما يجعلها دولاً «آمنة» بمفهوم الدولة الحديثة، هو وجود نظام عدالة فعّال، وجهاز أمني، ومنظومة قضائية، ومؤسسات تسترجع الثقة بسرعة. حين تقع جريمة في السعودية أو الإمارات أو بريطانيا مثلاً، لا تُقيد ضد مجهول، ولا تُغلق ملفاتها تحت الطاولة، بل تُحقق، وتُحاسب، وتُعلن النتائج أمام الجميع.

أما أن يُختزل أمن دولة في حادثة قتل واحدة -مهما كانت مؤلمة- فهو تبسيط مخل، واستنتاج متسرع، وظلم فكري يتجاهل الواقع المعقّد.

بين الوعي واللاوعي.. كيف تتكوّن الأحكام

من اللافت أن من يُسارع إلى وصف هذه الدول بغير الآمنة هم في الغالب أشخاص سافروا إليها، وعاشوا فيها، واستفادوا من مؤسساتها. وما إن تقع حادثة تخص أحد معارفهم أو من يشبههم في الهوية، حتى يُصاب وعيهم بالخلل، وينقلب الانطباع إلى رأي حاد، بلا مراجعة ولا إنصاف.

ولو عُكس المشهد، وحدثت جريمة في السعودية أو دولة أخرى شقيقة -لا قدّر الله- ضد زائر أجنبي، وخرجت صحف غربية تصف إحدى هذه الدول بأنها دولة خطرة، هل سنقبل هذا التوصيف؟ بالطبع لا. سندافع، ونُذكّر بمنظومة الأمن، وسرعة القبض، وعدالة القضاء، وسنقول، لا تُختزل هذه الدول بحادثة.

إذن، العدل يقتضي أن نمنح الآخرين ما نطالب به لأنفسنا. الإنصاف لا وطن له، لكنه عنوان كل وعيٍ ناضج.

كما يجب أن نذكر أن دول الابتعاث في المملكة العربية السعودية، تعد شهادة على أمن الدول، لو كانت بريطانيا أو أمريكا أو كندا أو اليابان دولاً غير آمنة، لما واصلت الدولة -أعزها الله- إرسال أبنائها وبناتها إليها ضمن برامج الابتعاث التي تخضع لأعلى درجات التدقيق. وكلنا نعرف أن دولتنا المملكة العربية السعودية لا تغامر بأبنائها، ولا ترسلهم لمصير مجهول، بل تتعامل مع تقارير أمنية واقعية، وتُراجع القوائم بشكل دوري، وتُوقف الابتعاث لأي دولة تُشكّل خطراً حقيقياً. استمرار الابتعاث إلى هذه الدول، هو شهادة مؤسساتية بأنها لا تزال تحظى بالثقة، وبأن ما يحدث فيها من جرائم، يُصنَّف ضمن المعدلات الطبيعية التي لا تُهدد حياة المبتعث أو المقيم إذا التزم بتعليمات السلامة العامة.

وواجبنا الوعي تجاه مكتسباتنا وما نسعى له لا تبنوا وعيكم من الحوادث، ما يُقلق اليوم ليس فقط وقوع الجريمة -فهي في النهاية جزء من الواقع- بل استغلالها في تشكيل رأي عام نحو أحكام مُضلّلة، وخلق صورة مشوّهة عن دول بأكملها، بناءً على موقف فردي، أو حدث يقع هنا أو هناك. المطلوب ليس إنكار الحادثة، بل وضعها في سياقها الطبيعي، وتحكيم العقل لا العاطفة، وعدم الوقوع في فخ التهويل الذي يستهلكنا أكثر مما يحمينا. فلا تجعلوا من ألم فردي عدسة لرؤية دولة، ولا تستبدلوا العقل بالهاشتاغ، ولا تنسوا، أن الأمن لا يعني أن لا تقع الجريمة، بل أن تُحاسب عند وقوعها.
00:00 | 10-08-2025

العقيدة «حين تتداخل الأدوار وتنهار الأوطان»

في خضم النقاشات المتصاعدة حول الهوية والانتماء، كثيراً ما يُطرح الخلط بين العقيدة الدينية والعقيدة الوطنية، وكأنهما وجهان لعملة واحدة. غير أن هذا التصور المبسّط لا يصمد أمام التمحيص الواعي الذي يبني الدولة ويحافظ على كيانها، ولا أمام الحقائق الاجتماعية، ولا أمام التجارب التاريخية. فبين العقيدتين اختلاف جوهري في الطبيعة، والمصدر، والدور، والأثر.

كما تعلمون فإن العقيدة الدينية تنبع من ضمير الفرد، حيث إنها علاقة بين الإنسان وربه، تتفاوت بين شخص وآخر من حيث المذهب، والممارسة، ودرجة التدين. الدين منظومة إيمانية روحية، لا تُقاس بالمظهر، ولا تُفرض بالقانون، ولا يُحتكر تفسيرها من طرف دون آخر، منبعها القلب، وغايتها الإخلاص، ومساحتها الضمير.

بينما العقيدة الوطنية وهي ركيزة بناء الدولة، فهي التزام جماعي ينبثق من الشعور بالمصير المشترك، والانتماء إلى كيان سياسي واحد «دولة». الوطنية لا تسأل عن مذهبك، بل عن ولائك، ولا تُقاس بعدد الركعات، بل بمدى احترامك للقانون، واستعدادك للتضحية من أجل وحدة وطنك واستقراره.

وإذا كان الاختلاف في الدين مقبولاً فطرياً وإنسانياً، فإن الاختلاف في الولاء الوطني يُعد خللاً في البناء الجماعي. وهناك تجارب واقعية تؤكد خطورة الخلط بينهما واعتبارهما واحدا أو تقديم العقيدة الدينية على الوطن:

• في لبنان، حين تحوّلت الطوائف إلى حصص سياسية، واحتكر كل مذهب تمثيل جزء من الوطن، ضاعت الدولة، وتفككت الهوية الجامعة، وتحول الوطن إلى «تحالف طوائف» بدلاً من «وحدة وطن».

• في أفغانستان، فقد حوّلت طالبان مفهوم الوطن إلى انعكاس لتصور ديني ضيق، فتم إقصاء فئات واسعة من المجتمع لا لشيء إلا لاختلافهم في التأويل، وكأن المواطنة لا تُكتسب إلا عبر «تذكرة فقهية».

وهنا تبرز الإشكالية الأخطر: حين تُختزل العقيدة الوطنية في شكل ديني واحد، فإنها تتحول إلى أداة إقصاء لا أداة وحدة. بل يُصبح كل مختلف في شعائره، موضع شك في ولائه. وهذا لا يهدد فقط التعددية، بل ينسف فكرة الوطن من أساسها.

«فالمسجد والكنيسة والمعبد... أماكن إيمان. لكن الوطن هو البيت الكبير الذي يحتضنها جميعاً».

إن الأوطان لا تُبنى بالشعارات الدينية، بل بعقود مدنية تحترم الدين دون أن تُختزل فيه. الدين يبقى في القلب، والوطن في المسؤولية المشتركة. فلا يجوز أن يُستخدم أحدهما لابتزاز الآخر.

حين نخلط بين العقيدة الدينية والعقيدة الوطنية، فإننا لا نخدم الدين، ولا نحمي الوطن، بل نفتح الباب لفتنة مستترة باسم الطهر، وتفكك خفي باسم الغيرة. إن حماية الدين تتم بتجريده من الاستغلال السياسي، وحماية الوطن تبدأ حين نُدرك أن وحدتنا لا تقوم على التشابه، بل على الاتفاق في المصير رغم اختلاف المسارات.
22:28 | 29-05-2025

الشهادة التي لا تسقط بالرحيل

دعوة لتكريم الطلاب الراحلين وإقرارٌ بجهودهم العلمية، وذلك حين يتوقف الزمن قبل تحقيق الحلم. كلنا نعلم أن الجامعات ليست مجرد مؤسسات تمنح العلم والمعرفة، بل هي فضاءات تُصقل فيها العقول، وتُبنى فيها الطموحات، ويتشكّل من خلالها مستقبل الأفراد والمجتمعات. في كل قاعة دراسية، هناك طلابٌ يسعون، يحلمون، ويعملون جاهدين للوصول إلى لحظة التخرج، حيث تُختتم رحلتهم العلمية بتتويج مستحق. لكن ماذا لو توقفت هذه الرحلة قسراً؟ ماذا لو غاب أحدهم قبل أن يرى ثمرة جهوده؟

هذا السؤال لم يعد افتراضياً، فقد تجسّد في فقدان الطالب محمد بن خالد السور، رحمه الله، قبل أسبوع، وهو على مشارف التخرج في كلية القانون. بعد سنوات من الاجتهاد والمثابرة، كان على بعد خطوات من تحقيق حلمه، ولكن القدر شاء أن يغادر قبل أن يحمل شهادته بين يديه. في مثل هذه الحالات، هل تنتهي القصة عند هذا الحد؟ أم أن للجامعات مسؤولية أخلاقية في تخليد ذكرى طلابها الذين رحلوا قبل تحقيق أحلامهم؟

التعليم أسمى من أن يكون مرتبطاً بالحضور الجسدي، الجامعات في جوهرها ليست مجرد جهات مانحة للشهادات، بل هي مؤسسات تحمل رسالة أعمق، تقوم على قيم العدل، والتقدير، والإنصاف. ومن هذا المنطلق، فإن تكريم الطلاب الذين رحلوا قبل تخرجهم لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه مجرد مبادرة عاطفية، بل هو مسؤولية أكاديمية وإنسانية تعكس وفاء الجامعة لطلابها ونحن في مملكة الإنسانية وحري بنا أن نكون السبّاقين في كل ميدان إنساني، وهذه المبادرة تؤكد أن الجهد العلمي لا يُمحى، حتى وإن انقطعت رحلة صاحبه.

يعلم الجميع أنه في العديد من الجامعات العالمية هناك تقاليد راسخة تقضي بمنح شهادات فخرية أو شرفية للطلاب المتوفين الذين كانوا على وشك التخرج، إيماناً بأن الموت لا يجب أن يكون حاجزاً أمام الاعتراف بالجهد والعطاء. إن تبني هذا النهج في جامعاتنا السعودية سيكون خطوة رائدة نحو تعزيز ثقافة الوفاء والتقدير، ويبعث برسالة واضحة مفادها أن التحصيل العلمي لا يضيع، وأن اسم الطالب يظل جزءاً من نسيج الجامعة حتى وإن غادر الحياة.

كيف يمكن تحويل المبادرة إلى واقع؟ ولضمان أن يصبح هذا التكريم جزءاً من السياسات الجامعية، يمكن العمل على وضع إطار تنظيمي واضح يشمل منح الشهادة الفخرية للطلاب الذين أكملوا نسبة كبيرة من متطلبات تخرجهم قبل وفاتهم، وتشكيل لجنة أكاديمية متخصصة لوضع معايير عادلة لهذا التكريم. كما يمكن تنظيم حفل سنوي تحتفي فيه الجامعات بطلابها الراحلين بحضور أسرهم، لتأكيد أن جهودهم لم تذهب سدى، وإدراج هذه الشهادات في السجلات الأكاديمية، بحيث تظل جزءاً من الإرث العلمي والإنساني للجامعة.

الوفاء العلمي لا يسقط بالتقادم، إن فقدان طالب قبل تخرجه ليس مجرد حادثة عابرة، بل لحظة تستدعي التأمل في قيم الوفاء والتقدير داخل المنظومة العلمية والدراسية. ومنح شهادة فخرية للطالب الراحل محمد بن خالد السور، وكل طالب فقدته الجامعة وهو في مشارف التخرج، هو أكثر من مجرد لفتة رمزية، بل هو إقرارٌ بأن التحصيل العلمي لا يرتبط فقط بالحياة، بل هو قيمة مستمرة تستحق التقدير حتى بعد الرحيل.

إن الجامعات تُبنى بالعلم، لكنها تبقى وتستمر بالقيم. وإن تبني مبدأ «الشهادة الفخرية للطلاب الراحلين» ليس مجرد تكريم فردي، بل هو تأسيس لنهج أكاديمي وإنساني يعزز ثقافة الوفاء، ويؤكد أن الرحلة العلمية لا تتوقف بالموت، بل تبقى كإرثٍ خالد يحمل أسماء من رحلوا، ويدل على أن الجهود المبذولة في طلب العلم تستحق أن تُكرّم، مهما كانت الظروف.
00:05 | 4-03-2025

نتنياهو والسعودية.. تصريحات تكشف المأزق الإسرائيلي

في عالم السياسة، لا تأتي التصريحات دائماً عفوية، بل تكون انعكاساً لمواقف عميقة، أزمات داخلية، أو محاولات مكشوفة لإعادة صياغة معادلات القوة في المشهد الإقليمي والدولي. هذا ما يمكن استخلاصه من تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول إمكانية إقامة دولة فلسطينية على أراضي المملكة العربية السعودية، وهو تصريح لا يعبر فقط عن سوء تقدير سياسي، بل يكشف أزمةً بنيويةً في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي.

نتنياهو، الذي لطالما تبنى خطاباً تصعيدياً تجاه القضية الفلسطينية، لم يكن يوجه كلامه إلى الفلسطينيين هذه المرة، بل اختار المملكة العربية السعودية لتكون محور استفزازه السياسي، في محاولة مكشوفة لصرف الأنظار عن مأزقه الداخلي. لكن هذا التصريح لم يأتِ بنتائج كما خطط لها، بل سلط الضوء على الفرق الشاسع بين سياسة سعودية حكيمة تقوم على ثوابت راسخة، وخطاب إسرائيلي يتخبط بين أزماته الداخلية وأوهام السيطرة الإقليمية.

عقلية استعمارية في عباءة سياسية جديدة

في عمق تصريح نتنياهو، تتجلى عقلية استعمارية قديمة تحاول إعادة إنتاج نفسها في سياق حديث. فكرة «نقل» الفلسطينيين أو اقتراح إقامة دولتهم في مكان آخر، تعكس جوهر المشروع الصهيوني القائم على نفي الآخر وإلغاء وجوده. نتنياهو، رغم محاولاته إخفاء هذه النزعة، يكشف في لحظةِ عجزٍ سياسيٍّ أن إسرائيل ما زالت تفكر بعقلية لا تعترف بالحقوق التاريخية للشعوب، وتحاول فرض حلول وهمية بالقوة.

هذا الطرح لا يُظهر فقط استخفافاً بتاريخ القضية الفلسطينية، بل يكشف أيضاً جهلاً سياسيّاً عميقاً بمكانة السعودية ودورها الإقليمي. فالمملكة ليست دولة هامشية يمكن الزج باسمها في تصريحات عبثية، بل هي قوة إقليمية راسخة تقود مواقفها من منطلقات ثابتة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي تُعتبر جزءاً من هوية المملكة السياسية والثقافية.

تصريحات تكشف

مأزقاً داخليّاً

لم تأتِ تصريحات نتنياهو بمعزل عن سياق داخلي مضطرب تعيشه إسرائيل. الاحتجاجات الداخلية ضد سياساته، التصدعات في التحالف الحكومي، وتصاعد النقد الدولي لانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، كلها عوامل دفعت نتنياهو إلى محاولة الهروب إلى الأمام من خلال خلق أزمة خارجية.

هذا النمط ليس جديداً في تاريخ القادة الذين يواجهون أزمات داخلية، إذ يبحثون عن «عدو خارجي» أو قضية جدلية لتحويل أنظار الرأي العام. لكن ما لم يدركه نتنياهو هو أن استخدام اسم السعودية في هذا السياق لم يكن الخيار الذكي؛ لأن المملكة لا تتعامل مع التصريحات الاستفزازية كردود فعل عابرة، بل ترد بحزم يُعزز من مكانتها ويكشف هشاشة الخطاب الإسرائيلي.السعودية موقف راسخ

لا يتأثر بالاستفزازات

رد المملكة العربية السعودية على تصريح نتنياهو جاء واضحاً وحاسماً. لم يكن مجرد رفض دبلوماسي، بل كان تأكيداً على أن سيادة المملكة ليست موضوعا للنقاش أو المساومة، وأن القضية الفلسطينية ليست ملفاً سياسيّاً عابراً، بل هي قضية جوهرية ترتبط بمبادئ المملكة الثابتة.

سياسة السعودية تجاه القضية الفلسطينية ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لموقف تاريخي يقوم على دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. المملكة لم تتغير مواقفها رغم التحولات الإقليمية والدولية، وهذا الثبات هو ما يُزعج قادة مثل نتنياهو، الذين اعتادوا على رؤية العالم من منظور مصالحهم الضيقة فقط.

تداعيات التصريح

على العلاقات الإقليمية

كان يهدف إلى الضغط على السعودية أو إحراجها كما يظن -وخاب ظنه- بل تسبب تصريح نتنياهو في نتائج عكسية تماماً. فقد أدى إلى تعزيز التضامن العربي حول القضية الفلسطينية، وأظهر مدى عزلة إسرائيل في سياقها الإقليمي عندما يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية.

هذا التصريح أيضاً أعاد طرح تساؤلات مهمة حول مستقبل العلاقات الإسرائيلية مع دول المنطقة، خاصة مع تلك التي كانت تفكر في فتح قنوات دبلوماسية مع إسرائيل. فقد كشفت تصريحات نتنياهو أن التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد مسألة اتفاقات سياسية، بل يرتبط بمدى استعداد إسرائيل لاحترام القيم والسيادة الوطنية للدول الأخرى.عزلة دبلوماسية

أم مأزق أخلاقي؟

ما يتجاهله نتنياهو في حساباته هو أن إسرائيل تعاني من عزلة دبلوماسية متزايدة بسبب سياساتها تجاه الفلسطينيين. هذه العزلة ليست فقط نتيجة لمواقف الدول العربية، بل أيضاً نتيجة تحول في الرأي العام العالمي الذي بات أكثر وعياً بالانتهاكات الإسرائيلية.

تصريحات مثل هذه لا تفعل شيئاً سوى تعميق هذه العزلة، وكشف حقيقة أن إسرائيل تعيش أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة سياسية. فبدلاً من الاعتراف بحقوق الفلسطينيين ومحاولة بناء علاقات طبيعية مع جيرانها، تواصل القيادة الإسرائيلية إنتاج خطاب قائم على النفي والاستعلاء والإنكار.

السعودية أكبر من أن

تُستَهدف بتصريحات جوفاء

في نهاية المطاف، تصريحات نتنياهو ليست أكثر من محاولة يائسة لصرف الأنظار عن أزمات إسرائيل الحقيقية. لكنها كانت أيضاً فرصة لإظهار الفرق بين قيادة سياسية ناضجة مثل المملكة العربية السعودية، التي تتعامل مع التحديات بحكمة وهدوء، وقيادة تعيش في فقاعة سياسية معزولة عن الواقع.

السعودية أكدت مرة أخرى أنها قوة إقليمية مستقلة، لا تخضع للابتزاز السياسي ولا تتأثر بالتصريحات العدائية. وموقفها الثابت من القضية الفلسطينية ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل هو تجسيد لهوية سياسية وأخلاقية تعزز مكانتها على الساحة الدولية.

أما نتنياهو، فقد أطلق تصريحاً يكشف أزمته هو، لا عن أي ضعف مزعوم لدى المملكة. وفي هذا الاختبار السياسي كان الرد السعودي هو الانتصار الحقيقي.
00:03 | 10-02-2025

الأفكار التقدمية خطر أم استقرار؟!

تُعتبر المجتمعات المحافظة بمثابة محاضن للثقافات والتقاليد الراسخة التي تُعد جزءاً لا يتجزأ من الهوية الاجتماعية للأفراد والمجتمع. ومع تقدم الزمن وتغير السياقات العالمية والاجتماعية في شتى المجالات، تظهر أفكار جديدة تُعزز التغيير الاجتماعي، مما يثير جدلاً حول ما إذا كانت هذه الأفكار تمثل تهديداً داخل المجتمع من التغيير. هذه الظاهرة تجد لها رواجاً بالمجتمعات التي تصنف نفسها أنها محافظة، ولكن هناك وصفاً لذلك في منظور علم الاجتماع. حيث يعتمد علماء الاجتماع على مجموعة من النظريات لفهم كيفية استجابة المجتمعات المحافظة للأفكار التقدمية. ومن أبرز هذه النظريات هي نظرية التغير الاجتماعي التي تشير إلى كيفية تفاعل المجتمعات مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

في المجتمعات المحافظة، تتمسك أفراد هذه المجتمعات بتلك القيم التقليدية عادة بقوة، وهذا يمكن أن يكون له تأثير مزدوج من جهة، حيث يمكن الحفاظ على الهوية الثقافية والتقاليد من تشجيع الاستقرار الاجتماعي. ومع ذلك، هذا التوجه قد يقود أيضاً إلى مقاومة التغيير، مما يعيق تطور المجتمع. إن التطور من خلال الأفكار التقدمية في التعليم، والحقوق الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين يُعتبر خطوة نحو تحسين الوضع الاجتماعي. تُظهر دراسات مثل تلك التي قام بها بيير بورديو حول «رأس المال الثقافي» أن التعليم وتبادل الأفكار الجديدة يُسهمان في تقليل الفجوات الاجتماعية وتحفيز التحولات الإيجابية في المجتمعات. كما يؤكد أنطوني غيدنز، في نظريته عن «الحداثة»، على أن المجتمعات يجب أن تكون قادرة على التأقلم مع التحديات الجديدة من خلال تبني قيما جديدة مع الاحتفاظ بقيم التراث الثقافي. هناك أيضًا جانب نفسي للأفكار التقدمية في المجتمعات المحافظة، تتطلب قضايا مثل حقوق الإنسان والمساواة في الفرص وإعادة تقييم الهويات الفردية والجماعية، وهو أمر قد يؤدي إلى صراعات داخلية، حيث يمكن أن يكون الشعور بالتهديد للهوية التقليدية يمكن أن يؤدي إلى ردود فعل دفاعية تجسّد الاحتجاج على التغيير، وهذا ما يُعرف بسلوك «أزمة الهوية».

لذا، يجب أن تُعالج الأفكار التقدمية في المجتمعات المحافظة من منظور يرتكز على الحوار البنّاء. حيث يُمكن أن يُساعد التعليم على فتح قنوات التواصل بين الأجيال المختلفة، مما يسهل قبول الأفكار الجديدة دون الشعور بفقدان الهوية الشخصية. إن الأفكار التقدمية في المجتمعات المحافظة ليست مجرد فتنة، بل تُعد فرصة للتطور والنمو الاجتماعي. ويتطلب النجاح في هذا السياق فهماً عميقاً للعوامل الثقافية والاجتماعية والنفسية المرتبطة بالتغيير. يُمكننا أن ندرك أن التغيير يحتاج إلى توازن دقيق بين الحفاظ على القيم التقليدية وفتح الأبواب أمام الأفكار الجديدة القادرة على تعزيز التطور المستدام. وفي النهاية، يُمكن أن تُسهم هذه التطورات في بناء مجتمعات أكثر قدرةً على التفاعل مع التحديات المعاصرة، مما يجعلها أكثر مرونة وتكيفاً في ظل عالم يتغير بسرعة.
00:14 | 27-09-2024