أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1751.jpg&w=220&q=100&f=webp

نايف الرومي

أهمية مواجهة أزمة التعليم

في مقال سابق نُشر في هذه الصحيفة كتبت مقالاً بتاريخ 2/‏9/‏2025 حول الجيل المنسي، وتطرّقت فيه إلى حجم الأزمة العالمية في التعليم، واليوم نحاول الإجابة عمّا إذا كان تعليمنا يعاني من أزمة تعليمية.

بمراجعة عميقة لحال التعليم خلال الخمس والعشرين سنة الماضية نجد أن هناك جهوداً كبيرة بُذلت لتحسين وتطوير التعليم الذي صُرفت عليه خلال هذه الفترة ميزانيات ضخمة، أكثر من 3 تريليونات ريال، ونفذت مشاريع تعليمية كثيرة، وصدرت قرارات تنظيمية سامية، لكن التعليم العام في تراجع لا يتناسب مع طموحات القيادة، ومستهدفات الرؤية، وتطلعات الطلاب، وأسرهم.

هذا التراجع الذي لا يليق بمكانة المملكة تؤكده التقييمات والاختبارات الدولية والتقارير العالمية الصادرة عن منظمات عالمية مثل اليونسكو، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي، وتؤكده أيضاً الاختبارات الوطنية، وتقارير هيئة تقويم التعليم عن التميّز المدرسي، مما يتأكد معه أن قطاع التعليم في المملكة يعاني من أزمة تعليمية مزمنة تهدّد مستقبل الأجيال القادمة والنمو الاقتصادي والبنية الاجتماعية والثقافية والبعد الأمني والفكري، وتتطلب إصلاحاً جذرياً وتدخلاً سريعاً وحازماً لضمان تحقيق أهداف رؤية 2030 في بناء جيل قادر على المنافسة عالمياً، ومستوعب للمتطلبات الاقتصادية الوطنية التي تحققها المملكة حالياً في ظل الرؤية وتوجيهات القيادة ومتابعتها الحازمة.

تُعد بعض المتطلبات ركائز أساسية لا غنى عنها لنجاح أي نظام تعليمي متكامل، ويُنظر إليها باعتبارها عوامل حاسمة في رفع جودة التعليم وتعزيز أثره التنموي. وفي واقعنا التعليمي، ما زال هناك مجال واسع لتعزيز هذه المتطلبات وتفعيلها بشكل مؤسسي، ومن أبرزها:

الرؤية الوطنية الموحدة للتعليم: وجود رؤية واضحة ومعتمدة يعد أساساً لتوجيه الجهود وتوحيد المسار التعليمي مع رؤية 2030.

السياسات التعليمية المواكبة للمستجدات الوطنية والعالمية: إذ لم يتم تحديث السياسة التعليمية منذ ما يقارب خمسين عاماً، الأمر الذي يبرز الحاجة الملحّة لمراجعتها بما يتناسب مع رؤية 2030 والتحولات المتسارعة.

النظام التعليمي الشامل: وجود نظام يحكم عملية التعليم ويضبطها يعد عنصراً محورياً لتكامل السياسات والإجراءات.

حوكمة التعليم وآليات المساءلة والتقييم: فهي تشكّل الأداة الأهم لرفع كفاءة المؤسسات التعليمية وضمان جودة المخرجات.

بالإضافة إلى ضرورة تحقق تلك المتطلبات الرئيسة، فإن هناك مجموعة عوامل تدل أيضاً على وجود أزمة في تعليمنا، منها:

جودة التعليم لا تتناسب مع القرارات السامية الساعية لتحسين التعليم ولا حجم الاستثمار المبذول، فعلى الرغم من الإنفاق الحكومي الكبير والاستراتيجيات المتعددة، فإن جودة المخرجات لا تزال دون المستوى المطلوب مقارنة بالدول المتقدمة والإقليمية والخليجية، حيث أظهرت نتائج تقويم مدارس المملكة الحكومية والخاصة لعام 2024 أن 299 مدرسة فقط حصلت على درجة التميّز من بين أكثر من 30 ألف مدرسة.

ضعف مهارات الطلاب في المواد الأساسية الذي تؤكده نتائج الطلاب في اختبارات التقييم الدولية مثل PISA وTIMSS وهي نتائج منخفضة جداً وتكاد تكون المملكة في مؤخرة قائمة الدول المشاركة في هذه الاختبارات والتقييمات، مما يشير إلى فجوة في جودة التعلم، حيث يوجد ما يزيد على 50% من طلبتنا تحت الحد الأدنى للأداء في تلك الاختبارات الدولية، وهذا لا يتناسب مطلقاً مع ما توليه القيادة من اهتمام بالتعليم، ولن يدعم تحقيق رؤية 2030.

هناك أزمة ثقة متزايدة بين التعليم من جهة وبين الطالب والأسرة والمعلم وإدارة المدرسة من جهة أخرى، مما أوجد ضعف قيمة التعليم والتعلم، وأفرز ظواهر غير مسبوقة في تاريخ التعليم تؤكد انخفاض الثقة بالتعليم، مثل ظاهرة الغياب الكثيف والتسرّب عن المدرسة. هناك أزمة ثقة في قرارات الوزارة المتناقضة والمربكة للأسرة والمعلمين وإدارات المدارس، فضلاً عن أنه ليست هناك استمرارية وثبات لجهود منظومة التطوير والتحسين، وتعدد الإستراتيجيات في آخر عشر سنوات خير مثال.

كما أن التطوير والتحسين للتعليم يعاني من التركيز الجزئي دون وجود نموذج متكامل بعيد المدى مبني على رؤية وطنية، بل يتم طرح مبادرات فردية وفق اجتهادات شخصية.

الفاقد التعليمي للطلاب زاد بشكل حاد، فبعد أن كان سنتين قبل جائحة كورونا أصبح بين ثلاث إلى أربع سنوات، وهو من أكثر نسب الفاقد التعليمي على مستوى العالم.

النتيجة الطبيعية لضعف تحقق تلك المتطلبات الرئيسة ووجود هذه العوامل هي انخفاض جودة التعليم وضعفه وعدم القدرة على المنافسة إقليمياً وعالمياً، مما نتج عنها أزمة تعليم ذات تأثيرات كبيرة على مجموعة أبعاد اقتصادية واجتماعية وتنموية وأمنية وفكرية:

اقتصادياً:

توضّح الأبحاث والدراسات أن الدول ذات الأنظمة التعليمية المتقدّمة تحقق نمواً اقتصادياً أعلى بنسبة 2% سنوياً مقارنة بالدول ذات التعليم منخفض الجودة.

كما تؤكد تقارير منظمات دولية، منها OECD، وشركة McKinsey، أن: كل سنة إضافية من التعليم الجيد تعزز دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 8-13%، ووفق تقرير البنك الدولي لعام 2020 فإن تحسين نتائج التعليم بمقدار انحراف معياري واحد في اختبار PISA يعزز نمو الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 2% سنوياً على المدى الطويل، كما قدر تقرير صادر عن McKinsey Global Institute أن الاقتصادات التي لا توائم تعليمها مع احتياجات السوق تخسر ما يقارب 1.5% من ناتجها المحلي سنوياً بسبب البطالة المقنعة وضعف الإنتاجية. إضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أن ضعف جودة التعليم يحدّ من القدرة على الابتكار وريادة الأعمال عند الشباب، ويجعل الاقتصاد أكثر اعتماداً على القوى العاملة الأجنبية، وما يتبع ذلك من رفع مستويات البطالة وغيرها.

اجتماعياً:

للتعليم تأثير مباشر على حياة الأفراد وتطور المجتمعات. فهو ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو حجر أساس للمجتمع الحيوي المنتج، وكل تراجع في جودة التعليم يقود إلى ارتفاع معدلات البطالة والجريمة، وانخفاض جودة الحياة. كما أن التعليم منخفض الجودة يدفع المجتمع إلى فقد قيمة التعليم وعدم دعمه وتعزيزه، وإذا انخفضت قيمة التعليم والتعلم لدى المجتمع زادت الفجوة التعليمية وأصبح لدينا جيل منخفض القدرات غير قادر على تحقيق طموحات ومستهدفات رؤية 2030، والمساهمة في بناء الاقتصاد القائم على المعرفة.

أمنياً وفكرياً:

بدون أدنى شك أن التعليم منخفض الجودة الذي يركز على مناهج وأنشطة تعليمية غير مواكبة للتحوّلات العالمية سينتج عنه أفراد يفتقدون مهارات التفكير والتعامل مع التحديات الفكرية والأمنية. هذا يؤدي إلى مجتمع هشّ ينقصه الكثير من المهارات ويصبح أكثر عرضة للتأثر بالأفكار المتطرفة والانحرافات الفكرية التي تهدد أمن المجتمع واستقراره.

مما سبق يتضح أن النظام التعليمي يواجه فجوة في وجود مؤشرات وطنية دقيقة ترصد حجم الخسائر التعليمية المتراكمة عبر السنوات الماضية وتقيس مداها الحقيقي. كما أن هناك حاجة إلى برنامج وطني متكامل لمعالجة الخلل وتعويض الفاقد التعليمي بما ينعكس إيجاباً على جودة المخرجات التعليمية. إضافة إلى ذلك، لا تزال هناك مساحة لتطوير آليات قياس علمية تربط بين نتائج الاختبارات الوطنية والدولية مثل TIMSS وPISA وبين السياسات والبرامج التعليمية المنفذة، بما يضمن الاستفادة المثلى من هذه النتائج.

أما الجانب الأكثر غياباً حتى الآن، فهو تقدير الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة التعليمية، وما تسبّبه من فجوة في سوق العمل وانعكاساتها على التنمية الوطنية.

ولعل القارئ الكريم يتساءل ما الحل في ظل وجود هذه الأزمة وإنقاذ تعليمنا من انهيار صامت؟ ولعلي هنا أقترح خطوطاً عريضة تساهم في المعالجة الجذرية المبنية على رؤية وطنية:

- تشكيل مجلس أعلى للتعليم، يتولى اعتماد النموذج الإصلاحي للتعليم والإشراف بشكل مباشر على تنفيذه وخاصةً في سنواته الأولى، ويتعامل مع الحلول الجذرية المناسبة من إعادة هيكلة النظام التعليمي إدارياً وفنياً بعيداً عن البيروقراطية السلبية التقليدية المعيقة.

- تبنّي نموذج غير تقليدي (Disruptive) في إصلاح التعليم، يستهدف إعادة صياغة وبناء النظام التعليمي من الجذور متجاوزين التحسينات السطحية والاجتهادات الفردية.

- وضع رؤية تعليمية وطنية تتناسق مع رؤية 2030، وتوجّه التعليم نحو المستجدات من المهارات الحديثة والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته والاقتصاد الرقمي والربط المباشر بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
18:43 | 29-09-2025

مكانة المعلم رسالة لا تختصرها بطاقة حضور وانصراف

حين بدأت حياتي العملية، كنت معلماً في مدرسة التذكارية بحي البطحاء في الرياض، أقف كل صباح أمام مئات الطلاب. تسع سنوات قضيتها هناك، عرفت خلالها ماذا يعني أن تكون معلماً لطفل في السادسة أو السابعة من عمره: أن تنزل بعقلك إلى مستوى تفكيره حتى تستطيع أن توصل له أبسط المعلومة، أن تتحمّل دموعه حين يفشل، وضحكاته حين يلهو، وعندما يطلب اهتماماً خاصاً لأنه يشعر بالتهميش، وتصرفاته العفوية التي قد تتكرر عشرات المرات في اليوم، كل ذلك وأمامك ثلاثون أو أربعون طالباً في فصل واحد، يصبح على المعلم أن يدير هذا العالم الصغير بحكمة وصبر ومرونة في آن واحد.

هذه التجربة جعلتني أوقن أن مهنة المعلم ليست وظيفة عادية، ولا يمكن التعامل معها بمنطق الحضور والانصراف. إنها مهنة استثنائية بكل تفاصيلها. إنها عمل ممتد يرافقه في البيت كما في المدرسة، في التفكير كما في التحضير، وفي المشاعر كما في الأداء.

معلم الابتدائية صبر يتجاوز المألوف، معلم الصفوف الدنيا يعيش يومياً تحدياً معقداً، كيف يحافظ على انتباه عشرات الأطفال، وكيف يحول لحظة الفوضى إلى فرصة تعليمية؟ ليس الأمر مجرد تلقين، بل هو تربية وبناء شخصية. هنا يصنع المعلم الخطوة الأولى التي تحدد مسيرة الطالب لسنوات قادمة. إن نجح في غرس حب التعلم والانضباط، سهلت المهمة في المراحل التالية، وإن فشل، حمل الطالب خبرات تعليمية ونفسية يصعب تجاوزها.

أمّا معلمو المرحلة الثانوية، فهم يعيشون مع صراع المراهقة والأسئلة الكبرى حيث التحدي مختلف تماماً. هم يواجهون مراهقين في مرحلة حساسة من العمر؛ عقول تبحث عن الاستقلالية، وقلوب تختبر حدود القوانين، وألسنة تطرح الأسئلة الجريئة حول الحياة والمجتمع. هنا يصبح المعلم موجهاً أكثر من كونه ناقلاً للمعلومة. هو من يوازن بين الانضباط والحرية، وبين التوجيه والتفهم. بل يمكن القول إنه أحياناً يلعب دور «المرشد الاجتماعي والنفسي» الذي يساعد الطلاب على العبور بأمان نحو مرحلة النضج.

لماذا مهنة المعلم ليست كأي مهنة؟

1. حجم التأثير: الموظف العادي يتعامل مع عدد محدود من الأشخاص، بينما المعلم يتعامل يومياً مع مئات الطلاب، ويترك أثراً في آلاف على مدار مسيرته.

2. تنوع الأدوار: المعلم ليس مفسّراً للمناهج فقط، بل قدوة، ومرشد، ومربٍّ، وموجّه سلوك.

3. العمل النفسي والعاطفي: عليه أن يضبط أعصابه، ويحتوي طلابه مهما كانت تصرفاتهم، ويوازن بين العدالة والحزم والرحمة.

4. العمل الممتد الذي لا ينتهي: من الحقائق والممارسات المؤكّدة التي لا يمكن تجاهلها أن طبيعة عمل المعلم لا تقتصر على ساعات الدوام الرسمي، بل تمتد إلى خارج المدرسة من خلال التحضير اليومي للدروس وخطط التدريس، ومتابعة أعمال الطلاب، والتواصل مع أولياء الأمور، والتطوير المهني المستمر، وكل هذا الجهد الخفي لا يظهر في سجلات الحضور والانصراف.

وعلى الرغم من هذا كله للأسف، ما زالت بعض المؤسسات التعليمية تتعامل مع المعلم بعقلية الموظف الإداري. الأهم هو الحضور والانصراف، والملفات والتقارير، لا جودة الدرس ولا تفاعل الطلاب.

إن اختلاف النظرة إلى المعلم، إمّا حجر زاوية في بناء المجتمع أو مجرد ترس في آلة بيروقراطية؛ هي التي تحدد مصير النظام التعليمي ومستقبله وجودته في أي دولة. وهناك تجارب عالمية تُعدّ خير شاهد على ذلك. في دول مثل فنلندا وسنغافورة، لم يصبح التعليم نموذجاً عالمياً بمحض الصدفة، بل كان نتيجة قرار إستراتيجي بوضع المعلم في قمة الهرم الاجتماعي والمهني. في فنلندا مثلاً، مهنة التعليم هي الأكثر تنافسية وجاذبية، حيث يُقبل ما يقارب 10% فقط من المتقدمين في كليات التربية، ويعتبر الحصول على الماجستير شرطاً أساسياً للتدريس، كما أن المعلم يتمتع بثقة كاملة واستقلالية عالية داخل الفصل المدرسي. وفي سنغافورة، يُمنح المعلم رواتب مجزية ومكانة اجتماعية رفيعة، ويحصل على تطوير مهني مستمر ومكثف.

في المقابل، هناك نماذج فشلت في تعليمها عندما تعاملت مع المعلم كموظف إداري تنفيذي، وكانت النتائج كارثية. ففي بريطانيا، مثلاً، خلال فترة التسعينات، أدّت السياسات التي ركزت على البيروقراطية وأثقلت كاهل المعلمين بالأعباء الإدارية إلى تدهور المعايير التعليمية ودفع الكثير من المعلمين إلى هجر مهنة التعليم. وفي وقتنا الحالي تشهد الأرجنتين تدهوراً في علاقة المعلم بالتعليم بسبب عدم الاهتمام بدور المعلم تعليمياً واقتصاره على كونه وظيفة من منظور إداري، مما يهدد مستقبل التعليم العام بأكمله في الأرجنتين. وأخيراً، في اليابان، التي طالما كانت نموذجاً مميزاً في التعليم، بدأت تعاني من نقص حاد في المعلمين بسبب ساعات العمل الطويلة والإرهاق الشديد للمعلمين من الأعباء الوظيفية الإدارية. كل هذا يثبت أن أي نظام تعليمي مهما بلغت قوّته وتميّزه، لا يمكن أن يستمر في ذلك دون حماية ورعاية معلميه، والرفع من مكانتهم وفهم دورهم الوظيفي تعليمياً وليس إدارياً فقط.

ما الذي نحتاجه إذا أردنا أن ننهض بتعليمنا؟ لا بد أن نبدأ من المعلم:

• تقدير حقيقي: نحتاج إلى أن نرفع مكانة المعلم مجتمعياً وإعلامياً، فلا يُنظر إليه كموظف حكومي عادي، بل كقائد تربوي.

• تخفيف الأعباء: تقليل الأعمال الورقية والإدارية التي تستهلك وقته وتشتته عن جوهر مهمته.

• التطوير المستمر: برامج تدريبية نوعية، مرتبطة بالتقنيات الحديثة وأساليب التعليم الفعّال.

• منحه الثقة والصلاحيات: ليتصرف كقائد داخل فصله، لا كمنفذ حرفي للتعليمات.

من عاش تجربة التعليم في الميدان، كما عشتها، يعرف أن المعلم ليس موظفاً عادياً، بل هو صانع مستقبل، ومهندس قيم، وباني أجيال. التعامل معه كبيروقراطي ينتهي دوره عند نهاية الدوام ومستوى أدائه مرتبط بدرجة انضباطه بالحضور والانصراف ظلم له وللتعليم وللمجتمع بأسره. إذا أردنا جيلاً متعلماً منافساً في عالم سريع التغير، فعلينا ألا نتعامل مع المعلم على أنه موظف إداري، وأن نبدأ برفع مكانة المعلم، وحمايته من النظرة الإجرائية الضيقة، ومنحه ما يستحق من تقدير وصلاحيات ودعم. فالمعلم هو نقطة البداية لأي إصلاح، وهو الاستثمار الحقيقي في مستقبل هذا الوطن.

15:50 | 14-09-2025

الجيل المنسي.. من أزمة الإنتاجية في التعليم إلى الانهيار البنيوي

في منتصف التسعينيات، دق الخبير الاقتصادي الأمريكي إريك هانوشِك ناقوس الخطر حول ما أسماه «أزمة الإنتاجية» في التعليم، مشيراً إلى أن مضاعفة الإنفاق على المدارس في الولايات المتحدة على مدى عقود لم يقابلها أي تحسن ملموس في التحصيل العلمي للطلاب. واستخدم هانوشك مفهوم «مرض بومول» (Baumol's Cost Disease) لتفسير هذه الظاهرة، حيث ترتفع تكاليف قطاعات الخدمات مثل التعليم بشكل مستمر دون أن تتمكن من تحقيق نفس مكاسب الإنتاجية التي تحققها القطاعات الصناعية، نظراً لصعوبة استبدال العنصر البشري (المعلم) بالآلات.

اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، لم تعد هذه الأزمة مجرد نظرية اقتصادية، بل تحولت إلى واقع عالمي مقلق، تفاقمت حدته مع جائحة كوفيد-19 التي وصفتها اليونسكو والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بأنها «كارثة تعليمية عالمية»، حيث انقطع أكثر من 1.6 مليار طالب عن الدراسة، وخسر الطلاب في العديد من الدول النامية ما يعادل سنة كاملة من التعلم، مما يهدد بولادة «جيل ضائع» إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة.

إن هذا المقال لا يهدف فقط إلى عرض حجم الأزمة، بل يسعى إلى تقديم تحليل بنيوي لأسبابها وتجلياتها، استناداً إلى البيانات والأدلة، مع رؤية إستراتيجية لإنقاذ المنظومة التعليمية من «انهيار صامت» يهدد مستقبل أجيال بأكملها.

مؤشرات الانهيار البنيوي في التعليم.. تشخيص الأزمة

لم تعد الأزمة مجرد «تراجع» في الأداء، بل أصبحت تشكل «انهياراً بنيوياً» في أسس المنظومة التعليمية، حيث لم تعد المدارس قادرة على تحقيق هدفها الأساسي في إعداد جيل يمتلك المعارف والمهارات اللازمة للحياة والعمل. ويمكن رصد هذا الانهيار من خلال المؤشرات التالية:

1. تدهور التحصيل الدراسي عالمياً

أظهرت نتائج البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA 2022) تراجعاً غير مسبوق في مستويات القراءة والرياضيات على مستوى دول العالم المشاركة في الدراسة، حيث يعادل هذا الانخفاض ما يقارب ثلاثة أرباع سنة دراسية في بعض الدول، بينما يزيد على ذلك في دول أُخرى. والمقلق في الأمر أن هذا التراجع ليس وليد الجائحة فحسب، بل هو امتداد لاتجاه تنازلي بدأ قبل عام 2018، مما يؤكد وجود أزمة هيكلية عميقة.

2. هدر الموارد وضعف الكفاءة

بالرغم من ازدياد الإنفاق على التعليم في العديد من الدول بشكل مطّرد ليصل إلى أضعاف خلال سنوات محدودة، إلا أن النتائج لم تتحسن بنفس القدر. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن غياب الحوكمة الفعالة يؤدي إلى هدر ما بين 30% إلى 50% من الإنفاق التعليمي في مجالات لا ترتبط مباشرة بجودة التعلم، مثل البيروقراطية الإدارية والمشاريع الإنشائية غير الضرورية.

3. تآكل الثقة المجتمعية في المدرسة

يعكس الإنفاق المتزايد للأسر على الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة انهيار الثقة في التعليم الحكومي. وقد أدى ذلك إلى انتشار ثقافة «التعليم من أجل الشهادة» بدلاً من «التعليم من أجل التعلم»، وبروز ظواهر مقلقة مثل الغياب الجماعي للطلاب والاعتماد على الملخصات الموجهة للاختبارات.

4. ضعف إعداد المعلمين وتأهيلهم

كشفت دراسة المسح الدولي للتعليم والتعلم (TALIS 2018) أن حوالى 45% من المعلمين لم يتلقوا أي تدريب مهني فعال خلال خمس سنوات، مما انعكس سلباً على أساليب التدريس التي ما زالت تعتمد على التلقين والحفظ، وتفتقر إلى الابتكار وتنمية مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات لدى الطلاب.

5. غياب الرؤية الوطنية وأنظمة المساءلة

وفقاً لتقرير اليونسكو لعام 2021، فإن أكثر من 60% من الدول لا تمتلك رؤية وطنية واضحة للتعليم، تستند إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس ونظام مساءلة صارم، مما يجعل الإصلاحات شكلية وغير مرتبطة بالواقع.

إن وراء هذه الأرقام حقائق أشد خطورة: فالجيل الذي عانى من إغلاق المدارس في عام 2020 وحده يُتوقع أن يخسر نحو 3% من دخله مدى الحياة، فيما قد تخسر اقتصادات الدول ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً. هذه ليست مجرد أرقام، بل تحذير صارخ من أن ملايين الطلاب قد يدخلون سوق العمل دون المهارات الأساسية، مما يجعل التعليم عاملاً للفقر بدلاً من التمكين، وعلى مستوى الدول وفي السنوات الأخيرة، لم يعد التعليم مجرد خدمة اجتماعية، بل أصبح ركيزة اقتصادية محورية لأي دولة تطمح إلى تحقيق النمو والتنافسية في الاقتصاد العالمي.

إن انهيار النظام البنيوي للتعليم يقود إلى آثار اقتصادية من أهمها: انخفاض الإنتاجية الوطنية، خسائر في الدخل الوطني والتكاليف الخفية مثل (انخفاض كفاءة سوق العمل، وتقلص فرص الحصول على وظائف جيدة، وارتفاع الاعتماد على برامج الدعم الحكومي)، ارتفاع معدلات البطالة والتوظيف غير المنتج، تراجع القدرة التنافسية والابتكار، ارتفاع الإنفاق الحكومي على الإعانات والعلاج اللاحق.

إن الانهيار البنيوي في التعليم ليس مجرد أزمة عابرة يمكن معالجتها بمبادرات سطحية أو اجتهادات فردية، بل هو فشل في وظائف النظام التعليمي الأساسية، يتطلب مشروعاً وطنياً شاملاً لإنقاذ مستقبل أجيال بأكملها. وهنا يتبادر الي الذهن مجموعة تساؤلات: أين تعليمنا من هذه الحالة؟ هل لدينا مؤشر وطني دقيق يرصد حجم الخسائر التعليمية التي تراكمت خلال السنوات الماضية ويقيس مداها الحقيقي؟ وهل وضعنا بالفعل برنامجاً وطنياً متكاملاً لإصلاح الخلل وتعويض الفاقد التعليمي الذي انعكس على مخرجاتنا البشرية؟ إلى أي مدى نملك اليوم آليات قياس علمية تربط بين نتائج اختباراتنا الوطنية والدولية مثل TIMSS وPISA وبين السياسات والبرامج التعليمية المطبقة؟ وما زال الغائب الأكبر هو: تقدير الكلفة الاقتصادية لهذه الخسائر التعليمية، وما تسببه من فجوة في سوق العمل والتنمية الوطنية والتكلفة الاجتماعية.

إن التحدي الذي يواجه منظومة التعليم اليوم لم يعد تحسين التعليم من خلال مبادرات مجزأة أو بالاعتماد على تجارب دول لها ظروفها ومعطياتها التي تختلف كلياً عن ظروف ومعطيات الدولة التي تسعى للتطوير والإصلاح، بل إنقاذه من انهيار صامت ومتسارع أوضحته الدراسات على مدى أكثر من عقدين من الزمن. ويجب أن ندرك بأنه دون اتخاذ إجراءات حاسمة وعاجلة، سيظل تحذير هانوشك حياً، ليس فقط في الأبحاث الأكاديمية، بل في مستقبل أجيال كاملة قد تُصنف لاحقاً بـ«الجيل المنسي».
13:56 | 2-09-2025

هل آن أوان مجلس أعلى للتعليم ؟

في المشهد العالمي الديناميكي السريع والتنافسي اليوم، تدرك الدول وبشكل متزايد الدور المحوري للتعليم في دفع الابتكار، وتعزيز تنمية المواهب، وضمان الاستدامة على المدى الطويل والتنافسية العالمية، الذي يعتمد بشكل جازم على مستوى وكفاءة رأس المال البشري، ولهذا لم يعد تحسين التعليم وتطويره مسعىً تقديرياً، بل ضرورة إستراتيجية.

إننا لا نبالغ إن قلنا إن التعليم يعتبر من أهم المنظومات في المجتمع وأكثرها تأثيراً على منظوماته وعناصره الأخرى وتأثراً بها. وهو إحدى أهم ركائز التنمية الشخصية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، وأساس يُنطلق منه لبناء مستقبل مزدهر ومستدام وهوية مستقرة وثقافة مشتركة، فضلاً عن خلق بيئة للسلم الاجتماعي على مستوى الدول، والمجتمعات، والأسر، والأشخاص.

ومن أسس وأصول علم صياغة السياسات العامة أن الشؤون التي تحكم أو تؤثر في الدولة بالعموم والمجتمع بالخصوص على المدى المتوسط والطويل، تحتاج استقراراً وتماسكاً واستمرارية ووضوحاً، فضلاً عن القبول والقناعة لدى الغالبية من أصحاب الشأن والعلاقة. ومجال التعليم صناعةً واقتصاداً وفناً وتنظيماً ونظاماً ولوائح وتقاليد، مثالٌ متميزٌ لمثل هذه الرؤية وتفصيلها وإنزالها على الواقع الملموس والمأمول. تؤكد الدراسات والبحوث في مجال النظام التعليمي وسياساته وهيكلته ومناهجه بشكل متواتر أن تغيير أو تعديل (حتى لو كان بنية التحسين والتطوير) أيٍّ من عناصر هذا النظام، يعد عملية ذات تأثير كبير ومعقدة بما لها من مدخلات ومخرجات وتبعات يصعب توقعها. فهي أجيال من التلاميذ والمعلمين تتقدم نضجاً وتعليماً وتكويناً يتبعها أجيال تمر عبر محطات التعليم الرسمي بدون رجعة، فضلاً عن الاستثمارات المادية والمعنوية. وتلك الدراسات وما وراءها من النظريات القانونية والاجتماعية تؤكد ضرورة أن يراعي النظام والتنظيم ضمان الاستقرار والتماسك والاستمرارية والوضوح.

إن الاستقرار في الأنظمة والاستمرارية تضمن بيئة نظامية محفزة يمكن التوقع والتخطيط لها فتزيد الفعالية وتدفع للمشاركة وتحفز للاستثمار، فضلاً عن ترسيخ الثقة. وذلك يتحقق بوضع إجراءات واضحة وتنظيمات راسخة لتغيير وتعديل الأنظمة والهياكل والرؤى والسياسات العامة. وهو أمر نراه واضحاً في وقتنا الحاضر في ترجمة الرؤية 2030 إلى برامج وخطط ومبادرات ومشاريع من خلال تنظيمات مستقرة تعتمد التشاور والمشاركة ووضوح الإجراءات وإعلانها ووضوح الأنظمة للجميع في إطار من التواصل المستمر.

لذلك فإن السياسات العامة والتنظيمات والتجارب الدولية تفترض أن يتولى أي تغيير أو تطوير في أي من عناصر التعليم ذات الأثر الدائم أو العميق، أعلى سلطة تشريعية وتنظيمية في الدولة من خلال نظام وآليات وإجراءات شفافة واضحة، ومن الأمثلة على ذلك سنغافورا وفنلندا وكوريا الجنوبية. مثل هذا التصور يُنتج تشخيصاً وتحليلاً متأنياً ومعمقاً للواقع، ومن ثم دراسات وبحوث وافية للأسس والمقدمات انتهاءً بالنتائج في سياقات تشمل المجتمع والثقافة والهوية والاقتصاد بل حتى البيئة والطقس، فضلاً عن الرؤية والطموح الوطني (الذي تمثل رؤية 2030 ترجمة له في وقتنا الحالي).

إن التطبيق -بعد أن يتجاوز مراحل الصياغة النظامية والتنفيذية- يتطلب وسائل تقي المجتمع خطر التبعات والنتائج السلبية، وتُمكن من آلية تقليل المخاطر وتقليص الضرر مثل التدرج في التطبيق قبل التعميم، وتوفير آليات المراجعة والتقييم ثم التقويم وغير ذلك مما نراه في آليات الرؤية 2030. ولذلك قد يكون من المناسب النظر في أن ترتبط أي تغييرات وقرارات إستراتيجية في مجال التعليم بأعلى سلطة تنظيمية وتشريعية في الدولة، لما ذكر آنفاً ولعدد من المبررات الإضافية؛ التي من أهمها: تحقيق الرؤية الوطنية 2030 التي هي الأساس في بناء وتحقيق إستراتيجية التعليم، وضمان الاستقرار والاستمرارية، وتوحيد الجهود، وتطبيق مبادئ المساءلة والشفافية، وتحسين جودة التعليم وتعزيز تنمية القدرات البشرية الشاملة، وتحقيق التنسيق الإستراتيجي بين كافة الجهات ذات العلاقة، وتحقيق الاستجابة لاحتياجات المجتمع والأفراد وسوق العمل.

من هذه المنطلقات وفي ظل التطور السريع والتغيرات المتلاحقة في المجتمعات وطموح المملكة، في تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة وتعزيز الاقتصاد وزيادة التنافسية العالمية، وتدعيم الابتكار والتطوير، ومن منظور الحوكمة الفاعلة، حيث يوجد الآن أربع جهات تتولى التعليم والتدريب؛ هي وزارة التعليم، ومجلس شؤون الجامعات، والمؤسسة العامة للتدريب التقني، وهيئة تقويم التعليم والتدريب، وكل واحدة لها سياساتها وخططها وبرامجها، فضلاً عن وجود برنامج تنمية القدرات البشرية وهو أحد برامج رؤية 2030، فقد يكون آن أوان النظر في تشكيل مجلس أعلى للتعليم بقيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، تكون مهمته اعتماد واتخاذ القرارات الإستراتيجية العليا المتعلقة بالتعليم بكافة أنواعه ووسائله ومستوياته العام والعالي والتقني والمستمر، ومراقبة جودة التعليم وتحقيق مستهدفات الرؤية الوطنية 2030 بشكل عام وبرنامج تنمية القدرات البشرية بشكل خاص.

يكون نظام المجلس المقترح ليس ببعيد عن نظام الهيئات التنظيمية التي تشرف وتنظم بيئات مهمة مثل مجالات الطاقة والاتصالات والصحة وغيرها التي أثبتت قدرتها على خلق البيئة المناسبة المحفزة على النمو في جو من الاستقرار وإمكانية التوقع والتحفيز على الاستثمار. يكون هذا النظام شاملاً لأمانة عامة (يرتبط بها مركز للبحوث والإحصاء ومصادر المعلومات والتحليل). تكون مسؤوليات تلك الأمانة إعداد أسس ومساندة قرارات المجلس وتتابع تنفيذها وترجمتها على مستوى الأنظمة والتنظيمات واللوائح، وتستشرف آثارها وتنظم أسلوب المشاركة من قبل أصحاب العلاقة والمصالح.

حقق الله آمالنا وتطلعاتنا لهذا الوطن العزيز، أمناً وتعليماً وصحةً ونماءً، ودمتم بخير.
00:03 | 13-06-2024

الفصول الدراسية: فصلان أم ثلاثة.. أيهما الأفضل؟

كثر الحديث منذ صدور قرار تغيير نظام الفصول الدراسية إلى ثلاثة فصول عام 2022 بدلاً من النظام القائم والثابت الذي يتمثل في فصلين دراسيين متواليين وإجازة صيفية طويلة نسبياً. وموضوع الفصول الدراسية طولاً وعدداً وتموضعاً في السنة والعام الدراسي أحد أخطر عناصر العملية التعليمية وأكثرها تأثيراً ليس على فعالية التعليم ونجاحه والمدرسة والمعلم والتلميذ والوالدين والمنظومة التعليمية المعنوية والمادية، ولكن على المجتمع واقتصاد الدولة ونغمة حركة البلاد وأهلها. لا شك أن قراراً حول اختيار وتطبيق نظام الفصول أمر مهم جداً واضح التأثير والأهمية، ولذلك فإنني وبشكل مختصر سأقوم بذكر أمثلة في هذا المقال تبرز بعض الفروق الأساسية بين نظام الفصلين والفصول الثلاثة ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل المثال. وهدفي من ذكر أمثلة عن الفروق بين النظامين إنما هو للفت النظر لأهمية الرؤية المتكاملة للوصول لتصور صحيح عن مقاربة النموذج الأمثل للتعليم العام في مجتمعنا. ولوضع الأمثلة القليلة التالية في السياق المناسب سوف ننطلق من تساؤل بسيط حول أي النظامين أفضل سواء للطالب الذي هو محور العملية التعليمية أو للمعلمين أو للأسرة أو للدولة على جميع الأصعدة التي ليس أولها الهوية والانتماء والاقتصاد، وليس آخرها كفاءة التشغيل وكلفته.

لا شك أن لكل نظام تعليمي ولكل هيكلة دراسية، ميزات وإيجابيات وفي نفس الوقت له سلبيات ويواجه تحديات. ونظام الفصول الدراسية عنصر مهم في تلك الهيكلة. فمثلاً وبالاطلاع على الكثير من الأدبيات تبيّن أن لنظام الفصلين الدراسيين ميزات وإيجابيات عديدة ومهمة أثبتتها الخبرة والتجارب العملية. فهو مثلاً يوفر استقراراً وأسلوباً مألوفاً وهيكلاً دراسياً معتمداً ومشتركاً على نطاق واسع في العديد من البلدان حول العالم، وخصوصاً دول ذات تقاليد راسخة في التعليم العام من حيث التاريخ والتطوير (مثل أمريكا، كندا، ألمانيا، فلندا، النرويج) وفي دول ناشئة ذات حيوية تنموية سباقة (المكسيك، سنغافورة، كوريا الجنوبية، ماليزيا، تايوان). وثبات هذا النظام (الفصلين الدراسيين) في تلك الدول بل في التقاليد التعليمية الدولية لم يكن من فراغ. فقد انتهت الدراسات المتخصصة والأدبيات ذات العلاقة، مثل دراسة جامعة هارفرد، عنوان The Impact of Semester vs. Quarter Systems on Student Learning، وغيرها من الدراسات لبعض الأسباب وأورد بعض الأمثلة على سبيل المثال وليس الحصر:

1. التجذر الثقافي والتقاليدي: لا مناص من الأخذ في الاعتبار أن نظام الفصلين الدراسيين له تاريخ متجذر بعمق في الثقافة التعليمية والتقاليد الاجتماعية، وبالتالي يعتبر خياراً مألوفاً ومستقراً للطلاب وأولياء الأمور والمعلمين بل ونبض المجتمع وعاداته، وحوله قامت الكثير من العادات والتقاليد بل والأنظمة.

2. الفعالية التعليمية: تقليل عدد الفصول وطولها يؤثر بشكل واضح على التعلم المعمق: تسمح الفصول الدراسية الأطول بتغطية شاملة وأكثر تماسك للمناهج الدراسية وترسيخ المهارات والقدرات. الوقت والتمهل يعين على التعمق في الموضوعات وترسيخ المعلومات. كما أنه يتيح الفرصة لتطبيق إستراتيجيات تدريس حديثة. التقييم المتسق: يوفر نظام الفصلين الدراسيين إطاراً مستقراً أقرب للواقعية لجدولة التقييمات وواقعية الامتحانات، ومن ثم فترات كافية للتغذية الراجعة والتحليل واستخلاص النتائج. العلاقات بين المعلم والطلاب والمنزل: يتيح الوقت الممتد في كل فصل دراسي للمعلمين بناء علاقات أقوى مع طلابهم، وفهم احتياجاتهم الفردية وتوفير تدريس ودعم أكثر تخصيصاً، وإمكانية أفضل في توظيف الوالدين والمنزل في العملية التعليمية.

3. الكفاءة الإدارية: الجدول الدراسي: يوفر نظام الفصلين الدراسيين إمكانية تبسيط التقويم (الروزنامة) التعليمي مما يؤهل لتخطيط المنهج وتوزيع مهام المعلمين وتنظيم المناسبات والأنشطة المدرسية بشكل متمهل نسبياً يقلل من عامل ضغط الوقت والاضطراب والتوتر. إدارة الموارد: يُمكن نظام الفصلين المؤسسات التعليمية من إدارة أفضل وأكثر كفاءة للموارد. مثال تلك الموارد الكتب المدرسية. كما يساعد على جدولة أعمال الصيانة والتجديد للمرافق المدرسية خلال العطلة الصيفية الطويلة دون الإخلال بالتقويم الدراسي.

4. الاعتبارات الاقتصادية وتوفير التكاليف: تساهم العطلة الصيفية الطويلة على تقليل تكاليف التشغيل للمرافق والصيانة على كاهل الخزينة العامة، كما يمكن المدارس من استثمار المرافق مثل الصالات الرياضية، كما أنه يقلل من الرسوم الدراسية في المدارس الخاصة والعالمية على أولياء الأمور. الكتب والاحتياجات المدرسية وحلقات التوريد: على سبيل المثال أشير هنا لاستخدام الموارد وخاصةً الكتب الدراسية على فصلين دراسيين لا شك أنه يقلل الهدر في المال وفي الورق، وهذا بلا شك يوفر في التكاليف، وهذا المبدأ ينطبق على جميع الاحتياجات المادية الملموسة للعملية التعليمية.

5. الفرص اللامنهجية والإثراء: البرامج الصيفية: تطبيق الفصلين الدراسيين يوفر عطلة صيفية طويلة تسمح للطلاب بالمشاركة في الأنشطة الصيفية والتدريب الداخلي من خلال برنامج الشراكة مع القطاع الخاص والعمل التطوعي وغيرها من الأنشطة الإثرائية التي تعزز نموهم الشخصي والتعليمي والنضج النفسي. التعليم العلاجي: يمكن للمدارس تقديم برامج مدرسية صيفية للطلاب الذين يحتاجون إلى مساعدة إضافية، مما يسمح لهم بالتعويض والاستعداد للعام الدراسي المقبل.

6. الانسجام مع التعليم العالي: تعمل نسبة كبيرة من الكليات والجامعات الوطنية وفي كثير من أنحاء العالم أيضًا بنظام الفصلين الدراسيين. إن مواءمة التعليم مع تقاويم التعليم العالي يساعد على سهولة الانتقال للطلاب، كما يساعد الطلاب الذين ينتقلون دولياً الاندماج في الأنظمة التعليمية الجديدة دون انقطاع كبير. أما ما يتعلق بتطبيق نظام الفصول الثلاثة، فتشير الدراسات إلى أن هناك عددا محدودا من الدول تطبق نظام الفصول الثلاثة ولكل منها ظروف اقتصادية وبيئية تبرر ذلك (مثل البرتغال، إسكتلندا، إيرلندا، كينيا). ومن أبرز ما ذكر من مميزات هذا النظام: 1. محدودية طول الفصل الدراسي: يكون توزيع الأسابيع الدراسية على ثلاثة فصول مما يساعد الطلاب على عدم الشعور بالملل وطول الوقت. 2. إمكانيات الدعم للتلميذ: يمكن نظام الفصول الدراسية الثلاثة المعلمين من تقديم الدعم والمساندة للطلاب وخاصةً في الفصل الدراسي الثالث، حيث تكون المناهج الدراسية على وشك الانتهاء. 3. تقليل الفاقد التعليمي: تحدثت عدد من الأدبيات على أن تطبيق الفصول الثلاثة يساعد على تقليل الفاقد التعليمي، حيث تكون إجازة نهاية العام الدراسي قليلة مما يساعد على عدم فقدان المعلومة والمهارة، كما أنه يسمح للمعلمين بالمراجعة مع الطلاب وتقديم الدعم وخاصةً في الفصل الدراسي الثالث.

بناء على ما سبق يتبين أن هناك تحديات قد لا يمكن علاجها في نظام الفصول الثلاثة، فعلى سبيل المثال فإن تطبيق نظام الفصول الدراسية الثلاثة له تأثير كبير على تركيز الطلاب وشعورهم بالإرهاق نظراً لطول العام الدراسي وتقطع الكتل التعليمية والمنهجية وتواليها، كما أنه يعتبر نظاماً مكلفاً من الناحية التشغيلية وسبباً لاحتمالية زيادة الهدر المالي نظراً لاستخدام الموارد على طول العام ويتطلب صيانة على مدار العام، كما أنه لا يساعد على تقديم الأنشطة الإثرائية للطلاب ولا يساعدهم على تنفيذ التدريب الصيفي، وهيكلة الفصول الدراسية الثلاثة تفرض تعدد الإجازات، مما قد يساهم باسترخاء سلبي للطلاب، كما أنه نظام لا يتواءم مع أنظمة الكثير من الجامعات المحلية والعالمية، والأهم من ذلك أنه لا يساعد المعلمين على تحقيق تطويرهم المهني بفعالية. أما ما يتعلق بالفاقد التعليمي، فهو مرتبط وبشكل كبير بجودة ما يقدم للطلاب خلال العام من تعليم وبرامج وبثقافة ووعي الطلاب وأسرهم، وكذلك ارتباطه ببقية العوامل التي تؤثر على مستوى تحصيل الطلاب مثل طول العام الدراسي والإحساس بالإرهاق وكثرة الإجازات.

يتضح لنا أن تطبيق نظام الفصلين الدراسيين وهيكلته التعليمية له فوائد ومزايا عديدة تستحق الاهتمام والمراجعة والتفكير، حيث يظهر وبشكل واضح أن نظام الفصلين الدراسيين هو النظام الدارج ويستخدم على نطاق واسع على مستوى العالم لعدة أسباب مهمة تتعلق بشكل خاص بفعاليته المؤكدة في تعزيز التعلم ورفع جودته، وكفاءته الإدارية، ومزاياه الاقتصادية، والمواءمة مع معايير ونظام التعليم العالي الدراسي، فضلاً عن أنه يوفر إطار عمل مستقراً ويمكن التنبؤ به وفعال من حيث التكلفة لتعليم الطلاب. وفي ظني أن نظام الفصلين الدراسيين يظل هو الأفضل لنظامنا التعليمي.
00:01 | 6-06-2024

بناء السياسات.. المساءلة والمحاسبية لضبط التنفيذ الفعَّال

في مقال سابق («عكاظ»، 22 شوال 1445) تحدثنا عن مبدأ السياسات العامة (Public Policy) المصطلح والأهمية والدور. وكان المقال حول معنى السياسات العامة والدور الذي تؤديه في إدارة وقيادة المنظومات بأنواعها. باختصار هي أهداف وتوجهات عمومية، وإن تنوعت صياغتها وأشكالها فإنها في الغالب تصاغ في صورة قرار أو مجموعة قرارات تبنى على أساسها أو في إطارها الاستراتيجيات والبرامج والخطط. وكان واضحاً أن صياغتها بالشكل الصحيح والمنهجية السليمة يشكل الفارق بين النجاح والفشل والمراوحة والتقدم. ولذلك فإنها وبشكل مؤسسي تحظى بأهمية كبيرة لدى المشرعين ومؤسسي الأنظمة وصناع القرار والأجهزة التنفيذية في جميع المجالات الحيوية والتنموية. وسبق التأكيد على أن التعليم من أول المجالات التي تشكل السياسات العامة أهمية في قيادته وبناء منظوماته وإدارتها وتطويرها. في هذا المقال نتحدث بشيء من التفصيل عن أهم الصفات والخواص التي ينبغي أن تتسم بها صياغة السياسات العامة بشكل عام والسياسات العامة التعليمية بشكل خاص؛ ومنها:

أولاً: تأخذ السياسات العامة في صياغتها ثلاثة مستويات على سبيل الأولوية: الدولة بجميع مكوناتها ودستورها وأنظمتها الأساسية وأجهزتها تأثيراً وتأثراً، والمجتمع بجميع مكوناته وشرائحه وقيمه وثقافته، والفرد من حيث احتياجاته ورغباته وقدراته. ولمزيد من الإيضاح سأورد فيما يلي بعض المبادئ العامة؛ التي يرى المختصون مراعاتها والأخذ بها عند صياغة مثل هذه السياسات العامة: الشمولية: تصاغ السياسات العامة بحيث تعتبر وتوظف جميع الإمكانات والإمكانيات والموارد وتخدم شامل الاحتياجات وجميع المجموعات بشكل عمومي ذي طبيعة شاملة. الحوكمة متعددة المستويات: تعتمد السياسات العامة عند صياغتها بشكل مباشر وغير مباشر الأدوار والمسؤوليات والتقاطعات المحتملة لجميع عناصر التنفيذ في المنظومات والأنظمة العمودية والأفقية، التي تحكمها تلك السياسات العامة لضمان تجنُّب التداخل، ووضوح هيكل المسؤولية والمحاسبية والمساءلة وبالتالي ضمان التنفيذ الفعال. المساءلة والشفافية: صياغة آليات لضمان الشفافية وصلاحيات المساءلة لأهمية بناء الثقة لدى الجميع سواء داخل المنظومات أو خارجها، ويتضمن ذلك معايير واضحة للتقييم والمتابعة بما في ذلك تقديم تقارير دورية عما أنجز والتحديات والنجاح والإخفاق والتقدم والتقصير. الاستدامة: من المهم عند صياغة وتطوير السياسات العامة أن تكون بالشكل والمضمون والتفصيل الذي يضمن استمراريتها على المدى الطويل من حيث الواقعية وإمكانيات المراجعة والتعديل والمتابعة.

ثانياً: تكون ملزمة لجميع المؤسسات التعليمية والمؤسسات ذات العلاقة أو المساندة: إن السياسات العامة في المجال التعليمي لا بد أن تكون ملزمة أو بالأصح محل التزام حتمي وضروري بين جميع المؤسسات ذات العلاقة بشكل عمودي وأفقي؛ لأن من نتائج الالتزام هو التجانس وعدم تناقض التوجهات وتضاربها مما يضمن ويقود ذلك الفاعلية بين جميع المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها وأدوارها القيادية والتخطيطية والتنفيذية، ومثل ذلك مع المؤسسات ذات العلاقة. ولمزيد من التوضيح أستأذن -القارئ الكريم- أن أورد بعض أهم الأسباب التي تحفز على الالتزام بالسياسات العامة في مجال التعليم: الوضوح والتوحيد: لابد للسياسات أن تكون من الوضوح على درجة عالية تمكن الجميع من فهمها والتعامل معها في الحياة المهنية والعامة، كما يجب أن تكون متماسكة تشكل إطاراً موحداً تنسجم في سياقه الأنظمة والتعليمات والأهداف الرئيسة والفرعية. الإنصاف: يكون واضحاً في صياغة السياسات العامة التعليمية الموحدة هدف بل وأولوية حصول جميع الطلاب، بغض النظر عن مكان التحاقهم بالمدرسة، على نفس الجودة من التعليم والتعلم، لضمان ردم الفجوة أو تقليلها بدرجة كبيرة بين المدارس في مختلف الأرجاء وبين إدارات التعليم في كافة المناطق فهي مثال للهدف الوطني الذي تصاغ السياسات التعليمية لتحقيقه. آليات مراقبة الجودة: توحيد معايير التقييم في سياق الأهداف المحددة في السياسات العامة وإمكانية إيجاد آليات مراقبة الجودة وضمانها يعين في تنافس ونجاح المؤسسات التعليمية والمساندة، ويساعد في الحفاظ على معايير عالية في المعلمين واختيارهم والمناهج والبيئة التعليمية في المدارس وإدارات التعليم. الالتزام بالأنظمة والتعليمات: يساعد تنفيذ السياسات التعليمية والالتزام بها في جميع المؤسسات التعليمية على ضمان امتثالها للأنظمة واللوائح التعليمية والتزامها بالمعايير مما يقلل من نشوء المخاطر والتحديات. المساءلة: عندما تكون السياسات التعليمية ملزمة لجميع المؤسسات التعليمية العامة والخاصة، فإنها تخلق معايير واضحة للمساءلة، تساعد في بناء نظام محاسبية فعال، يساهم في بناء نظام تعليمي أكثر فعالية وجودة. واضحة بدون ضبابية: إن صياغة سياسات واضحة ومحددة سوف يضمن الدقة التي تقلل من التفسيرات والتطبيقات المتنوعة والمختلفة بين المؤسسات التعليمية بأنواعها. كما أنها تضمن التنفيذ الفعال والحافز حيث يصبح من الأسهل على المسؤولين في الوزارة صياغة اللوائح والمساندة والتنظيم، وإدارات التعليم والمدارس، التنفيذ دون الدخول في دوامات بيروقراطية بسبب تفسيرات واسعة وغامضة تهيئ للمصالح الشخصية والتراخي. ومن علامات الوضوح وعدم الضبابية وجود ممكنات التكيف والمرونة والتفاعل مع الاحتياجات الطارئة والظروف المتغيرة المحيطة ولكن بدون الإخلال بالأهداف العامة لتلك السياسات مثل ما يتعلق بالهوية والاعتقاد والقيم.

ثالثاً: مستقرة لا تتأثر بتغير الأنظمة وبتغير الأفراد التنفيذيين: من المتفق عليه والمؤكد أن الاستقرار في السياسات العامة، وخاصة السياسة التعليمية، أساس ركين وأمر ضروري وبغاية الأهمية في مواجهة تغير القوانين والتنظيمات والأجهزة التنفيذية والأفراد والمسؤولين، ولذلك أسباب واضحة نذكر منها -على سبيل المثال وليس الحصر- ضمان الاتساق في التعليم لتوفير وتهيئة البيئة التعليمية لإجراءات وممارسات ومناهج ومعايير تعليمية متجانسة بشكل عام ووفق المراحل الدراسية المختلفة. كما يمكن في بيئة السياسات العامة المستقرة إمكانية التخطيط الاستراتيجي الضروري للمؤسسات التعليمية التي تعتمد على أهداف طويلة المدى بسبب طبيعة العملية التعليمية التي تمتد على مساحات جغرافية واسعة وأزمان متطاولة. ثم إن السياسات العامة الواضحة المستقرة تخلق بيئة اقتصادية يكون فيها التوقع الواقعي أساس قرارات الاستثمار المادي والمعنوي لدى المستثمر مما يقوده لمزيد من الثقة في خلق السوق وتعزيز الشركات وتطوير الصناعة التعليمية. وتؤكد الدراسات ويكرر المختصون في المجال المالي أن استقرار السياسات العامة ووضوحها وعدم ضبابيتها يتسبب بشكل مباشر في رفع كفاءة الإنفاق وتقليل الهدر المالي وفعالية استخدام الموارد.

وختاماً، فقد حاولت من خلال التمثيل بالسياسات العامة في مجال التعليم التوضيح والتفصيل حول أهمية الالتزام ببعض السمات والخصائص التي يلزم أخذها في الاعتبار عند تحديد وصياغة السياسات العامة لتضمن بيئة خصبة إيجابية لأي صناعة أو مجال. ولا يفوتني في الختام التأكيد على أن السياسات بشكل عام والسياسات التعليمية بشكل خاص ينبغي أن تحظى بآلية مراجعة وتقييم منتظمة تساعد على إحداث تغييرات في السياسات الفرعية المتصلة بالتنمية والاقتصاد وتوفر الموارد والظروف العامة والخاصة.
00:05 | 23-05-2024

اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ

إِنَّ «اَلسِّيَاسَةَ اَلْعَامَّةَ/‏‏ Public Policy»، مُصْطَلَحٌ مُهِمٌّ أَوْجَبَ اِسْتِعْمَالُهُ نَمَطَ حَيَاتِنَا اَلْمُرَكَّبَ وَالْمُتَلَاحِقِ فِي تَغَيُّرِهِ وَنُمُوّهُ وَانْفِتَاحِهِ؛ إذ تحظى بأَهَمِّيَّةٍ كُبْرَى لَدَى اَلْمُشَرِّعِينَ وَمُؤَسَّسِي اَلْأَنْظِمَةِ، وَصُنَّاعِ اَلْقَرَارِ، فَيُتَابِعُونَ بِحَزْمِ تَقْيِيمِهَا وَتَطْوِيرِهَا، وَمَا حَظِيَتْ (اَلسِّيَاسَاتُ اَلْعَامَّةُ) بِتِلْكَ اَلْمَنْزِلَةِ إِلَّا مِنْ مُصَادَقَةِ اَلْجِهَاتِ اَلْعُلْيَا فِي اَلدَّوْلَةِ وَالْحُكُومَةِ لِاِتِّخَاذِهَا دَلِيلاً لِلْمُؤَسَّسَاتِ اَلتَّشْرِيعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالتَّنْفِيذِيَّةِ، وَمُرْشِدًا عِنْدَ وَضْعِ اَلضَّوَابِطِ وَالْأُطُرِ اَلْعَامَّةِ لِشَتَّى اَلْمَجَالَاتِ، وَخَاصَّةً اَلْمُهِمُ منها وَالْأُولَى؛ وَلِهَذَا لَا تُوضَعُ تِلْكَ (اَلسِّيَاسَاتِ) اِرْتِجَالاً، لِأَنَّهَا وَسِيلَةُ تَشْكِيلِ مُجْمَلِ أَنْشِطَةِ اَلدَّوْلَةِ اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ، واَلِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالْبِيئِيَّةِ، وَالتِّجَارِيَّةِ.

إِنَّ (للسِّيَاسَة العَامَّة) أَهْدَافًا وَتَوَجُّهَاتٍ عُمُومِيَّةً طَوِيلَةَ اَلْمَدَى وَقَصِيرَة، وَمَبَادِئَ عَلَى ضَوْئِهَا يُحَدِّدُ اَلْمُشَرِّعُ أَوْ مُتَّخَذٍ اَلْقَرَارِ اَلْمَهَام اَلَّتِي بِهَا تُحَقِّقُ اَلْغَايَاتُ والأهداف اَلْوَطَنِيَّةُ اَلْعَامَّةُ، وَتُلَبَّى حَاجَاتُ اَلْمُجْتَمَعِ وَطُمُوحَاتِ أَفْرَادِهِ. إِنّها تُمَثِّلُ ثَوَابِتَ اَلْمُجْتَمَعِ وَفَلْسَفَتِهِ اَلثَّقَافِيَّةِ وَطُمُوحَاتِهِ أَمَامَ اَلْمُتَغَيِّرَاتِ اَلْمَحَلِّيَّةِ وَالْعَالَمِيَّةِ، دَافِعُهَا وَغَايَاتُهَا تَحْقِيقُ اَلصَّالِحِ اَلْعَامِ.

وَإِذَا تَنَوَّعَتْ صِيَغُ هَذِهِ اَلسِّيَاسَاتِ وَأَشْكَالِهَا فَإِنَّ اَلْغَالِبَ أَنْ تُصَاغَ فِي صُورَةِ قَرَارِ أَوْ مَجْمُوعَةِ قَرَارَاتٍ تَتَحَدَّدُ بِهَا سِمَاتُ اَلْعَمَلِ فِي كُلِّ مَجَالِ مِنْ مَجَالَاتِ اَلْحَيَاةِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَوْ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، وَيُمَيِّزَ تِلْكَ اَلصِّيَغ أَنَّ عِبَارَاتِهَا جَامِعَة مَانِعَة، تَلْتَزِمُ اَلدِّقَّة اَلْقَانُونِيَّة، ليَهْتَدِي بِهَا اَلْمُشَرِّعُ وَالْمُنَفِّذُ عَلَى اَلسَّوَاءِ، بَلْ يَنْبَغِي عَلَيْهِمَا اِتِّبَاعُ تَوْجِيهَاتِهَا تَشْرِيعِيًّا وَتَنْفِيذِيًّا؛ لأنَّهَا أَسَاسُ اَلْخُطَطِ وَالْبَرَامِجِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُنْطَلَقَهَا وَأَرْضِيَّتَهَا.

إِنَّ لِلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ مُسْتَوَيَاتٍ مُتَوَائِمَةً مُتَرَابِطَةً، يُحَدِّدُهَا مَجَالُ اَلْعَمَلِ وَمَرْحَلَتِهِ، فَتَّرَاهَا تَرْجَمَةً لِلسِّيَاسَةِ اَلْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ فِي أَيِّ مَجَالٍ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ اَلْمُؤَسَّسَاتِ جَمِيعَهَا مُلْزِمَةٌ بِهَا.

فِي ضَوْءِ مَا ذَكَرَ آنِفًا، نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أَهَمِّيَّةُ اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ بَلْ وَأَهَمِّيَّةِ اَلْمَهَارَةِ عند صِيَاغَتِهَا؛ لِتَحْقِيقِ اَلتَّنْمِيَةِ بِكَافَّةِ مَجَالَاتِهَا، وَلِذَا تَسْتَعِينُ اَلْمُؤَسَّسَاتُ اَلْوَطَنِيَّةُ -وقتَ الصِّياغةِ- بِأَهْلِ اَلِاخْتِصَاصِ.

ومِنْ يَطَّلِعُ عَلَى أَدَبِيَّاتِ رُؤْيَة 2030، وَيَرَى اَلنَّجَاحَاتِ اَلَّتِي تُحَقِّقُهَا، سَيُدْرِكُ اَلْمَجْهُودُ اَلضَّخْمُ اَلْمَبْذُولُ فِي صِيَاغَتِهَا، خَاصَّةً عُنْصُرَ (اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ)، وَيعلَمَ أَنَّ اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةَ اَلْفَرْعِيَّةَ مُهِمَّةٌ وَمِنْ اَلضَّرُورِيِّ صِيَاغَتُهَا فِي اَلْمَجَالَاتِ اَلْأَسَاسِيَّةِ، ثُمَّ يُدْرِكُ قِيمَةَ اَلِاسْتِمْرَارِ فِي اَلْمُرَاجَعَةِ وَالتَّقْوِيمِ، وَمِنْ ثَمَّ اَلتَّعْدِيلُ وَالتَّطْوِيرُ.

إِنَّ أَوَّل مَا يَخْطُرُ عَلَى اَلذِّهْنِ، وَيَرَاهُ اَلْمَرْءُ مُهِمًّا وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، هُوَ اَلسِّيَاسَاتُ اَلْعَامَّةُ فِي مَجَالِ اَلتَّعْلِيمِ، لأهميتها ولِجَلَالَةِ قَدْرهَا ضِمْنَ مَنْظُومَةِ اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ لِأَيِّ دَوْلَةٍ، بَلْ لِأَيّ مُجْتَمَعٍ، لِتَأْثِيرِهَا اَلْمُبَاشِرِ عَلَى اَلتَّنْمِيَةِ فِي اَلْمَجَالَاتِ اَلِاقْتِصَادِيَّةِ أَوْ اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ جَمِيعُهَا دُونَ اِسْتِثْنَاءٍ، بَلْ يَمْتَدُّ أَثَرُهَا إِلَى اَلْأَمْنِ اَلْوَطَنِيِّ وَمَنْظُومَةِ اَلْقِيَمِ وَالسِّلْمِ اَلِاجْتِمَاعِيّ؛ فَالتَّعْلِيمِ وَسِيلَةُ اَلْمُجْتَمَعِ اَلْأُولَى وَيَدُهُ اَلْفَاعِلَةُ حِينَ يَسْعَى لِتَحْسِينِ أَوْضَاعِ أَفْرَادِهِ وَظِيفِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا وَاسْتِثْمَارِيًّا، ويَعُدْ عِلْمُ اَلسِّيَاسَةِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ مِنْ أَهَمِّ عُلُومِ اَلتَّرْبِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ؛ لِارْتِبَاطِهِ اَلْوَثِيقِ بِفُرُوعِ اَلسِّيَاسَةِ اَلْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ جَمِيعَهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةَ لِلدَّوْلَةِ ذَاتِ أَثَرٍ قَوِيٍّ فِي صِيَاغَةِ اَلنُّظُمِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَتَحْدِيدِ أَهْدَافِهَا، وَفِيهَا تَعْرِيفٌ وَاضِحٌ لِلْأَهْدَافِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَتَرْجَمَةُ هَذِهِ اَلْأَهْدَافِ إِلَى مَعَايِيرَ وَمِحَكَّاتِ عَقْلَانِيَّةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مَنْظُومَةٍ مِنْ اَلْآلِيَّاتِ وَمُؤَشِّرَاتِ اَلْقِيَاسِ، لِأَجَلِ تَحْسِينِ اَلتَّعْلِيمِ.

إِنَّ (السِّيَاسَة العَامَّة) تُجَسِّدُ تَوَجُّه اَلدَّوْلَةِ اَلْعَام، وَتُوَضِّحَ اَلْأَهْدَافُ اَلِاجْتِمَاعِيَّةُ لِلنِّظَامِ اَلتَّعْلِيمِيِّ، وَهِيَ بِمَثَابَةِ اَلْمُوَجَّهِ اَلرَّئِيسِ لِلْإِسْتِرَاتِيجِيَّاتِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ. مِنْ هَذَا اَلْمُنْطَلَقِ فَإِنَّ اَلسِّيَاسَةَ اَلتَّعْلِيمِيَّةَ تَعْنِي اِخْتِيَارَ اَلْأَهْدَافِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ اَلْعَامَّةِ وَتَحْدِيدِهَا تَحْدِيدًا مَوْضُوعِيًّا لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِارْتِجَالِ أَوْ اَلْعَوَاطِفِ وَالْأَهْوَاءِ.

إِنَّ اَلتَّعْلِيمَ مَنْظُومَةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ ضَخْمَةٌ مُعَقَّدَةٌ حَيَوِيَّةٌ دَائِمَةُ اَلتَّوَسُّعِ وَالِارْتِقَاءِ، تَتَمَثَّلَ فِي اَلْمُؤَسَّسَاتِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَالْمَنَاهِجِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَغَيْرِهَا مِنْ عَنَاصِرِ اَلْبِيئَةِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَمَا يُحِيطُ بِهَا، وَيُعَدَّ اَلتَّعْلِيمُ اَلْوَسِيلَةَ اَلنِّظَامِيَّةَ وَالتَّشْرِيعِيَّةَ لِبِنَاءِ اَلْمُجْتَمَعَاتِ طَبَقِيًّا، لا يُقَاسَ نَجَاحُها إلا بِمُؤَشِّرَاتِ مَرْكَبَةٍ، ذَاتَ اِرْتِبَاطٍ مُبَاشِرٍ بِمَنْظُومَةِ اِحْتِيَاجَاتِ اَلْوَطَنِ فِي مَجَالِ اَلسِّلْمِ اَلِاجْتِمَاعِيِّ اَلْمُتَمَثِّلِ فِي وَطَنِيَّةٍ اَلْمُوَاطِنِ وَانْتِمَائِهِ، وَبِالْعَمَلِيَّةِ اَلْإِنْتَاجِيَّةِ وَالتَّنَاغُمِ اَلْوَطَنِيِّ اَلْمُتَمَثِّلِ فِي اَلْكَفَاءَةِ وَحِيَازَةِ اَلْمَهَارَاتِ اَلْأَسَاسِيَّةِ وَالْمُتَخَصِّصَةِ اَلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ سَوَاء عَنْ طَرِيقِ اَلتَّعْلِيمِ اَلْمُبَاشِرِ أَوْ غَيْرِ اَلْمُبَاشِرِ، وَتِلْكَ اَلْمَنْظُومَةُ مِنْ مُؤَشِّرَاتِ اَلنَّجَاحِ مُرْتَبِطَةً بِاحْتِيَاجَاتِ اَلْوَطَنِ فِي مُسْتَوَيَاتِ اَلتَّنْمِيَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ كَافَّةً.

إنَّ اَلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةَ فِي مَجَالِ اَلتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَتَوَاءَمَ مع السِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ اَلْعُلْيَا وَالسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ فِي مَجَالَاتِ اَلْعَمَلِ اَلْوَطَنِيِّ جَمِيعَهَا وَبِمُسْتَوَيَاتِهَا كَافَّة؛ لِأَنَّ اَلتَّعْلِيمَ أَقْرَبُ اَلْوَسَائِلِ لِتَأْهِيلِ اَلْمُوَاطِنِ وَتَعْزِيزِ اِنْتِمَائِهِ اَلْوَطَنِيِّ سَوَاء فِي سِيَاقِ اَلثَّوَابِتِ (اَلدِّينُ وَالْمُعْتَقَدُ وَالْقِيَمُ وَالْوَطَنُ...) أَوْ اَلْمُتَغَيِّرَاتِ (اَلْمَهَارَاتُ وَالْقُدُرَاتُ وَالتَّأْهِيلُ...) اَلَّتِي تَرْتَبِطُ بِتَغَيُّرَاتِ حَاجَاتِ اَلْمُجْتَمَعِ وَالتَّحَدِّيَاتِ اَلْعَصْرِيَّةِ وَالظَّوَاهِرِ وَالتَّحَدِّيَاتِ اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّنْمَوِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَفِي هَذَا اَلسِّيَاقِ تَتَبَيَّنُ خُطُورَةُ اَلسُّكُونِ وَعَدَمِ اَلْحَيَوِيَّةِ وقتَ إِعَادَةِ اَلنَّظَرِ اَلدَّائِمَةِ وَالتَّقْيِيمِ اَلْمُسْتَمِرِّ لِلسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ عُمُومًا وَالسِّيَاسَاتِ اَلْعَامَّةِ فِي مَجَالِ اَلتَّعْلِيمِ مِنْ خِلَالِ مَنْظُومَةِ مُؤَشِّرَاتِ اَلْقِيَاسِ وَالنَّجَاحِ؛ لِأَنَّ مَهَامَ اَلسِّيَاسَةِ اَلْعَامَّةِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَغَايَتِهَا لَا تَقْتَصِرُ فَقَطْ عَلَى تَرْسِيخِ اَلْقِيَمِ وَالْهُوِيَّةِ اَلثَّقَافِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، بَلْ تَتَّسِعُ لِإِحْدَاثِ اَلتَّغَيُّرِ اَلْمَطْلُوبِ وَالْمُنَاسِبِ اِجْتِمَاعِيًّا أَوْ اِقْتِصَادِيًّا أَوْ تَنْمَوِيًّا ِتَلْبِيَةً لاِحْتِيَاجَاتِ اَلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، ومِنْ هَذَا اَلْمُنْطَلَقِ تظْهِرُ لَنَا أَهَمِّيَّةٌ -بَلْ أَصْبَحَ مِنْ اَللَّازِمِ- مُرَاجَعَةَ اَلسِّيَاسَةِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ لِلدَّوْلَةِ اَلَّتِي صَدَرَتْ عَامَ 1390هـ، وَرَبْطُهَا بِرُؤْيَةِ اَلدَّوْلَةِ 2030 وَخَاصَّة تِلْكَ اَلْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوَانِبِ اَلتَّنْمَوِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ فِي ظِلِّ اَلْمَفَاهِيمِ اَلسَّابِقَةِ، وَلِكَوْنِهَا تَتَعَامَل مَعَ أَجْيَالِ الغَدِ، وَلِضَمَانِ مُسْتَقْبَلِ أَفْضَلَ لَهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُرَاجَعَةُ اَلسِّيَاسَةِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ:

• مَبْنِيَّةً عَلَى مُسْتَوَيَاتِ ثَلَاثة: اَلدَّوْلَةُ بِجَمِيعِ مُكَوِّنَاتِهَا، وَالْمُجْتَمَعُ بِجَمِيعِ عَنَاصِرِهِ وَشَرَائِحِهِ، وَالْأَفْرَادُ بِجَمِيعِ قُدُرَاتِهِمْ.

• مُلْزِمَةً لِجَمِيعِ اَلْمُؤَسَّسَاتِ اَلتَّعْلِيمِيَّةِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ اَلْمُسَانِدَةِ ذَاتِ اَلْعَلَاقَةِ.

• وَاضِحَةً لَا تُفَرِّطُ فِي اَلْعُمُومِيَّةِ.

• مُسْتَقِرَّةً لَا تَتَأَثَّرُ بِتَغَيُّرِ اَلْأَفْرَادِ اَلتَّنْفِيذِيِّين.

• مَرِنَةً وَمُتَطَوِّرَةً تَتَكَيَّفُ مَعَ ظُرُوفِ اَلدَّوْلَةِ اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ وَحَاجَاتُ اَلْأَفْرَادِ اَلْمُتَجَدِّدَةِ.

• ذَاتَ آلِيَّةِ تَقْيِيمٍ وَتَقْيِيسٍ وَاضِحَةٍ وَمُحَايِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

وَفِي مَقَالٍ قَادِمٍ سَوْفَ أَتَعَرَّضُ لِكُلِّ عُنْصُرٍ مِمَّا سَبَقَ تَفْصِيلِيًّا -إِنْ شَاءَ اَللَّهُ-.
00:08 | 2-05-2024

لماذا تفشل إستراتيجيات إصلاح التعليم ؟

التعليم عامل أساس في تحسين جودة الحياة بشكل عام، ويعد أداة رئيسة لتحقيق الاندماج الكامل في المجتمع، وخاصةً في المجتمعات ذات التنوع الثقافي. ازداد الطلب على التعليم رغبةً بالحصول على تعليم ذي جودة عالية، قادرة على تزويد الطلاب بالمهارات المتقدمة والمعارف المتجددة؛ بالإضافة إلى أن أحد العوامل الرئيسة التي تدفع الحاجة إلى إصلاح التعليم هو سوق العمل المتغير والثورة التقنية المتسارعة وثورة الذكاء الاصطناعي. لذا تسعى كل الدول إلى عمل مشروعات إستراتيجية متوسطة وطويلة المدى، لتطوير أو إصلاح أو تحسين التعليم، ومهما تغيرت الأسماء يظل المطلوب واحدًا، وهو تقديم تعليم وتعلم ذي جودة عالية.

إن المتخصص والمتابع للتقارير التي تصدر عن الحراك التعليمي ومشروعات التطوير والإصلاح للتعليم في كثير من دول العالم منذ خمسينيات القرن الماضي، وخاصةً منذ صدور التقرير الأمريكي (أمةٌ في خطر) في عام 1983 وما بعده من تقارير كثيرة من دول ومنظمات عالمية، يجد أن النسبة الغالبة من الخطط الإستراتيجية لإصلاح التعليم وتطويره لم تنجح في تحقيق أهدافها، على الرغم من الاهتمام الكبير الذي توليه القيادات السياسية لتلك الدول للتعليم، وجعله أولوية، ووضع الموازنات المالية لتنفيذ عملية الإصلاح للتعليم. وفقًا لما ذكره Jimmie Butler2022 ، فإن نحو 60-90% من الخطط الإستراتيجية لم تحقق أهدافها أو لم تطبق وتنفذ بشكل كامل. إن النسبة العالية في عدم تنفيذ الإستراتيجيات، يجعلنا نفهم عدم وجود الالتزام في عملية إدارتها ومتابعتها بشكل دوري. التخطيط الإستراتيجي يتطلب الكثير من الجهد والوقت، لكنه سهل نسبيًّا إذا ما قارناه بعملية تنفيذها بنجاح؛ وكما يقال تتأثر جودة الخطة، ويفقد تنفيذها التركيز بسبب أسلوب إطفاء الحرائق اليومية التي تتبعه المؤسسة، وتضع له الأولوية.

جميعنا متفقون على أهمية تحقيق تعليم نوعي ذي جودة عالية، ومع ذلك فإن تنفيذ إصلاحات التعليم أمر صعب. وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل: لماذا تفشل إستراتيجيات تطوير التعليم وإصلاحه؟

قبل أن نجيب عن السؤال السابق، وهو سؤال في غاية الأهمية، لا بد أن نقرر حقيقة وقاعدة أساسية، وهي أن نتائج إصلاح التعليم وتطويره لا تصبح ملموسة، إلا على المدى الطويل. بمعنى أن الأمر يستغرق سنوات قبل أن تظهر نتائج تطبيق إستراتيجية تطوير وإصلاح التعليم على جميع طلاب المدارس. هذا من جانب ومن جانب آخر، المتابع لتنفيذ الإستراتيجيات يجد أن الاهتمام يذهب إلى نجاح تنفيذ المشروعات بصفة مستقلة عن أهداف الإستراتيجية، وليس نجاح الإستراتيجية بذاتها. كما أن فريق قيادة الإستراتيجية يمضي وقتًا قليلًا في متابعة تنفيذها، حيث بينت دراسة نشرت في مجلة Harvard Business Review، أن 85% من فريق قيادة الإستراتيجية يمضي ساعة في الشهر لمتابعة التنفيذ، كما وجدت الدراسة نفسها أن 5% فقط من الموظفين لديهم معلومات أساسية عن الإستراتيجية. بالنسبة للعديد من المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، الرؤى والإستراتيجيات هي مهمة للتزين بها، ووضعها على الرف، يتم الرجوع إليها في أوقات متباعدة، قد تصل لأكثر من سنة، وليست أداة عملية تحقق أهداف المنظمة ونموها.

إجابةً عن السؤال الرئيس: لماذا تفشل إستراتيجيات تطوير التعليم وإصلاحه؟ يكمن في النقاط التالية:

- تغير الإستراتيجية قبل تطبيقها أو في أثناء تطبيقها بسبب تغير المسؤول الأول.

- ضعف الرقابة على تطبيق الإستراتيجيات من الجهات ذات العلاقة.

- عدم وجود نظام محاسبي ونموذج تقويم الأداء والنتائج.

- المركزية المفرطة واللامركزية المفرطة: حيث إن المركزية غير المفرطة لديها وضوح في تقسيم المهام والمسؤوليات وتوزيعها، ولديها أيضًا ضبط على التمويل وآلية توزيعه. في حين أن اللامركزية المفرطة تجعل من اتخاذ القرار أكثر تعقيدًا وضياعًا للمسؤولية على مستويات التعليم الثلاثة: الوزارة، والمنطقة التعليمية، والمدرسة، مما يجعل مسألة المحاسبية صعبة التطبيق.

- وجود ضعف في تصميم الإستراتيجية مع غياب آلية وخطوات تنفيذ مفصلة وواضحة.

- عدم مراعاة واضعي الخطة الإستراتيجية لقدرة الوزارة على التنفيذ، من حيث نقص الخبرة وضعف امتلاك المهارات والقدرات للكادر البشري الذي يعمل على تنفيذ الإستراتيجية.

- ضعف تسويق الإستراتيجية على أصحاب المصلحة ومنفذيها، منذ بدء العمل عليها.

- بناء الإستراتيجية على تفاصيل كثيرة دون التركيز على القضايا الكبرى.

وبعد، يتبادر هنا تساؤل جذري مهم وهو: ما الحل؟ يكمن الحل قبل بناء الإستراتيجية وتنفيذها، في القيام وضع سياسات عامة ومعايير محددة تحكم عملية بناء الإستراتيجية وآليات تنفيذها. إن الدمج بين السياسات المحددة والإستراتيجية يحقق فعالية عالية تضمن التوافق بين التوجهات العامة والتفاصيل التشغيلية والتنفيذ الملزم. يعد تنفيذ الإستراتيجية من أهم الخطوات وأكثرها طلباً للوقت والجهد؛ ولهذا ومن الناحية العملية فإن إقرار اجتماع متابعة شهري يشمل كافة قيادات الوزارة للإستراتيجية مع تفعيل نظام المحاسبية كفيل بنجاح تنفيذها.
00:10 | 31-03-2024