-A +A
محمد مفتي
لا أعلم إلى متى سيظل الملف الإيراني النووي هاجساً يؤرق دول المنطقة قبل أن يقلق الدول الغربية نفسها، والمتتبع لتاريخ إيران وسلوكياتها منذ الثورة الخمينية وحتى الآن يكاد يلحظ أن إيران لا تتوقف عن مساعيها للتمدد خارج حدودها، غير مبالية بما يتكبده مشروعها هذا من استنزاف لموارد بشرية ضخمة ومن خسائر اقتصادية فادحة دفعت البلاد مراراً لحافة الإفلاس، ولعل الشعب الإيراني هو الطرف الأكثر خسارة في معادلة التوسع الإيراني بسبب معاناة البلاد من حالة انهيار مزمنة.

ولعل أخطر القضايا التي واجهتها دول المنطقة هو سعي إيران الحثيث لامتلاك السلاح النووي، والمتتبع للمنظومة العسكرية الإيرانية يجد أن إيران تسير في خطين متوازيين؛ الأول هو تطويرها للصواريخ الباليستية بعيدة المدى القادرة على حمل الرؤوس النووية، والثاني هو ما يتعلق بالسلاح النووي ذاته، وقد حددت إيران مجموعة من الأهداف في المنطقة لتكون في مرمى سلاحها النووي، وهو أمر بطبيعة الحال لا تقبل به أي دولة حريصة على استقرار أراضيها وأمن شعبها.


لفترة طويلة ظلت السياسة الدولية تجاه الملف النووي الإيراني باهتة بالمعنى الحرفي للكلمة، فمن خلال سياسة الترهيب والترغيب الدولية أجاد النظام الإيراني استغلال الفرص الواحدة تلو الأخرى لمراوغة المجتمع الدولي خلال سعيه لكسب المزيد من الوقت حتى الانتهاء من تحقيق طموحاته العسكرية والنووية، والتي من المؤكد أنها ستكون وبالاً ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط بل وعلى دول العالم الغربي نفسه.

من الملاحظ أن الدول الغربية اعتمدت سياسة العقوبات الاقتصادية لكبح جماح مشروع إيران النووي، وما بين إدانة باهتة وأخرى كانت إيران تغير من استراتيجياتها حتى استقرت على الانخراط في عدد من حروب الوكالة هنا وهناك بديلاً عن المواجهات العسكرية المباشرة، وقد استنتج النظام في طهران أن رد الفعل الدولي لن يتجاوز التهديد وإطلاق التصريحات السياسية الرنانة، وهو ما دفعه مؤخراً إلى الاستهزاء بتلك التصريحات لتيقنه من قدرته على المضي قدماً في مشروعاته دون أن يلقى أي نوعاً من العقاب الرادع.

من المؤكد أن سلاح العقوبات الاقتصادية يعدّ غير فعال وغير مجدٍ في نظر أي نظام مارق لا يبالي قيد أنملة برفاهية شعبه، بل على العكس، يجيد النظام الإيراني استغلال سلاح العقوبات التي تفرضها الدول الغربية ليمعن في إذلال شعبه، كما أنه يُمكِّنه من إطلاق المزيد من الشعارات الثورية البالية المناهضة للغرب ليستميل بها جمهور الشعب الغاضب، كما يساعده في تحقيق أجندته السياسية المتعلقة بالتوسع والتمدد خارج حدود إيران الجغرافية، ولعل المتتبع لمسار المفاوضات الأخيرة في فيينا -الهادفة في الأساس لإحياء مشروع الاتفاق النووي- يدرك جيداً كيف تستغل إيران التناقضات الدولية تجاه هذا الملف لتمييع موقفها وتحقيق مكاسب ميدانية على الأرض.

في الوقت الذي تستميت فيه الدول الغربية -من خلال مفاوضات فيينا- للوصول إلى خارطة اتفاق تضمن من خلاله كبح جماح إيران النووي، يستمر النظام الإيراني من خلال وكلائه وأذرعته العسكرية في الاعتداء على سيادة الكثير من دول الجوار، ومنهم بطبيعة الحال بعض دول الخليج، في بادرة توضح بجلاء عدم اكتراثه بما يجري على طاولة المفاوضات، وبما يبرهن على أن إيران لا تنظر لتلك المفاوضات إلا من خلال منظور أحادي فقط، وهو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها دون أن تقدم أية تنازلات جدية تتضمن إيقافها لأنشطتها المتعلقة بتطوير السلاح النووي، وهو ما دفع الإدارة الصينية مؤخراً لانتقاد الولايات المتحدة في تعاملها مع العقوبات المفروضة على إيران.

المتابع للتصريحات التي يطلقها نظام طهران بتلك المفاوضات يلمس بوضوح عدم اكتراثه بتلك المفاوضات، كما يلحظ بوضوح اعتقاده بعدم جديتها، فاللغة المتعنتة التي يستخدمها المسؤولون الإيرانيون توحي بأن إيران هي سيدة الموقف، وأن الدول الغربية عليها الانصياع لشروطها هي وليس العكس، وهو الموقف الذي يجسد السياسة المتبعة مع تلك الدولة المارقة، والتي تسير عبر مراحل محدودة مسبقة معروفة سلفاً، من استشاطة العالم غضباً من أنشطة إيران العدوانية، ثم تهديدها بالويل والثبور وعظائم الأمور، ثم الاتفاق على التفاوض للوصول لحل وسط يرضي جميع الأطراف، حتى الوصول لمرحلة التخاذل الدولي ثم التعنت والصلف الإيراني.

لا شك لدينا في أن عمليات التفاوض مع الطرف الإيراني ما هي إلا سيناريو متكرر لأحداث متشابهة -إن لم تكن متماثلة- تاريخياً، يطلق خلالها الغرب الكثير من التصريحات الطنانة، يقابلها الطرف الإيراني بالكثير من الوجوم والاستغراب المصطنع، ثم تمر السنين الواحدة تلو الأخرى والنظام الإيراني مستمر في تطوير أنشطته النووية بلا هوادة ودون توقف أو انقطاع، ومع كل جولة مفاوضات جديدة يعزز من مكاسبه ويضيف لبنة جديدة لمشروعه المدمر، وهو يسعى دوماً لكسب الوقت سواء تم ذلك خلال إجراء المفاوضات نفسها أو عند تعثرها أو حتى بعد توقفها، فالمهم بالنسبة له ألا يتوقف مشروعه عن العمل مهما كانت فداحة التكلفة، ومع كل جولة مفاوضات جديدة يتأزم الوضع أكثر فأكثر حتى يبدو وكأنه بلا حل، ومع مرور سنة تليها سنة يبقى الوضع تماماً كما هو عليه!.