ليس من المهارة إيلاء صوت نشاز ينبعث من هنا وهناك كبير اهتمام، طالما الكيان يسير بهدي خطى واثقة، تحقق له ما يصبو إليه، وتنقله من حال قوة إلى أقوى، ومن حضور تقليدي إلى حضور نوعيّ مُشرّف، ومن ثبات إلى ديناميكية، فصوت الحاقد، لا يرحم في كل الأحوال، ومن الكياسة حرق المزيد من أوراقه ومشاعره بمراكمة النجاحات، والاستفادة من بعض الانتقادات التي ربما تكون في محلّها، ومما قاله أبو حيّان الأندلسي: «عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ، فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا، همُ كشفوا لي زلَّتي فَاجتَنَبتُها، وَهُم نافَسُوني فَاكتَسَبت المَعاليا».
ومن الصعب جداً تشخيص أسباب الحقد والحسد، فهناك بواعث غامضة تسكن بعض النفوس البشرية، ومثلما هناك حسد للأفراد، هناك حقد على البلاد، خصوصاً في ظلّ تميّز بلد عن آخر، والأيامُ دُوَل، ومما يُروى عن الشافعي رحمه الله: «كُلُّ العدوات قد تُرجى مودّتُها، إلا عداوة من عاداك عن حسد»، وفي رواية «قد تُرجى إماتتُها»، إذ لا شيء يُرضي الحاسد، إلا زوال النعمة، والنعم من عند الله؛ ولذا يقع الحسود في سوء أدب مع الله كما قال الشاعر: «أيا حاسداً لي على نعمتي، أتدري على من أسأت الأدب؟ أسأتَ على الله في حُكمِه؛ لأنك لمْ ترضَ لي ما وهب: فأخزاك ربّي بأن زادني، وسدّ عليك وجوه الطلب».
والإمام أبو حامد الغزالي عدّ الحسد من أمراض القلوب، التي محفّزها العداوة والبغضاء والكِبر، وخوف فوات مطلب مقصود بسبب منافسة، وحُب الرئاسة والجاه، وخُبث النفس.
ولا أستغرب ما منحته الثورة الرقمية من تمكين لكلّ من هبّ ودبّ، ممن أُوغرت صدورهم بالحقد والضغينة، على بلاد الحرمين، لينفثوا سمومهم عبر وسائل تواصل واتصال بشائعات تفتقد الموضوعية والمصداقية، في ظل غياب المهنيّة، وموت الضمائر، ولعله لا يعلو نعيق النكرات، إلا عندما يحقق وطننا نجاحات تُرسّخ خطواته، وحيثما تعلو راية التوحيد خفّاقة، لا تستغرب من صفيق صفاقة.
ربما غدا واضحاً للمراقب المُنصف أنه عندما تكون فعلاً، يُجنّ جنون من اعتادوا على أن تكون ردّة فعل، ومن يتابع المشهد السعودي، اليوم، لن يخامره شكّ أن السعودية في هذه المرحلة جدّدتْ حضورها وحضارتها على المستويات كافة، وحاديها الثقة بالله تعالى، ثم قدرات رجالات الوطن، الذين اضطلعت بهم المسؤولية، وهم أهل لها دون منازع.
ومن قرأ ورصد مسيرة الدولة سيلحظ أن الحاقدين عليها غالباً هم الذين استفادوا منها مباشرة أو بطرق غير مباشرة، ونعموا بخير مكّنهم من شحذ ألسنتهم الوالغة في مستنقع الضغائن، وما شأنهم إلا شأن القريب الذي تحسن إليه فيجحد ويتنكر، وعلاجه كما قال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، عندما سأله سائل: «يا رسولَ اللهِ إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطَعوني وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لئنْ كان كما تقولُ لكأنَّما تُسِفُّهم المَلُّ، ولا يزالُ معك مِن اللهِ ظهيرٌ ما دُمْتَ على ذلك»، والملّ رماد ساخن.
بالطبع هؤلاء «شرذمةٌ قليلون»، إما أنهم لا يعرفون المملكة، بقيمتها وقامتها، ومواقفها وبسالة رجالها، أو أنهم يعرفون ولا يعترفون، وإما أنهم مُوَجَهُون، ومدفوعون من جهات ناقمة، والمتميز سهل اقتناص مثالبه، باعتبارها نادرة «ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كُلها، كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ».
لن تتغيّر مواقف المملكة من قضايا العرب والمسلمين، ولن تتوقف شراكاتها، ودعمها لدول الإقليم، بسبب حماقة وسفاهة جماعات وأفراد انكشفت أوراقهم، وانتهى الرهان عليهم، ولو كان منهم من يحمل الجنسيّة السعودية، ويُحسبون على البلد، إلا أنهم عملٌ غير صالح، وهم أداة سوء يستثمرهم خونة، ونحن نعلم أنهم ومن سبقهم ومن يلحق بهم لم يزعزعوا الانتماء قدر أنملة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي ردّه إلى الوسوسة»، و«إن كيد الشيطان كان ضعيفاً».
نعلم أن الحقد الدفين ليس وليد اليوم، بل هو تراكمي، وكم كان وسيظل العفو والتجاوز من صفات حكام المملكة «وما قتل الأحرار كالعفو عنهم، ومن أين بالحُرّ الذي يحفظ اليدا، إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا، وقيدت نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً، وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا».
ولو عدنا إلى أزمنة ليست بعيدة عن عدسة الإعلام سنرى أن دعاة القوميّة، ورموز البعثية، وجماعات الإسلام السياسي، لم يروا من المملكة إلا كل خير، رغم كل ما فيهم من شرّ، وحاولوا جاهدين، أن ينالوا من البلد الأمين، إلا أنهم تبخروا وخابت تطلعاتهم وأحلامهم، وظلّ البلد الأمين يحتفل بمنجزاته، ويُسهم بالخير والحُبّ والعطاء، وظلّ الحاقد الحاسد يأكل في نفسه، ولا يفكّر في شيء أكثر من الإساءة، فهو كما قال الشاعر: «أريد حياته ويريد قتلي، عذيرَك من خليلك من مراد، فمن ذا عاذري من ذي سَفاه، يرود بنفسه شر المراد، لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت، ولكن أنت تنفخ في الرماد».