أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/271.jpg&w=220&q=100&f=webp

يحيى الامير

تنظيم الإعلام.. حماية السلم الاجتماعي وإدارة الفوضى

في ما يبدو أنه عالم عصيّ على التنظيم والضبط والإدارة، إلا أن في السعودية تجربة مختلفة ونوعية للغاية في ضبط وإدارة الفضاء الإعلامي الرقمي، الذي ومنذ قرابة عقدين من الزمن وهو يشهد تحولات وانفجارات كبرى عجزت أمامها التنظيمات، أو حدث ذلك التداخل الإشكالي بين ما هو ضبط وتنظيم وبين ما قد يُرى أنه تقييد لحريات الرأي.


منذ منتصف العقد الأول في الألفية الجديدة شهدت المنطقة العربية تحديداً أسوأ تجربة لواقع وأداء وتوظيف الإعلام الرقمي، لقد كان المنصة الأولى للتطرف والإرهاب والآراء المتشددة التي تنشر الكراهية وتقسم المجتمعات وتسعى لتقويض منطق وشخصية الدولة، بل مثلت بعض تلك المنصات دوائر اتصال وتفاعل بين المتطرفين لحشد التأييد وتنظيم الحملات المتطرفة، في واحدة من اسوأ الفترات التي ربما عاشتها المنطقة على الإطلاق.


العام ٢٠١١ كان الإعلام الرقمي أكبر وأهم الأدوات التي استُخدمت للحشد للفوضى والمظاهرات التي عمّت كثيراً من العواصم العربية وما زالت آثارها قائمة إلى اليوم.


مع التحولات الكبرى التي يشهدها الإعلام الرقمي ومع ظهور منصات لم تعد تعتمد على اللغة/الكتابة، بل على الصورة مما وسّع دائرة المستخدمين بشكل جنوني وطاغٍ، (الكتابة تحتاج إلى حد أدنى من الأدوات والفهم، أما الصورة فهي لا تحتاج إلى أية أدوات). عند هذه النقطة حدث التحول الكبير الذي وسع للغاية دائرة المستخدمين ودائرة المستهلكين، وحين تحولت تلك المنصات إلى وسائل اتصال اكتسبت بذلك مكانة أكبر لدى المستخدمين وأصبحت أكثر أهمية في حياتهم، الأمر الذي يجعل المجتمع أكثر تعرضاً ومشاهدة واحتكاكاً بما يُنشر على هذه المنصات.


مشاهير الإعلام الرقمي هم في الواقع ليسوا مؤثرين، والوصف الأنسب أنهم مشاهير ويحظون بمشاهدات عالية، يعود ذلك في ما يتعلق بهم لأسباب وظروف ومصادفات تختلف من شخص لآخر، ويعود ذلك في ما يتعلق بالمجتمع إلى أهمية وحيوية هذه المنصات في حياتهم، وإلى ما يمكن وصفه بظاهرة: الاستهلاك الواسع للمحتوى، الذي يعود إلى سهولة عملية الاستهلاك وتوفرها وعدم احتياجها إلى أية مهارات.


هنا نجد أنفسنا أمام واقع تفاعل اجتماعي بين طرفين مجتمعيين بعيداً عن المؤسسة. وفي ظل الدولة فإنه لا يمكن وجود أي نشاط تفاعلي بين أي أطراف في المجتمع لا تديره مؤسسات الدولة، لأن ذلك مؤدّ بطبيعة الحال إلى خلل وصدام وفوضى. فمن هو المرسل أساساً في تلك المنصات؟ وما قدراته؟ وما مؤهلاته؟ وما محتواه؟ وظيفة مؤسسات الدولة تكمن في ضبط المرسل لا المستقبل (الدولة لا تعاقب مثلاً من يشتري بضاعة مغشوشة، لكنّها بالتأكيد تضبط وتعاقب من عرض وباع تلك البضاعة).


لكن ما الفوضى التي ستحدث من بقاء الإعلام الرقمي والسوشل ميديا بلا إدارة؟ صحيح أن تصوير وإنتاج أي محتوى ونشره في حساب صاحبه على منصات التواصل الاجتماعي هي ممارسة فردية؛ لكنها ممارسة فردية ذات أثر اجتماعي، لأنها غالباً ذات مضمون اجتماعي ومن خلال شخصيات ذات انتماء اجتماعي وتتحرك في الفضاء الاجتماعي ذاته، وبالتالي فنحن أمام منظومة تفاعل اجتماعي متكاملة، يجب على المؤسسة الرسمية هنا أن تتدخل لإدارة هذه المنظومة وتفاعلاتها. (من المستحيل أن تتخيل حركة المرور والسير في الرياض دون إدارة وضبط من المؤسسة الرسمية).


لقد سمحت الأعوام الماضية للهيئة العامة لتنظيم الإعلام أن ترصد وتوثّق بشكل واسع ما الذي يحدث في فضاء الإعلام الرقمي الفردي في السعودية، وفي الواقع أنه يعجّ بالمئات من المشاهير وذوي المحتوى الكثيف الذين يحتوي إنتاج كثير منهم على مضامين وأفكار وسلوكيات وقيم ومعانٍ ضارة ومقيتة ومربكة، وتعكس واقعاً مضطرباً وتثير كثيراً من الامتعاض المجتمعي، وأمثلة ذلك لا يمكن حصرها؛ استخدام الأطفال في الإعلانات التجارية ما يخالف قوانين حماية الطفل، استخدام الآباء وكبار السن في الإعلانات، التباهي بالعاملات المنزليات، استخدام القُصّر كمحتوى، إثارة الجدل الاجتماعي عبر قضايا خلافية، تحويل الأسرة والعلاقات الزوجية والعائلية إلى محتوى، تقديم وبث آراء فردية في قضايا كالحريات والعمل والحجاب، تأجيج النقاش حول قضاياها تجاوزها المجتمع.


هذه مرحلة محورية في مسيرة الإعلام السعودي، إذ تقود الوزارة من خلال الهيئة مشروعاً حضارياً مدنياً لا يتعارض على الإطلاق مع حريات الرأي، ولا مع غيرها من الحقوق العامة المكفولة للجميع، بل هو من حق المجتمع على مؤسسات الدولة أن تدير وتنظم هذا الفضاء، من خلال منظومة تشريعية ورقابية واضحة ومحددة وصارمة، تنشد هدفاً واحداً هو حماية السلم الاجتماعي من أي تشويش عليه من خلال ما يصوره وينتجه الأفراد على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي.


دائماً ما كانت وزارة الإعلام وزارة مؤسسات، تدير وتوجّه الموسسات الإعلامية وفق سياسات وتنظيمات واضحة، بدأت التحديات في كل العالم يوم أن أصبح الإعلام ممارسة فردية، ووقفت كثير من وزارات وأجهزة الإعلام حول العالم غير قادرة على ضبط هذا الفضاء، أو أنها اصطدمت بقوانين وأنظمة أخرى، وهو ما لم يحدث في التجربة السعودية على الإطلاق، إذ تقود وزارة الإعلام من خلال الهيئة العامة لتنظم الإعلام أكبر عملية ضبط ورقابة وإدارة لهذا الفضاء الإلكتروني الشاسع، وبما يصنع فضاء اتصالياً أكثر تحضّراً ومدنية ويوفر حماية أمثل للسلم الاجتماعي والوعي العام.

00:14 | 26-10-2025

إلى بدر بن عبدالمحسن بعد عام من نية الرحيل

وصولاً إلى بابك الأزلي

سأقرأ ما قاله الرمل للشيح وما كتبته الشوارع للعابرين

سأكتب آخر حرف منيت به

وأول ما نقشته العصافير في تمرة الروح

*

مشيتَ وقد مد ليل المدينة ضوءاً بعيداً يخط به المتعبون قصائد مكتوبة بالغياب

وأنت تؤثث أرواحنا بالأماني،

تعلق في ليلنا نجمة للأغاني

تلوع غربتنا كلما لوحت في يديك البلاد

*

ظمأ في الخرائط

حدثنا القيظ كيف انتبهت لروح السراب

وضحى تفتش عن ظلها..

أول الغيم رد السلام على فكرة نبتت في الرمال.

آخر الغيم قال لنا: كيف للمطر الحر أن يستحث الجبال

أنت قلت لنا: كيف للموت أن يستحيل جواباً،

وللشمس أن تستبيح الظلال...

على رسلك الآن، أيها البدوي الذي نال منه الرصيف وليل المدائن

بينما تبتني سدّةً في الغياب..

هل لدى النخل يا سيدي من جواب:

لمن سوف تأوي مشاعرنا وهي تبحث في دفتر الليل عن لغة للبكاء..

لمن سوف تأوي مراجلنا وهي تبحث في دفتر الأرض عن لغة للصهيل وحنجرة للحداء

*

مثلما يبحث الناي عن أصله

مثلما يحزن الماء لكن على رسله

كتبتَ الحنين شغافاً، تنزل جرحاً أنيقاً تعود له الروح مثخنة بالغناء

تنفسها الوجد لكن على مهله

وسمى بها الفجر وحشته في الضياء

*

وقوفاً بها عند ليل المطارات..

المقاعد فارغة والشوارع مكتظة بالحنين

حنين إلى أول النص

حين ابتدأنا معاً لغة كسرنا بها منطق الاحتمال

وعدنا لنقرأ فاتحة للرحيل وخاتمة للبياض.

وليل المرايا استبد بنا واستفاض

ما أرق الرياض:

أعطيتني موعداً أن نهزم الأبدا

وقلت هاك نهاراً طيباً ويدا

ضوء على أول الضوء الذي ينعت

فيه الكناية واخترت المجاز مدى

مسافر يا طويل العمر ما ارتحلت

له المسافات إلاّ أصبحت بلدا

بكيت مثلك من طفل رمى حجراً

فعكر النهر ميعاد الذي وعدا

عالق في الكناية ما بين صوتين؛

صوت قديم يمد المجاز به جرساً للسكوت

وصوت يحاول في لغة حرة لا تموت،

ألم في الهطول

وضوء بلا نية للدخول

تبحث الأبجدية عن منطق للمضارع.. عن سبب للنزول

الأمير الوسيم الذي واعدته القصائد خمسين عاماً وفاتحة للخلود

الأمير الطويل الذي فتن النخل والنهر وامتد فينا نهاراً كثيفاً وليلاً شرود

وحيداً تلا آخر الشعر، ثم انتقى موته، وقرر ألاّ يعود

(لليل أحبك ما بقى في العمر زود).
20:16 | 5-05-2025

مستقبل المنطقة.. آفاق العقد الجديد

انتهى العقد الماضي؛ إحدى أكثر الفترات تعقيدا ودموية وحروبا في المنطقة؛ ورغم نهايته إلا أن آثار ما شهده من أحداث ومشاريع وحروب لا تزال قائمة إلى اليوم.

العقد الماضي والعقود السابقة كانت المشاريع التي تستهدف المنطقة تعتمد أساليب وأدوات مثل إذكاء التطرف والطائفية والصراعات الدينية، وبعث ودعم التطرف ليكون نقطة جذب وتجنيد قابلة للتوظيف في تلك المشاريع، إضافة إلى استغلال الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، واستغلال طموح بعض الكيانات السياسية التي كانت لديها مشاريع توسعية، وأيضاً استغلال هشاشة بعض الأنظمة في المنطقة التي كان ينخرها الفساد والتسلط والظلم.

لكن الواقع اليوم اختلف كثيرا، ثمة تحولات ضخمة في كل شيء، هي التي تؤسس لمستقبل المنطقة في العقد القادم، ومن أبرزها التحولات والتغيرات السياسية التي كانت أساسا جزءا من مواجهة المشروع المدمر في العقد الماضي.

شهدت الأعوام الأخيرة في العقد الماضي ظهور قوى وشخصيات سياسية جديدة ونوعية في المنطقة استطاعت أن تساهم في حفظ الأمن الإقليمي ودعم الدولة الوطنية في مواجهة مشاريع الإرهاب والطائفية والتدخلات الخارجية، بل ومثلت مشروعا مناهضا للفوضى والإرهاب والدمار، ومثلت واقعا جديدا في المنطقة استطاع أن يجنب شعوبها ودولها ويلات لا حصر لها.

اللحظة الحالية في المنطقة تعتبر لحظة مفصلية كبرى، إنها المرحلة التي يمكن أن تؤسس لمستقبل نوعي ومختلف في المنطقة، تراجعت الأزمات الداخلية في الإقليم، وتراجعت بعض الكيانات السياسية عن مشاريعها التوسعية وحضرت لغة جديدة في الوجدان الشرق الأوسطي تعلي من شأن التنمية والمستقبل والبناء والحريات، وسط تراجع لخطاب الشعارات والأيديولوجيات.

هذا أحد أهم المعطيات التي ستؤثر في مستقبل المنطقة، لقد شهد العقد الماضي أسوأ توظيف واستغلال للشارع وتم تحويله إلى قنبلة كبرى، أججت الصراع والفوضى في كثير من عواصم المنطقة. لكن التحولات الكبرى التي شهدها الوعي العام، والسقوط المدوي للشعارات الأيديولوجية وشعارات الثورة والتغيير صنعت جيلا لا يمكن توظيفه في الفوضى والدمار.

ممن الممكن القول إن خطابات الإرهاب والتطرف ودعايتها لن تكون مغرية بعد اليوم، وإن الشريحة الشابة التي كان من الممكن استهدافها للتجنيد والالتحاق بالجماعات المسلحة قد تقلصت بشكل كبير جدا، وحتى إغراؤها بمشاريع التغيير والثورات والفوضى أصبح متعذرا بشكل كبير.

هذا يعني أن اللاعب المهم في مشروع (الربيع العربي) لم يعد موجودا، أو على الأقل لم يعد بتلك الكثرة والتأثير.

التغير الكبير الذي تعيشه البلدان الكبرى في المنطقة والإيقاع السريع واللغة الجديدة نحو التنمية والبناء والمستقبل جعلت من الشارع جزءا منتميا لهذه التوجهات وطامحا لأن يصنع مستقبله وحياته من خلالها، لا من خلال الشعارات والأيديولوجيات التي اتضح له فشلها في كل التجارب السابقة.

في المنطقة اليوم مشروعان؛ مشروع المستقبل والتنمية والبناء والحريات والمدنية الذي تقوده السعودية مع محور الاستقرار في المنطقة، مقابل مشروع غيبي عدمي أيديولوجي لا أفق له، وبينما تعيش بلدان المشروع الأول تحولات وإنجازات يومية على مختلف المستويات، تعيش بلدان المشروع الثاني واقعا أليما جعل منها شعوباً بائسة تعيش معركة الحياة اليومية للحصول على الخبز والوقود والكهرباء، وشعوب هذه البلدان هم الأكثر أملا وتطلعا للحاق بمشروع التنمية والمستقبل.

في ظل تراجع أدوار القوى العظمى في المنطقة، وبعد أن أثبتت تلك القوى فشل مشاريعها وعلى كل الأصعدة وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، فقد حان الوقت للمشاريع القادمة من المنطقة، التي تبني الدولة الوطنية وتصنع الإنسان وتواجه تحديات الإرهاب والتطرف وتنشد المستقبل والحريات والبناء.
00:00 | 17-10-2021

واشنطن.. من أفغانستان إلى العراق.. حروب بلا مشاريع

بعد عام وأكثر ستكون الولايات المتحدة قد أمضت عقدين كاملين منذ دخولها العراق، إنها ذات المدة التي قضاها الأمريكان في أفغانستان ثم خرجوا بعدها ذلك الخروج الدرامي الذي لن يمحى من ذاكرة التاريخ قريبا.

عشرون عاما في أفغانستان وعشرون عاما منذ دخول العراق، دفعت خلالها الولايات المتحدة تريليونات الدولارات وآلاف القتلى من الجيش الأمريكي ومئات آلاف من القتلى وملايين المهجرين سواء في العراق أو في أفغانستان.

تقاسم الرئيسان الديموقراطيان الأسبق باراك أوباما، والحالي جو بايدن مهمة إنهاء هذين المشروعين وتنفيذ الانسحاب وترك تجربة أمريكية مريرة ستظل آثارها إلى حين.

تعريف الهزيمة أو الانتصار في أي من المشروعين أمر لا يمكن قياسه، ذلك أن المحددات غير واضحة، فهي لم تكن حروبا تقليدية تقوم بين قوتين متحاربتين، إنه أول تدخل عسكري وسياسي بهذا الشمول يعرفه العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتهاء حقبة الاستعمار.

ترى ما الذي أودى بواشنطن لهذه النهايات المريعة؟ وما الذي حول العراق إلى دولة متهالكة اقتصاديا وأمنيا رغم كل ما لديها من مقومات؟ ولماذا حدثت تلك النهاية المأساوية للمشروع الأمريكي في أفغانستان؟

يمكن القول إن العامل الأبرز وراء كل ذلك يكمن في أن الأمريكان دخلوا العراق وأفغانستان بمشاريع عسكرية وليست مشاريع حضارية، ولذلك انتصروا عسكريا، وبمجرد أن تراجع الوجود العسكري انهار كل شيء. لم يصنع الأمريكان شيئا حقيقيا سوى العسكرة، انتصار في مختلف الأعمال والمهام القتالية بحكم التقنيات المتطورة والقوة الضاربة، لكن وبالمقابل انهيار وتراجع في كل شيء آخر.

لا يجيد الأمريكان بناء المشاريع الحضارية والثقافية والمدنية، لقد كانت أمامهم فرصة عظيمة في أفغانستان وفرصة أعظم في العراق، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل ما حدث كان على العكس تماما.

انتشر الإرهاب والتطرف في البلدين، وارتفع مستوى الأمية وعدد الأطفال خارج مقاعد الدراسة وانتشرت الأوبئة وتضاعف الفقر وتراجعت الدولة وازدهرت الميليشات المسلحة، كل ذلك صنع أسوأ تجربة للولايات المتحدة في هذين البلدين وساهم في إذكاء الصورة السلبية عن أمريكا، تلك الصورة التي طالما روجت لها الشيوعية والاشتراكية وطالما روجت لها أيضا الجماعات والحركات المتطرفة.

إنه غياب المشروع التنموي في مقابل كثافة المشروع العسكري، التخطيط الحضاري والمشاريع الحضارية أعقد بكثير من الخطط العسكرية والأمنية، إنه العنصر الأخطر الذي أدى إلى تلك النهايات المأساوية لواشنطن في كل من العراق وأفغانستان.

لماذا لم تصنع أمريكا المتحضرة عراقا متحضرا ولا أفغانستانا متحضرا؟ لأن مشروعها العسكري لم يوازه مشروع حضاري تنموي.

كان من المؤثر والمحوري أن تصنع أمريكا مشاريع تركز على التعليم، وبناء الإنسان. عشرون عاما كانت كفيلة ببناء جيل جديد ومختلف للغاية عن الجيل الحالي، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.

التعليم والفنون والتنمية وإعادة بناء الإنسان فكريا ومعرفيا وتعزيز القانون وبناء أنظمة إدارية وتنموية وفق أهداف محددة واضحة، كلها مشاريع كان من شأنها أن تصنع بعد عشرين عاما مشاهد غير تلك التي أعقبت الانسحاب الأمريكي.

كم عدد المدارس والجامعات والمسارح والأندية والمراكز والبعثات التي أقامها الاحتلال في العراق وأفغانستان طيلة العقدين الماضيين؟ ما هي مشاريع التنوير والفكر والحريات وحقوق المرأة والمدنية التي عرفها العراقيون أو الأفغان؟ في الواقع لا شيء.

غياب المشروع التنموي الحضاري أدى إلى تمكين أنظمة فاسدة ذات ولاءات ومصالح متنوعة وخارجية هيمنت على كل شيء، وسمح بالتدخلات الخارجية التي زادت الواقع تعقيدا كما حدث في العراق، وباتت تلك البلدان ساحات حرب بين الولايات المتحدة والجماعات المتطرفة، ونقطة الجذب الأكبر لكل المتطرفين من حول العالم.

انهار المشروع الأمريكي في العراق وأفغانستان لكنه كان عملا عسكريا ولم يكن مشروعا حضاريا، وسيظل مشهد الأفغان وهم يتشبثون بالطائرات العسكرية الأمريكية المغادرة جرحا حضاريا في ذاكرة العالم الذي يظن أنه ودع مشاريع القتل والاحتلال والعنف واستقبل مشاريع الإنسانية والمدنية والتحضر.
00:07 | 3-10-2021

واشنطن.. الحرب على الإرهاب.. الحرب بالإرهاب

يبدو أن بعض دوائر التخطيط وبناء الاستراتيجيات السياسية الأمريكية باتت أقل إبداعا وابتكارا، إنهم ما زالوا يدورون حول الإرهاب والتطرف والأيديولوجيات لاستخدامها كأوراق استخباراتية وأدوات تغيير ومواجهة.

على مدى العقدين الماضيين دارت استراتيجيات ومشاريع التغيير على أكثر من محور، لكن ما يجمع بينها أن الإرهاب والتطرف والعنف كانت الأداة الأبرز في تلك المشاريع، وحتى عندما انهار مشروع التغيير من الداخل الذي انطلق عام ٢٠١١ واستهدف تمكين الإسلام السياسي كانت الحريات وشعارات التغيير والمستقبل وغيرها من العناوين مجرد شعارات ما لبث أن انتهت إلى واقع قاتم ومشروع غير واقعي أسفر عن دمار لا حدود له، ولا تزال المنطقة تدفع ضريبته إلى اليوم.

بمجرد أن شارف ذلك المشروع على الانهيار وبعد سقوط حكم تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، بعدها بفترة وجيزة تم إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

كان ذلك الظهور القوي وذلك الاجتياح لمناطق واسعة في العراق والشام، وما امتلكه التنظيم فجأة من تسليح وقوة وإعلام وعمل استخباراتي ضخم، كان عودة وتلويحا من أرباب مشروع التغيير أن البديل لمشروعهم التغييري المنهار هو العنف والإرهاب والتطرف.

بعد كل تلك الأعوام ومع التحولات الكبرى التي شهدها العالم ومع وصول إدارة أمريكية يسارية إلى البيت الأبيض، يبدو أن استمرار الرهان على هذه الأداة هو الخيار الأول لديهم، وربما لولا الظروف التي فرضتها تحديات جائحة كورونا لكان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيتم وفق سيناريوهات أسوأ.

ظهر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليمثل أضخم تحول في مسيرة الجماعات والحركات الإسلامية في العالم، إنه أشبه ما يكون بتصحيح واستعادة للمشروع المنهار.

وجود هذا الكيان سيمثل مركزا لإدارة واستثمار وتوجيه مختلف المشاريع والتدخلات والأعمال الاستخباراتية؛ انطلاقا من واقع مختلف وقوة جديدة وأرضية هي الأقوى والأكثر ثباتا للتطرف. لقد باتت له دولة، لديها حدودها الجغرافية ولديها علم وعملة ومقاعد في هيئات ومجالس أممية.

هل يتم هنا تصحيح الأخطاء التي ارتبكت إبان تأسيس داعش، ويتم بناء كيان آخر مواز لكيان الدولة الدينية الشيعية في إيران، ومثلما كان النظام الإيراني طيلة العقود الأربعة الماضية هو المهدد الأول للدولة الوطنية في المنطقة والراعي الأول لمختلف الجماعات والميليشيات المتطرفة والمسلحة، فهل سنكون أمام نموذج جديد ومواز في أفغانستان.

هل سيكون الجيل الحالي من طالبان مختلفاً عن جيل ما قبل عقدين من الزمن؟ هل أصبح هذا الجيل سياسيا وقادرا على تبني مشاريع أبعد من تلك التي تبناها الجيل السابق؟

ترى، هل سيكون النظام مختلفا وقادرا على إبطال تلك التوقعات وتقديم سلوك جديد ورؤية جديدة للحكم؟ وتركز على الشأن الداخلي الأفغاني؟

هذه أسئلة تستحق الطرح، ولكن فيما لو حدث ذلك فستكون المواجهات والمعارك داخلية.

والعامل الإيجابي في ما يحدث اليوم هو الشارع، إذ لم يعد التطرف يحظى بأية جاذبية، ولم يعد له أتباع كما كان الحال عليه قبل عقدين من الآن. وبالتالي حين يكون التشدد مهيمنا على شخصية أي نظام فسيمثل ذلك المهدد الأول لاستمراره وتمكنه.

ستظل مشاهد الأفغان الذين يتساقطون من الطائرات الأمريكية، ومشاهد الأمهات يرمين أطفالهن للجنود المغادرين، مشاهد تمثل جرحا حضاريا عميقا ولحظة تثير المشاعر وتعيد بناء صورة أمريكا القديمة التي طالما روجت لها الاشتراكية والجماعات الدينية حول العالم.
00:02 | 29-08-2021

تونس.. الانتصار للدولة وانتهاء مشروع 2011

قبل عقد من الآن كانت المنطقة تعيش أسوأ أيامها، وأكثرها فوضوية وغموضا، الدولة الوطنية تنهار والمؤسسات الوطنية تفقد توازنها وصعود سريع لقوى داخلية مدعومة من الخارج واستيلاء على الشارع وتحويله إلى سلاح قاتل ومدمر. الجماهير التي كانت في الميادين كانت مأخوذة بالشعارات والحماس المدفوع برغبة التغيير دون أفق ودون وعي أيضا.

كانت البداية من تونس، أواخر العام ٢٠١٠ وبدايات العام ٢٠١١، وتحولت سريعا إلى أيقونة للثورة.

النشوة التي اجتاحت الشارع جعلته في حالة من التيه والعمى. أول مرة تكون للشارع هذه السلطة وأول مرة يتم استخدام الجماهير وتوجيهها لتكون الأداة الأكثر تدميرا وفتكا ومواجهة مع الدولة الوطنية.

كانت الأنظمة تعاني حالة من الهشاشة وكانت الجماهير تعاني انسداد الأفق وهيمنة الفساد وانعدام فرص العيش الكريم، لقد مثل ذلك الوقود الفعلي لتوجيه الجماهير نحو الميادين ومواجهة الدولة.

قام ذلك المشروع المدمر على دعم قوى دولية ومثلت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الرافعة السياسية الدولية للمشروع، وتورطت كيانات إقليمية في المنطقة ذات أهداف توسعية غير واقعية في ذلك المشروع ودعمت بالمال والسلاح والإعلام والعمل الاستخباراتي ذلك المشروع، ووجدت فيه الفرصة الكبرى لتحقيق أهدافها ومطامعها التوسعية.

انهار كل ذلك، ولا تزال الكيانات التي تورطت في ذلك المشروع تدفع ثمن ذلك التورط وثمن تلك الأحلام غير الواقعية.

ما لبث أن تشكل محور اعتدال في المنطقة بقيادة السعودية، محور عمل على دعم الدولة الوطنية ومواجهة مشاريع الفوضى وانتصر للدولة والمؤسسات في وجه الجماعات والأحزاب الدينية.

تونس كانت الأولى وكانت الأقل ضررا أمنيا وعسكريا، لقد مثل الإرث المؤسساتي والحداثي التونسي أبرز عوامل حماية المجتمع، ومع ظهور وتمدد قوى وجماعات التطرف والجهاد في تونس إلا أنها لم تستطع أن تكون لها حضورا جماهيريا بفعل الثقافة التونسية النوعية.

تونس التي كانت الأقل تضررا كانت الأبطأ تعافيا. يحدث هذا بسبب قوة المؤسسات والأنظمة الدستورية، لكن الأزمة تحدث حينما تقوم الأحزاب الدينية باستغلال المؤسسات الدستورية وركوب الحراك الديموقراطي للهيمنة على تلك المؤسسات والارتهان للولاءات الخارجية على حساب الدولة كما حدث من حزب النهضة.

على مدى عقد كامل كانت تونس في حالة من عدم الاتزان وسط اضطراب وأزمات واسعة تعصف بالبلاد. ولقد كانت تونس بحاجة كبرى لما يمكن وصفه بـ: فرض الهيمنة المدنية، التي تخلص المؤسسات الديموقراطية والدستورية من حالة الاستغلال التي تتعرض لها من قبل الحركة الدينية المهيمنة. لقد ظلت حركة النهضة الأمل الأخير لمشروع العام ٢٠١١ بعد أن تراجع حلم الإسلام السياسي في المنطقة بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر وقيام ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣.

اليوم لدى تونس مناخ إقليمي داعم وانتصارات تتوالى الدولة الوطنية الحديثة وتحول ضخم في وعي الشارع العربي بعد تجربته القاتلة في مشروع الربيع العربي، وحضور نوعي لمحور الاعتدال والتنمية والمستقبل وظهور نماذج وشخصيات جديدة في الحكم في المنطقة، بالإضافة إلى سياسة الانكفاء الأمريكية نحو الداخل، والأزمات الكبرى التي تعصف بالعالم..

كل هذه العوامل تدعم التحركات والمواقف الأخيرة للرئاسة التونسية التي أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيد في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، والتي مثلت التحرك الأكثر استحقاقا وضرورة لإعادة توجيه البلاد نحو المسار الصحيح والتخلص من آخر مراكز هيمنة الإسلام السياسي في المنطقة. والخروج بالبلاد إلى مرحلة جديدة.
01:18 | 8-08-2021

السعودية.. انتهت السنوات الصعبة

السنوات الست الماضية كانت سنوات أضخم تحول عرفته السعودية منذ التأسيس، ربما وطوال عقودها الماضية لم تشهد البلاد عملية بحجم هذه العملية التحولية الضخمة النوعية، التي صنعت واقعا جديدا وحصلت مواجهات واسعة وحقيقية وفي جبهات متعددة وانتهت بعد كل ذلك متوجة بانتصار حقيقي، واستطاع التحول أن يجد طريقه رغم مختلف التحديات والممانعات التي واجهها.

كانت القيادة تدرك بوضوح حجم تلك الصعوبة وحجم ذلك التحدي وكانت تدرك تماما ضخامة الملفات وحجم المواجهات، ولكنها قررت المضي قدما، لأنها معركة وجود ومستقبل وتنمية وأمن وحفاظ على الدولة والقوة وامتداد لمسيرة التأسيس والبناء.

كان الاستحقاق ضخما وآنيا، تغير كل شيء في الداخل وفي الإقليم وفي العالم، وعصفت بالمنطقة أسوأ الأزمات وأعقدها، وبات الرهان الوحيد على التغيير والإصلاح والتخطيط الواقعي واستيعاب التحديات ومواجهاتها والذهاب إلى المستقبل بكل قوة وعزم.

كانت التحديات تكمن في مستويين: مستوى المواجهة ومستوى المبادرة؛ مواجهة الملفات والقضايا التي كانت تشكل تهديدا فعليا للدولة ولمستقبلها واستقرارها، وبالتوازي إطلاق المبادرات والبرامج التي تعزز قيم الدولة المدنية الحديثة والاقتصاد الحديث..

أكبر المواجهات الداخلية دارت رحاها في أصعب وأعقد ملفين: التشدد والتطرف والفساد.

قبل خمسة أعوام من الآن كان من الصعب تخيل ما هو قائم اليوم، كيف أدارت الدولة المواجهة مع الفساد وانتصرت عليه وحررت التنمية والأجهزة الحكومية والفضاء العام من الفساد، رغم تغوله العميق في مختلف الأجهزة والقطاعات بل وفي الوعي العام.

كانت المواجهة صعبة للغاية، إنها معركة التعقيدات الكبرى، لم تكن مواجهة الفساد مجرد إجراء أو قرار بل كانت معركة صعبة للغاية، لكن الخطر الذي كان يمثله الفساد وحجم التهديد الكامن فيه يستحق تلك المواجهة، لا يمكن ان تصنع تنمية واقتصادا وعدلا وتنوعا ومستقبلا دون مواجهة الفساد وفي كل الطبقات وبكل قوة.

التشدد والتطرف وحالة الإرباك التي كان يعيشها المجتمع نتيجة الصراعات والمعارك والمواجهات بين الحياة العامة والتطرف والتوظيف الاستخباراتي الخارجي لقوى وشخصيات التطرف وتأزيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وبناء الممانعات تجاه كل خطوات التحديث والمستقبل، والضجيج الذي تحدثه أصوات التطرف وتأخير مسار النهضة والتنمية والوقوف ضد الفنون والحريات.. كلها عوامل جعلت من التشدد الديني أحد أكثر العوامل تهديدا للاستقرار والتطور والمدنية والحياة. لقد كان التشدد متجذرا ومدعوما وكارثيا ويمثل خطرا فعليا ومحدقا.

أيضا لا يمكن لأحد أن يتخيل قبل خمسة أعوام من الآن كيف أصبح التشدد من الماضي، وكيف تراجعت كل مظاهره في الحياة، وكيف تحقق الحلم واقعاً مدنياً جديداً وحضوراً واسعاً ونوعياً للفنون والآداب والترفيه والحريات.

كانت التحديات الأكبر تكمن في مواجهة النمط الاقتصادي المهيمن، اقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على مصدر واحد، وأزمات تتوالى نتيجة ذلك وتعقيدات واسعة تهيمن على محاور تنموية كبرى وتنتج أزمات لا تنتهي، وفي ذات الوقت غياب تام لمختلف جوانب القوة الاقتصادية التي يمكن استثمارها وتوجيهها، مصادر ضخمة وثروات واسعة كانت متوارية بسبب هيمنة المصدر الواحد.

التحديات الإقليمية والدولية كانت أيضا معارك كبرى، كان لا بد أن نعلن للعالم أن ثمة تحولاً ضخماً وإعادة تموضع ننطلق فيها من قوتنا وتاريخنا وثقتنا وإمكانياتنا وواقعيتنا أيضا، مواقفنا من كل قضايا العالم والإقليم باتت تنطلق من قيمنا المدنية العولمية الدولية القائمة على الشراكة وتعزيز الحضور الفاعل في العالم.

تلك كانت السنوات الأعقد والأصعب، وهي السنوات التي انتهت واستطعنا تجاوزها بانتصار نوعي وحقيقي وواقعي.

لم تكن المعارك سهلة، وكل التحديات التي شهدتها السعودية طوال السنوات الماضية إنما كانت هجمات ضد هذا التوجه وضد التغيير وممانعة تستهدف إعاقة هذا المشروع العظيم.

كانت السنوات الأكثر صعوبة وتحديا في مسيرة السعودية، لكنها أيضا كانت السنوات التي أثبتت قدرتنا على المواجهة وإعادة اكتشاف الذات والانتصار والتوجه النوعي نحو المستقبل.

نحن اليوم في مجتمع جديد وفي اقتصاد جديد وفي تطلع وطموح جديد بعد أن تجاوزنا أعقد السنوات وانتصرنا في مختلف التحديات.
23:13 | 10-07-2021

السعودية.. من مشروع التأسيس إلى مشروع الرؤية

المحاور الكبرى والمسارات الرئيسية لمعظم مفردات وبرامج الرؤية السعودية تتمحور حول قضايا وملفات وجوانب اقتصادية متنوعة، تدور حول محورين رئيسيين هما: الدخل والإنفاق، وهذان هما المحوران الأساسيان في المعادلات الاقتصادية، وتأخذ أشكالها ومحدداتها من خلال شكل الكيان الذي تتم داخله، اقتصاد الدولة في أشكاله ومحدداته عن اقتصاد الأفراد والجماعات مثلا.

بالتالي، فإن بناء وعي جديد بتلك المعادلة يستلزم إعادة بناء وعي جديد بالكيان، وإعادة تعريفه وبناء صورته ومقوماته وأهدافه وطموحاته وعلاقاته بكل ما حوله. بناء الأهداف الواضحة لكل كيان هو أبرز عوامل تعريف ذلك الكيان، ولأننا في دولة وطنية حديثة فإن إعادة التعريف تقتضي بعث وتفعيل محددات الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على التنمية والاعتدال والتفاعل الإيجابي مع العالم واستثمار كل مكامن القوة وتوجيهها لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى.

إذن.. ثمة عمليات ثقافية معرفية فكرية تسبق تلك العمليات الاقتصادية، وتؤسس لها وتمثل منطلقها ودافعها الأبرز. الكيانات التي توجه مقدراتها الاقتصادية لخدمة أهداف ومشاريع غير واقعية ومشاريع خارج حدودها وأهداف لا تعكس قيم الدولة الوطنية هي كيانات لديها خلل في العملية الفكرية الرؤيوية السابقة للعملية الاقتصادية، ولذلك ورغم مقدراتها الاقتصادية القوية إلا أنها تقبع في فقر وفساد وترد في مختلف جوانب الحياة. ونماذج كثيرة ومتعددة حول العالم تؤكد ذلك.

تاريخيا.. تمثل القيم التأسيسية التي قامت عليها المملكة أبعادا معرفية وفكرية واضحة؛ فكرة التوحيد التي مثلت أساس مشروع الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كانت بعدا معرفيا، فالتوحيد يقتضي مبدأين مركزيين هما: التنوع والمساواة. ويقتضي إحلال المواطنة كمرجعية لتحل محل غيرها من الانتماءات الاجتماعية أو الاثنية أو الجغرافية. إضافة لقيم جديدة متتالية أسست لقيام الدولة وتفردها وقدرتها على مواجهة مختلف التحديات.

ما تمر به المملكة منذ خمسة أعوام يمكن وصفه بأنه أضخم عملية تغيير بعد التأسيس، وأضخم عملية إعادة توجيه نحو المستقبل واستعداد لمواجهة كل تحدياته واستثمار وإعادة اكتشاف لكل مكامن القوة إنسانياً وطبيعياً وحضارياً.

لقد جاءت رؤية المملكة ٢٠٣٠ لتمثل أضخم مشروع تحول بعد التأسيس تعرفه هذه الأرض، إنها اللحظة التي لا تمثل تحولا اقتصاديا أو تنمويا، بل هي اللحظة الفكرية المعرفية القيمية الأكثر عمقا وتأثيرا والأكثر مرونة وحداثة وفي ذات الوقت أكثر أصالة ورسوخا.

تتجلى الرؤية السعودية ٢٠٣٠ في أغلبها في جوانب اقتصادية وتنموية تستند على أبعاد معرفية وفكرية كبرى؛ قيم تنطلق من القيم الكبرى للتأسيس وقيم تنطلق نحو القيم الكبرى للمستقبل.

الاعتدال ومواجهة الأحادية الفكرية وبناء واقع متنوع والتفاعل مع العالم وتعزيز الحريات والإيمان بمحورية الثقافة والفنون في بناء المجتمعات وتعزيز قيم الإبداع والتمايز والاختلاف ومحورية الإنسان واللغة الواعية، كلها قيم ومنطلقات معرفية وفكرية كبرى لا يمكن بدونها صناعة نهضة حقيقية وثابتة.

انطلاقاً من كل ذلك استطاع مشروع الرؤية السعودية ٢٠٣٠ أن يحقق في الأعوام الخمسة الماضية نتائج نوعية ومحورية للغاية كانت في الغالب تحتاج إلى أزمنة أكثر لتحقيقها وقد تصطدم بالعقبات الفكرية التي تحول دون إتمامها كما يجب.

الأهداف والنتائج التي تحققت في الأعوام الخمسة الماضية والأهداف والطموحات التي يمكن تحقيقها في الأعوام القادمة ليست ناتجة عن معادلات اقتصادية وحسابية فقط، إنها مشروع تحول يعتمد المعرفة والفكر والوعي كمنطلقات أساسية وكأدوات محورية في صناعة التغيير.

في اللقاء التلفزيوني الأخير لسمو ولي العهد أعظم دليل على محورية الأفكار والوعي والرؤى المعرفية في تخطيط ورسم الأهداف، وأيضا في تحقيقها.
00:33 | 17-05-2021

حوار ولي العهد (2) قوة السرد ومنطق الدولة

هكذا تتحدث الدولة عن نفسها؛ اللغة الجديدة التي تحدث بها ولي العهد عن السعودية تمثل مصدرا من مصادر الطاقة والقوة، بل يمكن القول إنها أحد عوامل التغيير وأبرز دعائمه.

اللغة الواضحة التي تعتمد المعرفة واللغة المنطقية غير المخاتلة، تعكس بشكل جلي وواضح كيف تفكر الدولة وما الذي تهدف إليه وما الذي تعمل عليه. هذه اللغة تتيح للأفراد والمؤسسات والشركاء أن يحددوا مواقعهم وأن يشكلوا أدوارهم وفق المسارات الواضحة التي تنتجها تلك اللغة.

الطريقة التي تتحدث بها الدولة عن نفسها والقاموس الذي تستخدمه لم يعد مجرد أداء إخباري إعلامي، بل بات عنصرا محوريا في عملية البناء والقوة والصعود، إنها القوة القادمة من المعنى والمعنى القادم من المنطلقات الواضحة والسليمة التي لا تحمل مراوغة ولا تتبنى أكثر من مستوى في الخطاب ولا تتحدث بلغتين مختلفتين. إن مثل هذه الممارسات من شأنها أن تعزز صورة ضبابية ومخاتلة الكيانات السياسية وتجعلها أكثر قابلية للدخول في مواجهات مستمرة ومع أطراف متنوعة.

منذ بدايات ظهوره الأول في مختلف وسائل الاعلام يمكن القول إن ولي العهد السعودي قد صنع وجهة جديدة في ما يمكن تسميته بـ: لغة الدولة، وأدواتها وقاموسها ومهاراتها. ومن متابعة واستقراء تلك اللغة التي دشنها ولي العهد في منطق الدولة يمكن القول إنها تعتمد ما تسميه الدكتورة مانجاري شاترجي ميللر في كتابها الجديد والمثير للجدل، «لماذا تصعد الأمم: السرديات والطريق إلى القوة العظمى» (Why Nations Rise: Narratives and the Path to Great Power).. ما تسميه بـ (قوة السرد) إذ ترى أن بعض الدول أعادت صياغة تعريفها لذاتها وأعادت بناء لغتها عنها وأعادت طريقة تقديم نفسها لنفسها وللداخل وللعالم، وأسست لتعبيرات جديدة واستحضرت عناصر قوة في بناء خطابها ولغتها وكشفت عن المبررات الكبرى لكونها تستحق أن تكون دولة عظمى.

(انظر مقال عبدالرحمن الحبيب، صحيفة الجزيرة: السرديات تمهد طريق الأمم إلى القوة العظمى ١٩/٤/٢٠٢١)

بالعودة إلى اللحظات المفصلية ومراحل التحولات الكبرى في الدول العظمى سنجد أنها غالبا ما بدأت من خلال لغة جديدة تجسد وعيا جديدا وسرديات جديدة عن الذات والطموح ومكامن القوة والقدرات العالية والمقومات التي تهيئ لها أن تكون دولا عظمى.

الولايات المتحدة واليابان والصين وغيرها من الدول التي باتت دولا عظمى وقوى اقتصادية ضاربة، كلها كيانات لديها قاموسها ولغتها وسرديتها الخاصة عن نفسها، ومثلت تلك اللغة رافعة اعتمدت عليها تلك البلدان في الخروج من الأزمات والتعامل مع المراحل الجديدة وتدشين وإطلاق التحولات الكبرى.

إن قضية القوة لا تكمن في المقدرات الاقتصادية أو المواقع الجغرافية أو الثروات الطبيعية، فالكثير من بلدان العالم تزخر بثروات نفطية وطبيعية لا حدود لها، ولكنها تعيش واقعا اقتصاديا مترديا، ويهيمن فيها الفقر والفساد والتخلف، لكن التحدي يكمن في إدارة واكتشاف ومعرفة عناصر القوة، وذلك لا يتم إلا من خلال بناء آلية تفكير ذات لغة واضحة وجريئة تجسد قوة الدافع والحافز المحرك لهذا الاتجاه.

يمكن القول إننا طالما أوجدنا خطابات ولغة لم تكن بذلك المستوى من الوضوح والقوة والبيان، لقد كنا ننتج عدة خطابات وبمستويات متعددة أسهمت في بناء حالة من عدم الوضوح وتنوع المسارات، ومثلت ارباكا في بناء التوجهات المستقبلية؛ خطابات ولغة للاستهلاك الداخلي، وخطابات ولغة لإدارة التوازنات وأخرى للخارج، وغابت سرديتنا الفعلية الواقعية عن أنفسنا.

أسس ولي العهد منذ بدايات حضوره الإعلامي لتلك السردية التي وظفها لتمثل المبرر والدافع الأكبر لطموحنا ولماذا نستحق ذلك الطموح ولماذا نحن الأقدر عليه. بدأت رحلة الأمير -إذا جاز الوصف- بمواجهة السردية المهيمنة التي تمكنت كثيرا من وعينا الجمعي ومثلت أيضا السردية التي تم تصديرها للعالم: البلد النفطي المحافظ.

هذه هي السردية الأبرز التي ظلت تهيمن على صورة هذا الكيان الكبير والثري والمتنوع.

كيف اختلفت تلك السردية تماما وكيف بنينا لغة جديدة ونوعية وكيف باتت تلك اللغة مصدر الهام وعامل اكتشاف قوي للذات وأداة محورية من أدوات نهضتنا ومستقبلنا.

كل أحاديث ولي العهد بدأت بالتركيز على مواجهة تلك السردية المهيمنة، عبر إعلان المشروع والتوجه الأكبر المتمثل في إنهاء الاعتماد الكلي على النفط، وبالتالي الخروج من صورة الدولة ذات القوة الواحدة والمصدر الأحادي إلى الدولة ذات المصادر المتنوعة للقوة والاقتصاد وبعث تلك المصادر وتحويلها واقعا وإحياء الوعي العام تجاهها، قوة في الثروات الطبيعية المتنوعة وفي الموقع الجغرافي وفي المقومات السياحية والثقافية والحضارية.

العنصر الأبرز في تشكيل لغة التفكير الجديدة ضمن مشروع الأمير يتمثل في إعادة تشكيل دور وصورة وفاعلية الإنسان السعودي، الخروج من قالب المواطن المتلقي إلى وضع المواطن الشريك والشخصية النوعية ومركز القدرات النوعية ومكمن القوة الأبرز.

يتحدث اليوم السعوديون عن أنفسهم على أنهم شعب (عظيم وجبار)، وأن هممهم لا تقل شموخا وقوة عن جبال طويق، ويدرك اليوم السعوديون ويدرك العالم أن حجم القوة في هذه الأرض لا حدود له، وأن لدينا من الجدارة والاستحقاق لنكون ضمن دول العالم الأقوى ما ليس لدى غيرنا، وأننا ماضون بكل ثقة وعزم وإصرار ودون أدنى خوف أو تردد.

إنها اللغة الجديدة ومنطق الدولة الجديد، وبناء تعريف الدولة لنفسها وفق ما تستحقه وما تتطلع إليه.
00:03 | 9-05-2021

حوار ولي العهد (١).. فقه الدولة والاعتدال

لعلها المرة الأولى التي يتناول فيها زعيم عربي أحد أخطر وأهم محاور بناء الذهنية الإسلامية؛ والمتمثلة في علاقة التشريع بالنصوص والتمايز بين تلك النصوص وما شهدته الثقافة الإسلامية من طغيان لنصوص النقل المجرد والبشري على النص الأساسي المقدس العظيم الذي يمثله القرآن الكريم، وما تشهده تلك النصوص والمرويات من تفاوت في قوتها واتصال سندها، ناهيك عن مضمون بعضها الذي قد يحمل مخالفة واضحة وصريحة لنصوص في القرآن الكريم.

يمكن بكل وضوح إعادة الأزمة المعرفية والحضارية التي شهدتها كثير من فترات التاريخ العربي الإسلامي إلى هيمنة النصوص البشرية وظهور مذاهب الاتباع وطغيان النقل وهيمنة الرواية التي لا يمكن وضع حدود لها وتقديس الأفراد والمذاهب.

إن التمذهب والحدة في الصراعات الطائفية والفكرية وظهور التشدد في تجليات مختلفة وهيمنة تلك المرويات حتى على قراءة وتفسير النص القرآني كلها عوامل خلقت أزمة كبرى في التاريخ العربي الإسلامي، وأوجدت مستويات من الخطاب يسودها كثير من التنافر والصراع والمواجهات، وهيمن التقليد والاتباع وأدى إلى خلق أجيال تختلف أزمنتها بينما لا تختلف ولا تتطور مواقفها ولا معارفها.

ولقد استندت الجماعات الإسلامية الحركية على ذلك المدون وجعلت منه مرجعا أساسيا لمختلف أدبياتها وخطاباتها. وفي المقابل لم تشهد التجارب السياسية العربية موقفا واعيا ومتحضرا يعيد بناء العلاقة بين الدولة وبين مقوماتها وإرثها الديني.

طالما أحجمت الخطابات السياسية عن اتخاذ موقف ديني حضاري معتدل رشيد، وطالما ظل الخطاب السياسي العربي في حالة من المراوغة أو اللا وضوح في تعامله مع الأفكار والقيم الدينية، بل كانت الكثير من المواقف السياسية تأخذ في عين الاعتبار مواقف الجماعات الإسلامية الحركية التي كانت ذات حضور قوي ومؤثر في مختلف دول المنطقة وذات علاقات متذبذبة مع الساسة.

الكثير من التجارب السياسية العربية كانت تحمل أهدافاً وأطماعاً ومخاوف وتحديات جعلتها تحول المسألة الدينية إلى أداة في إدارة الصراعات والتجاذبات السياسية، معتمدة في ذلك على مخزون تراثي ضخم من المرويات والآثار القابلة للتوظيف في كل اتجاه.

الدولة المدنية هي دولة التعدد والتنوع، وبالتالي فإن الارتهان إلى توجه واحد أو مدرسة فقهية واحدة من شأنه بالضرورة أن يخلق صراعاً ينعكس على هوية الكيان ويسهم في تراجع القيم الوطنية ويجعل لكل فريق في المجتمع تعريفه الخاص بالمكاسب والانتماء والولاء.

الدول التي وجدت طريقها نحو المستقبل هي تلك التي باتت تمتلك رؤية واضحة في فهمها واستيعابها للتدين بصفته باعثاً ومحفزاً على التنوع والبناء والتعايش والتحضر وعمارة الأرض. هذا المنطق الواعي هو الذي رسم أبرز خطوط حياتنا طيلة الأعوام الخمسة الماضية، وهو الذي يمثل أحد أهم العوامل التي ساعدتنا على تحقيق المرحلة الأولى من مشروع رؤية السعودية 2030.

من الواضح أن الرؤية لم تكن مجرد خطة اقتصادية، أولاً لأنه يستحيل بناء خطط اقتصادية نوعية ما لم تتكئ على قيم فكرية واضحة تتجاوز مختلف التعقيدات والإشكالات وتخرج من التوجهات الأحادية إلى التنوع والاجتهاد والإيمان بالتطور والاختلاف.

ولأن الفتوى التي يفترض أنها ناتج لعملية معرفية محددة، مهما كانت بسيطة، فمن المؤكد أن أدوات تلك العملية المعرفية قد اختلفت وتطورت مع تطور الزمن، تماماً كما تطورت بقية الأدوات في مختلف جوانب المعرفة.

لقد مثل هذا الجانب أبرز وأهم المحاور التي حملها لقاء سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بل وأكثرها تفسيراً لتلك الخطوات الواثقة في كل برامج ومشروعات الرؤية، إنها خطوات تستند إلى موقف معرفي واضح يؤمن بالتطور والتنوع ويرفض التقليد والاتباع الأعمى، ويدرك أن قيم الإسلام العالمية المتحضرة هي قيم الدولة الوطنية المدنية التي تعلي من شان التنوع والبناء وعمارة الأرض.

إن من أفضل الأجزاء التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق من لقاء سمو ولي العهد، هذا الجزء:

«الشيخ محمد بن عبدالوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا للاجتهاد ونؤلهه أو نضخمه لعارض هذا الشيء، فلا توجد مدرسة ثابتة ولا يوجد شخص ثابت.

‏القرآن والاجتهاد مستمران فيه وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاجتهاد مستمران فيه وكل فتاوى حسب كل زمان ومكان وكل فهم».
00:44 | 2-05-2021