أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1704.jpg&w=220&q=100&f=webp

أوس الحربش

أطفالنا.. لسان الحال وحال اللسان

حتى لا يتهم هذا المقال بالتشاؤمية على الأثر، أقول أولاً بعدم ظني أن لغتنا العربية بخطر محدق وإنما هي في أول مراحل الهوان. تتبوأ العربية المرتبة الخامسة في عدد المتحدثين عالمياً وليست على قائمة نصف لغات العالم المتوقع اندثارها مع أفول قرننا الزمني هذا حسب اليونيسكو. يعود الفضل في هذا لكنز اسمه التراث العربي يحوي القرآن الكريم والشعر العربي في باكورته ثم أمهات الكتب والعلوم نتاج التدوين بالعربية بعد الفتوحات بأمر الخليفة عبدالملك بن مروان أكرم الله صنعه. أما الهوان الذي أصاب لغة الضاد، وهو محور الاهتمام هنا، فهو من صنع الإنسان العربي المعاصر. يقول ديفيد كريستال في كتابه «موت اللغة» إن اللغة لا تموت في الغالب لموت ناطقيها بل لاتخاذهم موقفاً سلبياً من لغتهم وخضوعهم للغة حضارة سائدة في زمنها. يرى كريستال أن الحل لمنع ذلك -بعد جمع الإحصائيات وفهم الأرقام- يتمركز حول خلق علاقة إيجابية بين الإنسان ولغته قوامها الاعتزاز باللغة واستيعاب منابع قوتها، أو ما يدعوه كريستال «بريستيج اللغة». هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه دون إقحام اللغة والزج بها بكثافة في المناهج الدراسية والمعاملات الحكومية وحتى في التكنولوجيا الرقمية والألعاب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي حسب القدرة. السبب في ذلك هو أن الاعتزاز باللغة وتلمس بريستيجها لا يمكن زرعه قهراً وإنما يأتي طوعاً بعد تشرب اللغة والتقرب منها. بمعنى آخر، يمكن وصف المرحلة الأولى لهوان اللغة ثم موتها البطيء بموقف أطفالها منها وظنهم السيئ بها أنها لغة مقيدة وغير فعالة. وهذا موقف أظنه بدأ يتشكّل لدى الطفل العربي دون محاولات جادة لمنعه.

هنا وقت تعريج على حال أطفالنا في المملكة العربية السعودية وفهم موقفهم من لغتهم. أظن استيعاب الموقف مشوشاً بعوامل متضاربة منها اختلاف عينة التعليم الخاص عن العام، والمادة العلمية عن الأدبية، واللغة المكتوبة عن المتحدثة، والورقية عن الرقمية، وحتى اللغة الدارجة عن الفصحى. الموضوع شائك ويحتاج إلى لجان متخصصة لفهمه، والفهم بداية العمل على إنعاش اللغة ومنع موتها البطيء. الدراسات والأرقام في هذا المجال شحيحة رغم أهميتها، لكن استطلاعاً حديثاً من جامعة الملك سعود على عينة أطفال من مدارس خاصة بالرياض سلّط الضوء على أرقام مخيفة. وجد الاستطلاع أن ربع الأطفال لا يتكلمون سوى الإنجليزية في كل مناحي الحياة، وربعاً آخر يفضل الإنجليزية، وربعاً يستطيع التنقل بين اللغتين، وربعاً أخيراً يفضل أو لا يتكلم سوى بالعربية. خلصت الدراسة إلى أننا نعيش بداية منحى تغير في لسان أطفالنا.

إحياء اللغة بعد موتها طريق وعر، لكن إبقاءها حية ومتماسكة حتى يتغير حال الحضارات المتقلب ممكن وسهل. لا يذكر التاريخ على المثال الأول سوى إحياء العبرية في القرنين الماضيين بعد اندثارها الكامل وبعض لغات السكان الأصليين لأمريكا الجنوبية. أما تمكين اللغة الوطنية فنراه حاضراً بشكل قوي في الصين وفرنسا ودول كثيرة. حتى الدول الأقل شأناً تنبهت للمشكلة، فقامت الفلبين على سبيل المثال بإنشاء برنامج اللغات الأم أساساً في التعليم الابتدائي «Mother Tongue-Based Multilingual Education» لتعزيز لغاتها القومية الأصلية. يرى بعض الباحثين أن العربية كبيرة وغزيرة على الاندثار، ولكنها قد تتفكك وتعوج ببطء كاللاتينية إلى لغات مختلفة، وهذا شأن لا يقل خطورة عن الاندثار الكامل.

الموضوع خطير ويتطلب منا الآتي:

عمل دراسات استقصائية جادة وفهم المشكلة فهماً صحيحاً مدعوماً بالأرقام ثم مناولته للعلاج من لجان ذوي الشأن والتخصص.

حملات توعية ضخمة للأسر السعودية في وجوب التحدث للطفل بالعربية دون غيرها.

زج اللغة العربية بقوة في المناهج الدراسية والمعاملات الحكومية والتكنولوجيا الرقمية.

مراجعة منح الامتيازات الوظيفية لمتحدثي الإنجليزية، خصوصاً من لا يجيد العربية معها أو من لا تقتضي وظيفته التحدث بالإنجليزية على أية حال.

تعزيز دعم المؤسسات المنوطة بدعم اللغة العربية كمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، والفعاليات المعنية كاليوم العالمي للغة العربية.

إن لم يدق ناقوس الخطر الآن، قد نفاجأ بأن الوقت تأخر لقرعه وأن الخرق أضحى واسعاً على الراقع. فلا هوية دون لغة، ولا رفعة لأمة أو قيمة لفرد دون هوية.
01:27 | 9-05-2025

إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!

خلال عشر سنوات من العمل في العناية المركزة أدركت ألا فرق جوهرياً يعتري الشعوب في مفهومها للموت، ولكنها تختلف جذرياً في معالجتها له عند وقوعه. يفهم أغلب البشر -رغم تباين الأديان وتفاوت الثقافات- الموت على أنه حالة نهاية لما هو معلوم -لا مناص منها- يستعصي إدراك ما هو غير معلوم بعدها قبل حدوثه، ويتطلب تصور ذلك إيماناً لا يمكن تناوله عقلياً. يُولِّد شعور الحتمية هذا حالة من التقبّل والتسامح مع الموت لدى فئتين هما المستنير والبسيط المُسلّم وحالة من الإرباك والتمسك باللاممكن عند غيرهم. من المفارقات التي أفرزتها الحداثة المستوردة شعور رهاب من التعامل مع الموت نتج عنه إنكار وهروب من حتميته، اختلت بسببه الظروف الطبيعية في تعامل المحتضر مع بيئته وأهله. لم يكن أجدادنا يهلعون من رعاية المحتضر كما الآن، مما يستدعي تدخلاً يرد علاقة الإنسان الحديث مع الموت إلى نصابها. ما زلت أذكر شيخاً رزيناً -في سنوات التدريب- طلب الاختلاء بعائلته وإطفاء كل المنغصات الطبية من أجراس وأنوار وأجهزة وفحوصات، ليستذكر معهم لحظات البهجة في حياته الثرية ويستحضر قيمة كل منهم ويذكرهم باكتفائه وزهده بوافر أيام يكون فيها واهن الجسد والهمة. كان في تعاطيه الجليل مع الأمر الحتمي مُسكِّناً خفف الفاجعة عليهم وعليه. لم يشأ ذلك الحكيم أن يلفظ أنفاسه الأخيرة والغرباء يتناولون ويتبادلون جسده والإبر تخترق جلده وأجراس المنبهات تصم آذانه في محاولات إنعاش شكلية عبثية الجدوى.

يرجع مفهوم العناية المركزة إلى خمسينات القرن المنصرم عندما قام الدنماركي بيورن إيبسن باستحداث منطقة مجهزة للتعامل مع جائحة شلل الأطفال حينها. أدّت جهوده تلك، وبالخصوص استخدام التنفس الصناعي، إلى انخفاض معدل الوفيات من 90 إلى 25 %. أما مفهوم الإنعاش القلبي بنسخته الحديثة فيعود إلى ستينات القرن ذاته. أحدثت هذه الثورات الطبية فارقاً هائلاً في زيادة متوسط عمر الإنسان على سائر أرجاء الأرض، ما زلنا نعيش قطاف ثمارها. في الثمانينات، بدأ العالم الطبي يفيق من نشوته وبدأت تطفو على السطح شوائب أخلاقية كدّرت ماء ممارسات سامية النوايا ابتغت إنعاش الحياة وإطالة أمدها. تبيّن مثلاً أن من بين الحالات التي ينجح الإنعاش بها -وهي تقارب النصف- لا يتمكن إلا جزء يقل عن الثلث من مغادرة المستشفى بسلام، بينما يغرق الباقون بدوامات متتالية من المشاكل الصحية تنتهي إما بوفاتهم أو إعاقتهم. يعود ذلك لكون التوقف القلبي في كثير من الحالات نتيجة نهائية وطبيعية للمرض العضال الذي لن يداويه الإنعاش وسيستمر ينهش بالجسم بعده، بدلاً من كونه حالة عارضة كجلطة أو ما شابه يمكن برؤها بالإنعاش. تبيّن أيضاً أن جزءاً كبيراً من المرضى المنعَشين ينتهي به المطاف في حالة غيبوبة دائمة أو فقد للوظائف تزيد معاناته مع المرض دون طائل. أدّت مثل هذه الظروف إلى بزوغ حالات قضائية شتى في العالم الغربي نتجت عنها قوانين تنظم العمل الطبي عند اقتراب نهاية الحياة.

خطت بلادنا الحبيبة خطوات هائلة في تنظيم العمل الصحي عند اقتراب نهاية الحياة. كان أهم هذه التنظيمات حصر القرار النهائي في وضع أهداف الرعاية الطبية «Goals of Care» باجتماع رأي ثلاثة أطباء مختصين ثقات يتقصون المصلحة الأسمى للمريض بتمحيص وتدقيق. يتميز هذا المسلك بالموضوعية والمنهجية العلمية عند اتخاذ قرار بهذا الحجم. يكون كل ذلك طبعاً في حال فقد المريض القدرة على صنع القرار بذاته. أما في حال وعي المريض، فتكون الجهود منصبة لجعله يستدرك وضعه الصحي بجلاء ويتخذ القرار الأنسب له. رغم الخطوات الهائلة في هذا المجال، ما زال الوعي الشعبي بحاجة للارتقاء والتثقيف لاستيعاب المسألة. من الأمثلة الشائعة على الجهل -مثلاً لا حصراً- محاولة أهل المريض إخفاء مرضه عنه للتخفيف من مصابه. ومنها أيضاً خلط ديني يظن الإنعاش على مجمله أخذاً بالأسباب، رغم فصل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمسألة سالفاً في الفتوى رقم 12086 بجواز ترك الإنعاش -ورفعه حتى- عند انعدام الجدوى أو استعصاء الحالة الطبية حسب رأي الخبراء.

لا شك أن إنعاش الحياة هو درب عظيم في استرجاع العيش الكريم أحياناً، لكنه قد يتحول إلى درب شقاء وإنعاش للموت عند إطالة المعاناة مع المرض في أحيان أخرى. هو سلاح ذو حدين يصعب وزنه لغير المختص. الوفاة الكريمة بطبيعة الحال لا تكون في غرف وردهات المشافي وحول ضوضاء أجهزتها وسطوع أنوارها، بل في المسكن مع الأحباب كما كان في الماضي وعبر التاريخ، مما بات يصعب مع فروض الحياة العصرية والطب الحديث. لكن مقاربته حد الممكن عند التحقق من حتمية الموت بخلق بيئة مشابهة ومسالمة في المستشفى قبل الوفاة والابتعاد عن تدخلات طبية لا طائل منها هو مطلب يزداد إلحاحاً. وفي النهاية أقول: لا يبتغي من عاش حياة كريمة إلا وفاة كريمة. اللهم أطل في عمر من نحبّ وأبعد عنهم المكروه خلال حياتهم وعند حلول أجلهم.
00:16 | 22-11-2024

التنوير والتغريب

لا شك أن دائرتي المصطلحين تتقاطع في مساحة ضخمة بالمنتصف، لكني أزعم أن التفريق بينهما لم يكن ملحًا كما اليوم. ذلك لظنٍ يقارب اليقين بأن الأول مركزي لصعود الأمم والثاني يخلق مجتمعًا هلاميًا يسهل اختراقه وتدميره من الداخل. صحيح أن التنوير مصطلح بدأ استخدامه لوصف حالة غربية تاريخيًا بدأت بعد عصر النهضة وتزامنت مع الثورة العلمية فُصِلت فيها الدولة عن الكنيسة وانطلق فيها الغرب لتحقيق مبادئ سامية مثل القانون والعدالة والحرية والتسامح وفصل السلطات، لكنه يظل مصطلحًا متداولًا يصف الحالة العامة لأمة تعمل على صنع مقومات انطلاقها لفضاء التقدم بشكل عام. أدوات هذه المقومات تكمن في تطوير البنية الفكرية للإنسان تزامنًا مع تعزيز القدرات الاقتصادية للدولة، وثمارها هي ارتقاء الإنسان فردًا وتثبيت اللحمة مجتمعًا. في المجتمع المتنور يكون الفرد فعالًا لكنه غير أناني والمجتمع متماسكًا لكنه غير مُحبِط للفرد. التغريب مصطلح طارئ يرتبط بالتاريخ الاستعماري لأوروبا بشكل كبير. أراد المستعمر الأوروبي ربط حالة التطور بتقليده المحض، ليس فقط بالتفكير والتحليل والطموح بل بالمظهر والسلوك والقيم. كان لذلك أثر تخريبي هائل على مجتمعات وأمم، حمانا الله في هذه الدولة المباركة من أن نكون منها بفضل حكمة قيادتها وتأصل جذور الأجداد في شعبها. بدلًا من استخدام التعليم والتثقيف كما في المشروع التنويري، يجد المراقب كثافة في استخدام الإعلام والفعاليات في المشروع التغريبي. يجد أيضًا أن المشروع التنويري صعب الإحراز طويل الأمد في أهدافه، أما المشروع التغريبي سائغ التحقيق قصير النظر في منجزاته. لا يمكن أن يجلب المشروع التنويري إلا الخير لأصحابه، أما المشروع التغريبي فيستورد الخير والشر سواسية، ثم قد يغلب الشر على الخير دون الانتباه والتمحيص. قد يبدو أخذ الصالح والطالح معًا من حضارة ما واضح العيب، بيد أن سهولة تنفيذه تجعله مشروعًا جذابًا وسريعًا لأي مشروع نهضوي. لكنه درب خطر عسر التصحيح في غياب أدوات التقييم والانتقاء، لذلك يرى الكثير من المنظّرين فضل تجنبه الكامل. سيجلب المشروع التغريبي لأي مجتمع يتبناه مشاكل الغرب متراكبة من استهلاكية وفردانية وشهوانية وانتهازية وإباحية ومثلية. يستند العرب على تراث غني وتاريخ أبي ودين أخلاقي حماهم حتى الآن من هذه الموبقات الناخرة للفرد والمفككة للمجتمع. لكنهم في الوقت ذاته بأمس الحاجة إلى مشروع تنويري مدروس وطويل الأمد يأخذ بأيديهم إلى التطور عبر الارتقاء في تركيبة العقل العلمية والحقوقية والإنتاجية والانضباطية والبيئية.
00:02 | 9-10-2024

المثقف والمفكر والفيلسوف

في زمن الفوضى الفكرية الناتجة عن وسائل التواصل الاجتماعي، اختلت التعريفات وتداخلت الدوائر الوصفية للمثقف والمفكر والفيلسوف، حتى جاوز الحق أهله وأقام الدخيل زيفه. أزعم بأن التراتبية الفكرية كمَثَلِ التراتبية الأكاديمية، يستلزم أن تميز وتحترم -وإن كان بحدود مرنة نسبياًـ وذلك في سبيل تنقيح الفكرة وتأصيل المعلومة وبناء المفهوم حسب المنهاج العلمي، مما يحفظ جسد المجتمع من نخر الخرافات والأساطير والزائف من العلوم (Pseudoscience).

لا يملك المثقف مخزوناً معلوماتياً ضخمًا فحسب، بل يمتلك الانفتاح الفكري والمهارة التحليلية للتمحيص والشك وتقصي الحقيقة مستخدماً الأدوات العلمية في البحث. يقوم المثقف بدور مفصلي في نشر الوعي المعرفي وغرس الفكر النقدي في المجتمع مستخدماً الأدوات المتاحة من كتابة وحوار ومعارض وندوات وغيرها. الخيال هو ما يفصل المفكر عن المثقف، ما يتيح له توسيع المدارك والخروج عن النسق إما إتياناً بالجديد المبتكر أو دحضاً للقديم المستوطن في العقول. إذا كان التحليل مَلَكَة المثقف فإن الابتكار هو مَلَكَة المفكر، وإذا كان الجواب عطاء المثقف فإن السؤال هو عطاء المفكر. يجدد المفكر للمجتمع وعيه ويغير مفاهيمه للسير به في مستقبل مختلف. أما الفيلسوف فهو عملة نادرة تسمو على الحدود الضيقة للمجتمعات والدول وتحتاجها الإنسانية جمعاء. هو ذاك المهموم بمستقبل الأرض ودوائر التاريخ وأسئلة الوجود. هو من له القدرة على الرؤية الشاملة لمسيرة الإنسان وتقلب الأزمان من بعد الفهم العميق لتداخل العلوم وغرائز الأنام، ثم يخط من كل ذلك معالم جديدة للإنسانية تتحدى كل ما سبق من معانٍ للحياة وطرق للعيش والتفاعل البشري. مَلَكَة الفيلسوف هي الحكمة وميزته هي الشمولية. فهو غزير المعرفة كما المثقف وواسع الخيال كما المفكر، بيد أن له القدرة على ربط العلوم ببعضها وإخضاع ذلك لحكمة يمتلكها ثم رسم معالم جديدة في فهم طبيعة الكون والإنسان والحياة. هو مفكر يتعدى ابتكاره حدود التخصصات والعلوم وتسمو همومه عن فروقات البشر.

عدم احترام هذه الدوائر الوصفية يؤدي إلى فوضى فكرية وضوضاء إفتائية تحرّف المعلومة وتلوي الفكرة وتُضيّع الحقيقة. أتمنى ألا يفهم كلامي هذا على أنه دعوة لاحتكار الثقافة ومصادرة المعلومة، بل هو أمل بنسيج ثقافي صحي تقوم فيه آليات لتنقيح الفكر من الشوائب ونشر وسائل الحصول على المعلومة الصحيحة في المجتمع وأهمها زرع العقل النقدي عند الفرد. أغلب من في الفضاء المعلوماتي حالياً هم فئات خارج التعريفات آنفة الذكر، فهناك ناقل المعلومة -وهم كثر- وهناك المدعي والمهرطق وهناك الكيدي والمدبر. يغيب خطر هؤلاء على المجتمع عند فهم طبيعة عملهم وحدود طرحهم ومحدودية نتاجهم. تبيان تلك الحقيقة هو مسؤولية النخبة آنفة الذكر من مثقف ومفكر وفيلسوف، والتي من صميم واجبها الارتقاء المعرفي بالمجتمع وحمايته من زائف العلوم.
00:18 | 4-06-2024

الفشل الغربي الأخير

أظن العلاقة بين الإنسان العربي والمؤسسات الغربية قد وصلت مرحلة الطلاق، فأزمة الثقة بينهما تطورت إلى إيمان راسخ بعدم جدوى التواصل. تختلف الأزمة الحالية في الصراع العربي الصهيوني عن سابقاتها بأنها مفضوحة، لا يملك صُنَّاع القرار في أي طرف مربطاً لطمس حقائقها أو تخفيف وحشيتها عن الرأي العام بسبب تطور التكنولوجيا الرقمية وخروج الإعلام عن سيطرة هذه القوى. لذلك تجد القوى السياسية والمؤسساتية في الغرب والشرق نفسها محاصرة أمام الرأي العام المحلي لتقديم موقف أوضح وأقوى مما كانت مضطرة لتقديمه في الماضي. يُفسِّر هذا ظهور مواقف أكثر جرأة وحدية من الحكومات العربية مع الفلسطينيين من جهة ومن الحكومات والمؤسسات الغربية مع الصهاينة في الجهة المقابلة مما أدى إلى وضوح الرؤية وتبيان الاختلاف ثم إلى احتقان الشارع العربي المكلوم من الغرب بسبب مواقفه العدائية لقضية ظلم تاريخي واضحة وضوح الشمس في نظره. ينقسم هذا الشارع العربي إلى مكون عاطفي وواقعي. يضع المكون العاطفي الغرب كله في سلة واحدة ويُبسِّط أمر عدائيته لكل ما هو عربي إسلامي. لم يجد هذا المكون البسيط مفاجأة ولا جديداً بالموقف الغربي. أما المكون الواقعي فيتمثل بنخب عربية طالما فرقت بين الحكومات الغربية المتأثرة باللوبيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي كانت ترى في قيمها مثالاً يحتذى. الطلاق الأخير الذي أعنيه هو طلاق بين هذا المكون العربي الواقعي وهذه المؤسسات الغربية التي تدعي العدالة والمساواة والتعايش. يقف الواقعي العربي مذهولاً ومنفجعاً من نفاق هذه المؤسسات وانبطاحها أمام سلطة المال والقوة في الأزمة الأخيرة التي ما زلنا نعيش فصولها. لن يكون هذا الطلاق بالضرورة سلبياً إذا ما أحسن المكون العربي الواقعي التعامل مع حقائقه بعد الإفاقة من صدمته. أتمنى أن يعمل هذا المكون العربي على ما هو آت بناء على الواقع الجديد:

الفهم العميق بأن الواقع الجيوسياسي تسيّره المصالح والقوى لا المبادئ والقيم (رغم أهمية الأخيرة في التكوين الداخلي للمجتمعات)، العمل على بناء الذات على كل الأصعدة وتقوية النسيج الداخلي والزهد بالعامل الخارجي، بناء اللوبيات في كيان الدول الغربية ومحاولة التأثير على صناعة قرارها من الداخل، تقوية الأواصر والمصالح المشتركة مع قوى العالم اللاغربي خصوصاً في طور ميل ميزان القوة للشرق الآسيوي، العمل على تأصيل القضايا الوطنية والعربية في وجدان الأجيال الجديدة، تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية بحتة واضحة المعالم والحقوق لا صراع حضارات وأمم.

رغم صبر الواقعي العربي مع هذه المؤسسات الغربية وإعطائها فرصة طويلة للإفصاح عن ذاتها وعما تمثله، أظن موقفها من مجزرة غزة قد دقَّ مسمار النعش ممثلاً الفشل الغربي الأخير بإثبات صدق مكونه الأخلاقي. أنا طبعاً لا أعمم موقف المؤسسات على الإنسان الغربي، فمنهم من وقف وقفة شرف إنسانية عجز حتى العرب عن وقوفها. أخيراً أقول بأن بعض العناصر البنيوية أعلاه قد بدأ العمل عليه بالفعل من بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية وأتمنى من الدول العربية الأخرى السير على نفس النهج.
00:07 | 31-10-2023

الذكاء الاصطناعي شر -أو خير- لا بد منه

ها نحن يزج بنا مجدداً في عصر جديد قد يغير كل ما عهدناه دون إذن منا أو سابق إنذار. تساءلت إن كانت رهبة أصابتني وغيري آنفاً من عصر الذكاء الاصطناعي مجرد ارتياب من المجهول أم خشية واقعية لها ما يبررها. أزعم ولا أجزم أنها اللاحقة بعد قراءة مستفيضة وبحث عميق. اكتشفت بعد تأمل بأن جوهر رهبتي ليس الآلة بل الإنسان. هو قلق يكمن في تطويع القوى الخارقة بيد الإنسان، فنحن منذ الأزل لا نخشى سوى أنفسنا والميول الشريرة التي قد تنفجر إن أتيحت لها الفرصة. لفهم سبب أي شعور، لا بد من التحليل العلمي المجرد من العاطفة لمكامنه وأسبابه. والمتقصي للأسباب في الإعلام الرسمي والشعبي سيجد مشوشات سطحية لا تلمس جذر المسألة. هموم العامة في القضية تتمحور في الآتي:

استعاضة سوق العمل بالآلة بدل الإنسان.

تعطيل الإبداع الإنساني لصالح إبداع الآلة.

هزول الموهبة البشرية وفتور الإحساس الإنساني المترتب على إدمان الآلة.

رغم صدق هذه المكونات، يدرك المتفحص للتاريخ وطبيعة تطور البشر أن بعضها مبالغ بأثره والآخر حتمي وسالف عبر التاريخ. سوق العمل تغيرت في اعتمادها على العنصر البشري من جسدي إلي عقلي وستتحول من اعتماد عقلي إلى إبداعي. نجد في انتقال الزراعة من العامل إلى الحيوان ثم الآلة مثال على أزل التحور هذا. أما بالنسبة للإبداع فلا أخال الآلة تجاري الإبداع الإنساني. الآلة آسنة في ما يتعلق باستحضار الجديد من اللاشيء، أما الإبداع الإنساني فلا يعرف حدوداً ويأتي بالجديد من اللاشيء دوماً. أما في ما يتعلق بالمحور الثالث فإن القدرات الإنسانية تتحور بيولوجياً حسب متطلبات الزمن. الإنسان الحديث لا ريب أبطأ وأضعف من سلفه الذي كان ينافس الضواري على الفرائس ويتسلق الأشجار ليبيت ليلته، غير أنه أذكى وأعمق وأدهى. المستقرئ للتطور البشري يدرك أن إنسان المستقبل سيكون أضعف ذاكرة وحوسبة، لكن أكثر قدرة على التساؤل والإبداع.

نأتي إذن إلى بيت القصيد في خطر الذكاء الاصطناعي. لب المسألة كما أسلفت يكمن في استحواذ فئة على التقنية لتطويع أخرى، وتلك سليقة البشر عبر التاريخ. يمكن للفئة المتفوقة الهيمنة عبر ثلاثة محاور:

آلة الحرب.

آلة التخابر.

آلة الإعلام.

المحور الأول هو استخدام التقنية في آلة الحرب والدمار وصنع الأسلحة الفتاكة. ساذج من يعتقد أن العالم تخطّى هذا الهوس، وأن الإنسان الحالي أضحى مسالماً. قد يكون الفرد العصري أكثر سلماً من سابقه، لكن السياسي العصري وصناع الحرب أكثر لؤماً وشراً. غياب نظرية الردع التناظري القائمة في حالة أسلحة الدمار الشامل هو ما يرهب مع القادم من أسلحة الذكاء الاصطناعي. أخالها تكون أسلحة دقيقة الهدف شديدة الفتك قادرة على إتمام أدق التصفيات العرقية والإبادات الذكية إن طلب منها ذلك دون ترك آثار جانبية مدمرة للمنتصر كما العدو.

القدرات الاستخباراتية الهائلة والتغلغل إلى الخصوصيات والعقول هو شر لا يمكن منعه، بل يرتبط بأصل عمل الذكاء الاصطناعي. محور ذكاء الآلة وميزتها هو التعلم من الخطأ وعدم معاودته عبر لوغاريتمات الخطأ فالتصويب ثم في الذاكرة اللامتناهية المتعطشة للجديد من المعلومات. مصدر التغذية لما سبق ما هو إلا المستخدم وكل ما يتعلق به من صفاته وطباعه المدفونة. لا أبالغ لو قلت إن الآلة ستعرفك أكثر من نفسك، بل ستكون عقلك الباطن. لكن المفارقة هنا أنه بخلاف ما يستتر داخل جمجمتك سيكون هذا العقل ظاهراً. عندما تنتزع من الإنسان آخر معاقل خصوصيته سيغدو إما مسخاً يشبه الآلة ببرودها أو وغداً يتغذى على انحلال من حوله.

احتكار الإعلام وتحوير الحقيقة هي أشد المحاور رعباً. ما زالت الحقيقة حرة عبر التاريخ يمتلك كل إنسان الوصول إليها بطريقته، ما وهبنا أسمى خصائل إنسانيتنا في التساؤل والشك والبحث والاستكشاف. فيما تنقلك مصادر البحث الحالية إلى مراجع وأصول المعلومة، تبقى عملية الاستقصاء والتحليل لك. قد لا يمتلك الذكاء الاصطناعي مصدر الحقيقة فقط بل آلات التشويش على المصادر الأخرى وسحقها. ستملك اللوبيات الأقوى في العالم أشد الأسلحة فتكا في التأثير على الرأي العام وستصبح وسائل التواصل الاجتماعي مجرد لعبة بيد الذكاء الاصطناعي يحركها كما يشتهي أربابه. سيؤدلج النشء كما يريد رب الآلة ولن يعرف طريقة للحصول على الحقيقة من غيرها حتى يفقد منطقه التحليلي والاستدراكي تدريجياً. يخشى الغرب أن الفئة المسيطرة ستؤثر على الناخب حتى يغدو مسيراً لا مخيراً ثم تضمن لها الاستحواذ الدائم على السلطة.

أرجو ألا يفهم مقالي هذا بأنه دعوة إلى التخلي أو التنازل عن الذكاء الاصطناعي، بل أدعو إلى الأخذ به مبكراً وفهم خيره وشره والإلمام بتفاصيله، وما يترتب بعد ذلك من تسخير نفعه ودرء شره لصالح الوطن ومن فيه. فهو أداة جبارة لا مفر منها ستصلح إن صلح أربابها وتفسد إن فسدوا.
00:11 | 2-06-2023