أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1631.jpg&w=220&q=100&f=webp

عبدالله فيصل آل ربح

يبيعوننا الهراء

إن المخاض النهضوي الذي تعيشه المملكة في ظل برنامج التحول الوطني ورؤية 2030 علامة على الانتقال إلى مرحلة تاريخية تشبه تلك التي حصلت مطلع القرن الماضي في عهد الملك المؤسس. وقتها لم يكن التعليم منتشراً في مناطق البلاد، وكان أصحاب الكفاءات محدودين جداً مما استدعى الحاجة إلى الاستعانة بالكفاءات المثقفة من داخل وخارج المملكة للمساهمة في بناء مؤسسات الدولة. وفي ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المملكة لتحديث الدولة، فإن الحاجة للاستعانة بالكفاءات تزداد وبقوة.

في بداية تكوين المملكة، كان بعض المثقفين العرب يراسلون الديوان الملكي ليعرضوا خدماتهم على الملك المؤسس، وقد كان يقبل بعضهم ويرفض الكثير من المتقدمين. ولأن التاريخ يسجل الشخصيات الفاعلة فقط، فقد احتفظ بالأسماء النخبوية مثل: حافظ وهبة، يوسف ياسين، أمين الريحاني، فؤاد حمزة، خالد القرقني، وعبدالله الدملوجي، وغيرهم من المثقفين العرب، إضافة إلى بعض أبناء الأسر السعودية المعروفة أمثال عبدالله السليمان الحمدان وإبراهيم بن معمر ومحمد المانع.

بلا شك فإن العمل في مشروع نهضوي لدولة طموحة يغري أصحاب المطامع المادية لمحاولة إيجاد مكان ضمن رواد التنمية. وباختلاف الزمن تختلف وسائل التسويق للذات. وكما كان في عهد الملك المؤسس من يقوم بغربلة الساحة النخبوية واستبعاد الدخلاء، فإن عهد الرؤية يقوم بذلك بين وقت وآخر. وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أساليب أولئك الدخلاء الذين ينظرون للتحولات الجديدة في المملكة بوصفها فرصة للتمصلح والـ«السبوبة» على حسابنا.

كثير من هؤلاء يبادرون ببناء صداقات مع إعلاميين سعوديين من أجل الحصول على منبر إعلامي مقروء أو مرئي يقومون من خلاله بتسويق خطاب -يعتقدون أننا نريد سماعه- وذلك عن طريق المبالغة في مهاجمة خصوم المملكة وتبني خطاب عنصري ضدهم. وبعضهم يُطْلُ علينا منظّراً في القومية والإسلامية بشكل فيه نوع من الفوقية التي لا يستطيع أن يخفيها. وللأسف، فإنهم غالباً ما يجدون من يستضيفهم ويسوّق لهم بوصفهم خبراء وإعلاميين متميزين.

رغم أن رؤية 2030 تحوي أهدافاً واعدة تتجاوز ضيق التعصب الديني والعرقي، فإن بعض من يحاولون تسويق أنفسهم كأصوات محبة للمملكة يحاولون المزايدة على صاحب القرار وعلى المواطنين من خلال العزف على أوتار بالية مليئة بالكلام الإنشائي العاطفي بعيداً عن العقلانية وأحداث الساعة. أتحدث هنا عن أولئك الذين ينشطون في منابرنا الإعلامية ليل نهار دون أن يقدموا محتوى ذا بال، بل إن أكثرهم لم يجد تقديراً في بلده فيمّم وجهه نحونا ليدخل دخول الفرسان ويُعامل معاملة الأستاذ دونما كفاءة واضحة أو إنجاز ملموس.

مشكلة هذه الأصوات أنها ترسّخ الاتهامات الباطلة التي يرمي بها أعداء المملكة وطننا بكون المملكة تنحو منحىً عنصرياً أيديولوجياً ضد الآخرين. فتجدهم يهاجمون بعض دول الجوار بخطاب طائفي أو عرقي بشكل لا يتبناه صانع القرار مما قد يعطي صورة عن الخطاب الإعلامي السعودي تختلف عن تلك التي رسمتها السياسة الإعلامية للمملكة. هذا النوع من التوجهات الإعلامية يعضّد الاتهامات الصادرة من خصوم المملكة وحلفائهم في الخارج، الذين يستشهدون بنماذج من تلك الأطراف المُستقطبة (أو المرحب بها) وأصدقائهم الذين يقدّمون خطاباً مليئاً بالعنصرية العرقية والطائفية بشكل ممجوج.

هنا يأتي السؤال المهم: ما قيمة أولئك الأشخاص الذين أصبحوا ضيوفاً شبه دائمين على المنصات الإعلامية السعودية؟

يستند بعض هؤلاء على خلفياتهم العائلية في مجتمعاتهم المحلية، التي -بالطبع- لا تعني للمملكة شيئاً. والبعض الآخر يستند على علاقات صداقة بشخصيات لها مكانتها في المشهد السعودي. وبين هذا وذاك لا نجد قيمة مضافة لمشهدنا الإعلامي سوى أشخاص ترفع أصواتها بكلام إنشائي لو خضع للفحص العلمي والمعرفي، سيظهر تواضع مستواه.

إن التحليل الاستراتيجي (السياسي، الاقتصادي، والأمني) يحتاج أدوات معرفية يمكن قياسها من خلال فحص المنتج المكتوب والمرئي للشخص الذي يقدمه، إضافة لخلفيته الأكاديمية والعملية. غالبية الأسماء المعنية بهذا المقال لا تستند إلى خلفية أكاديمية في المجال الذي يتشدقون بتقديم أنفسهم فيه كمحللين، ناهيك عن عدم إثباتهم لجدارتهم في البلاد التي أتوا منها. ولنكن أكثر واقعية، فغالبيتهم ينتهجون نفس النهج الذي سبق وأن انتهجه عناصر جماعة الإخوان المسلمين عندما قدموا لمنطقة الخليج في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وقتها كانوا يزايدون على الخليجيين في مناهضتهم لنظام عبدالناصر المعادي لأنظمة الحكم في منطقة الخليج العربي. اليوم، هؤلاء ينظرون للمملكة (كما ينظرون لبقية دول الخليج) بوصفها مصدراً للدخل الجيد الذي يعوض فشلهم في النجاح في دولهم. الفارق بين الأمس واليوم يتلخّص في أننا اليوم نعيش في المنطقة في ظل قيادة تعي وتعلم من المُخْلِص ومن يريد المتاجرة بالموقف. هؤلاء تجار اليوم لا يختلفون عن تجار الأمس يحاولون بيعنا بضاعة مزايدتهم علينا في مصالحنا الوطنية.

ولنتذكر في هذا الصدد أن هذه الأصوات تظهر على وسائلنا الإعلامية لتتحدث لنا بما نعرف، أو تقدم لنا تحليلات لا تستند إلى أسس معرفية تفيدنا؛ وعليه فلنتساءل: ما الفائدة التي نجنيها منهم؟

لا شك أن المملكة ترحب بأصحاب الكفاءات الذين يضيفون لنا معرفياً، وبالطبع فإن الفئة المعنية ليست منهم. لذلك أسجل أمنية حقّة بتنقية إعلامنا الوطني من هؤلاء واستقطاب من يثرون مشهدنا الثقافي والإعلامي من أبناء وطننا وأشقائنا العرب إضافة إلى الكفاءات الأخرى. تماماً كما نفعل اليوم في مجال كرة القدم من استقطاب اللاعبين الذين يرفعون مستوى الدوري السعودي، فإن قطاعي الإعلام والبحث الاستراتيجي يحتاجان سياسة مشابهة، ووطننا يستحق ذلك وهو أهل لها.
00:02 | 20-10-2023

لتزدهر جامعتنا الناشئة

لمدة طويلة من الزمن، لم يكن عدد الجامعات السعودية يتعدى السبع جامعات. واليوم، أصبح لدينا أكثر من أربعين جامعة بين حكومية وأهلية، غالبية هذه الجامعات تدخل ضمن نطاق «الجامعات الناشئة» أي الجامعات التي أُسست خلال أقل من عقدين ومازالت في طور بناء مكانة أكاديمية على المستوى الوطني، وبالتالي تحتاج للكثير حتى ترتقي في سلم التصنيف العالمي.

يلعب تاريخ الجامعة دوراً مهماً في ترسيخ مكانتها بين المؤسسات التعليمية داخل الدولة والإقليم المحيط مما يؤثر على عدد ومستوى الطلبة الذين ينضمون لها، وينعكس على عدد وجودة البرامج التي يتم استحداثها بشكل تدريجي. ومن نافلة القول إن الطالب المميز يفضّل الانضمام إلى جامعة عريقة، هذا إذا لم يختر الابتعاث للخارج. وبالتالي فإن الجامعة الناشئة تواجه التحدي الأكبر المتمثل في استقطابها للطلبة الذين لم يجدوا طريقهم للابتعاث أو للجامعات الكبرى، وفي أفضل الأحوال الطلبة الجيدين من أبناء المنطقة القريبة من الجامعة والذين لا يرغبون في الابتعاد عن عوائلهم.

في حال استمر الوضع كما هو عليه، سيكون من الصعب جداً تطور تلك الجامعات التي قد تتحول مع مرور الزمن إلى مجرد مؤسسات تفريخ حملة بكالوريوس على غرار المدارس العامة. وعليه، يفترض في إدارات تلك الجامعات أن تقوم بإعداد خطط ذات أهداف عملية من أجل الرقي بمستوى الجامعة بشكل حقيقي وليس فقط لتجميل التقارير السنوية التي تنشر نهاية العام.

أول خطوات هذا التطور ينبغي أن يكون في استقطاب الكفاءات الوطنية التي للتو حصلت على الدكتوراه. الشخص الذي تخرج للتو يكون أكثر مرونة لقبول العروض من الجامعات الناشئة لأنه يعلم بأنه قادر على إثبات كفاءته بشكل أسرع من الجامعات العريقة. كذلك فإن الضغط المادي يحد من خيارات الشخص فيقبل بالمتاح. تأتي بعد ذلك خطوة إقناع الكفاءة بالبقاء مع الجامعة الناشئة وعدم الانشغال بالبحث عن فرصة أفضل.

إن الأمان الوظيفي للكفاءة المستقطبة أمر لا يمكن المساومة عليه، فالكفاءة التي يتم استقطابها على نظام العقود السنوية لا يمكن أن تبقى منتظرة تجديد العقد السنوي، فالعاقل سيظل يبحث عن تأمين مستقبله، حتى لو كان يعمل في مؤسسة عريقة تضيف لاسمه، فكيف وهو يعمل في مؤسسة ناشئة لا تضيف لاسمه الكثير؟

على الجامعات الناشئة تحفيز الكفاءات المستقطبة بمميزات مالية، مع ربط تلك الميزات بإنتاجية عضو هيئة التدريس. فمن ينشر بحثاً خلال السنة الأولى يتم ترسيمه، ومن يستمر في النشر يحصل على فرصة قرض ميسر لتملك سكن. إن تملك سكن في منطقة الجامعة يعني استقرار الأستاذ في المنطقة مع الأسرة، مما سينعكس على المجتمع المحيط بالجامعة.

يتم تعزيز الثقل العلمي للجامعة الناشئة بتوقيعها اتفاقيات تعاون علمي مع الجامعات السعودية العريقة، بحيث يتم قبول مجموعة من الطلبة المتفوقين في مرحلة البكالوريوس في برامج الماجستير في الجامعة العريقة، ويتم اختيار المتميزين من أستاذة الجامعة الناشئة لمشاركة في الإشراف على طلبة الدراسات العليا وعضوية لجان المناقشة في الجامعة العريقة. هذا النوع من الأنشطة من شأنه أن يشبع جزءًا من الشغف الأكاديمي عند الأستاذ المنتمي للجامعة الناشئة، فلا يشعر بالحيف لأنه لم يلتحق بمؤسسة علمية مرموقة، بل سينقل خبراته التي بناها في برامج التعاون العلمي لجامعته الناشئة مما سيسهم في تطوير برامجها.
00:11 | 6-06-2023

التفريط في الكفاءات الأكاديمية

في نهاية سبتمبر الماضي، سعدت برفقة فريق برنامج جسور الوثائقي المهتم بالشخصيات السعودية الأكاديمية التي تعيش في الغرب. بين لحظات التصوير التي استعرضت فيها مسيرتي الشخصية خلال سنوات الدراسة والعمل، ولحظات الاستراحة التي قضيتها في الأحاديث الودية مع أعضاء فريق العمل، تبلورت لدي مجموعة من الأسئلة حول مستقبل الكفاءات الوطنية السعودية في قادم الأيام.

كان برنامج الابتعاث الحكومي الذي بدأ عام ٢٠٠٥ من أبرز الخدمات التي قدمتها حكومة المملكة لأبنائها، فلمدة عشر سنوات، كان الابتعاث متاحاً للجميع وبشروط ميسرة جداً، وفي السنوات التالية تمت مراجعة البرنامج ووضع المزيد من الضوابط والشروط بهدف تحسين نوعية مخرجات البرنامج. وخلال العقدين الماضيين، ارتفعت نسبة حملة المؤهلات العلمية في المملكة بشكل واضح، وأصبح لدينا أعداد كبيرة من خريجي كبرى الجامعات العالمية وفي مختلف التخصصات وهو أمر تُغبط عليه بلادنا. غير أن السؤال الأهم: ما مدى استفادة الوطن من هذا الاستثمار في الثروة البشرية؟

بعد أن ينهي طالب الدراسات العليا مشواره الدراسي، فإنه بالطبع لا يتوقع طريقاً مفروشاً بالورود، لذلك يكون جاهزاً لخوض نوع جديد من التحديات في سوق العمل، ولأن قوانين الهجرة في الغرب تحد المساحة الزمنية لرحلة البحث عن عمل، فإن عامل العرض والطلب يحاصر الطلبة الوافدين أكثر من مواطني تلك الدول. بالتالي، فإن القدر قد يلعب دوراً في الحصول على فرصة لبدء المشوار العملي في بلد المهجر. بالمقابل، فإن الوطن هو المكان الأقدر على استيعاب تلك الكفاءات والاستفادة منها، خاصة بعد أن تم الصرف عليهم بسخاء أثناء فترة الابتعاث. غير أن المراقب للساحة يلحظ غياب المتميزين من مخرجات برنامج الابتعاث بشكل يستحق التأمل! فمنهم من فضّل البقاء في بلد الابتعاث، ومنهم من اضطر إلى طي صفحة العمل الأكاديمي باحثاً عن رزقه في مجال آخر.

تشير الإحصائيات إلى أن نتاج برنامج الابتعاث من حملة الدكتوراه قد تجاوز الـ ١٥٠٠ مواطن في مختلف التخصصات. غالبية هؤلاء لم يتمكنوا من الانضمام للجامعات المحلية بوظائف ثابتة. وعليه، فقد انتقل عدد لا بأس به منهم للعمل في الخارج، بينما عاد جزء آخر منهم ليبدأ حياته من نقطة ما قبل الدراسات العليا. وهنا يكمن السؤال: من المسؤول عن هذا الهدر للثروة البشرية التي استثمرت فيها حكومة المملكة؟

بمراجعة الجانب البيروقراطي فيما يتعلق بشروط تعيين أعضاء هيئات التدريس في جامعات المملكة، سنجد أن تلك الشروط تشكّل العقبة الأساسية التي تحول دون استقطاب تلك الكفاءات حيث إنها تقوم بفلترة أولية لحاملي المؤهلات العليا على أساس:

١- امتداد التخصص، بمعنى أن يكون الشخص قد درس التخصص نفسه في جميع المراحل (بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه).

٢- وجود حد أدنى للمعدل في جميع المراحل. والتأثير هنا لمعدل البكالوريوس، كون مراحل الدراسات العليا تعتبر أي درجة أقل من جيد جداً «رسوب».

هذه الشروط تُطبق على المواطن الذي يتقدم للوظيفة الأكاديمية بعد حصوله على الدكتوراه، ولا يتم تطبيقها على الأساتذة الوافدين للعمل في جامعات المملكة. بل إن الجامعات نفسها قد تبتعث بعض منسوبيها من المواطنين الذين يعملون بوظيفة معيد لدراسة الماجستير أو الدكتوراه في تخصصات لم يدرسوها في البكالوريوس! يضاف لكون تلك الجامعات تقبل في برامجها للدراسات العليا طلبة يحملون البكالوريوس في تخصصات مختلفة.

إن التنظيم الإداري ووضع شروط واضحة المعالم وقابلة للقياس أمر مهم من أجل سلامة عملية استقطاب الكوادر الأكاديمية. غير أن تلك الضوابط ينبغي التعاطي معها بشكل عملي يتوافق والمعايير الدولية في تقييم الكفاءات الأكاديمية. فمن نافلة القول إن الشخص الذي حصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة حقل علمي قد تجاوز علميّاً ومعرفيّاً مستوى البكالوريوس في ذلك المجال. فدرجة البكالوريوس لها دور في تأسيس الأرضية المعرفية العامة للطالب، والتي من خلالها يستطيع أن ينطلق للمراحل التالية متحملاً مسؤولية ردم الفجوة المعرفية بينه وبين التخصص الجديد الذي ينوي دراسته. فمن الطبيعي جداً أن ينتقل حامل بكالوريوس الكيمياء إلى دراسة الفيزياء النووية في الدراسات العليا، والأمر نفسه ينطبق على خريج الأدب الإنجليزي الذي ينتقل لدراسة الأدب المقارن في قسم اللغة الفرنسية وهكذا.

نقطة أخرى جديرة بالأخذ بعين الاعتبار؛ هي إن شرط الحصول على المعدل الأدنى في جميع المراحل الدراسية تقتضي أن المواطن الذي تخرج بمعدلٍ متواضع في بداية مسيرته العلمية قد انتهى أمره ولا يمكن النظر في إنجازاته اللاحقة مهما كان مستواها. ويُغفل هذا الشرط أن من بين هؤلاء الذين لم تنطبق عليهم الشروط المذكورة أشخاصٌ قد تخرجوا من جامعات ذات تصنيف عالمي، ومنهم من نشر أبحاثاً محكمة في دوريات رصينة.

ما قلته عن خريجي برامج الابتعاث ينطبق على المتميزين من خريجي الجامعات السعودية والذين يواجهون المصير نفسه من جمود قواعد لا تستند إلى منطق واضح يواكب رؤية ٢٠٣٠ التي تسعى بالمملكة للعالمية. فمن يثبتون كفاءتهم في الجامعات العالمية المرموقة، يتم تقييمهم بقواعد جامدة يحرسها أشخاص فيهم مَنْ لو طبقت عليهم تلك القواعد لما حصلوا فرصة الدخول في السلك الأكاديمي، ناهيك عن وصولهم للجان الاستقطاب والتوظيف في الجامعات.

ويبقى الوطن وحده من يدفع الثمن، حيث تهدر الملايين التي صرفت لتخريج تلك الكفاءات -سواء في الجامعات السعودية أو في الخارج- لينتهي المطاف بهم إلى باب موصد يجعلهم يبحثون عن مستقبلهم الأكاديمي في الخارج.
00:04 | 30-05-2023

مراكز الفكر وتحديات الوطن

في ١٨ يوليو٢٠٢٢ نشرتُ مقالا بعنوان «كيف تعمل مراكز الأبحاث في واشنطن» ناقشتُ فيه أبرز ملامح هذه المؤسسات واستراتيجياتها في التعامل مع القضايا الحسّاسة، وكيفية تأثيرها في الوسطين الإعلامي والسياسي، وختمتُ المقال بتوصيات تتعلق بالسُبل الناجعة للتعامل مع هذه المؤسسات وأهمية تشجيع الباحثين الشباب على الانخراط في تلك المؤسسات عن طريق برامج التدريب المتاحة فيها. وفي هذا المقال أتطرق إلى مراكز الأبحاث الموجودة في المملكة ومدى مواكبتها لرؤية ٢٠٣٠ وجدوى إنتاجها في ظل التحديات التي تواجه المنطقة بشكل عام والمملكة بشكل خاص.

وفقا لتقرير برنامج الفكر والمجتمع المدني بجامعة بنسلفانيا المعروف بـ 2020 Global Go To Think Tank Index Report

فإن المملكة تحتوي على ١٣ مركز أبحاث، وهذا الرقم متواضع جدا مقارنة بالدول ذات الطموح الاستراتيجي في المنطقة مثل إيران (٨٧ مركزا) وإسرائيل (٧٨ مركزا) وتركيا (٥٣ مركزا) بل حتى الدول الغارقة في أزماتها الداخلية تتفوق في عدد مراكزها، فلبنان لديها ٣٥ مركزا واليمن ٢٩. هذا على مستوى العدد، أما على مستوى جودة الإنتاج، فلا يوجد أي مركز سعودي ضمن قائمة أفضل سبعة مراكز في الشرق الأوسط.

منذ إطلاق رؤية ٢٠٣٠ والمملكة تواجه العديد من التحديات على المستويين الاستراتيجي والإعلامي، والتي تستوجب وجود مراكز فكر (Think Tank) رصينة تواكب الحدث وتقدم إنتاجا فكريا يرفد صانع القرار برؤى مختلفة عن تلك التي تصدر من موقع المسؤول. غير أن الواقع يثبت أن تلك المراكز ليست بالمستوى المطلوب، بل هي متأخرة بشكل كبير جدا عن دول الجوار، ناهيك عن الدول الغربية. وهنا يُطرح السؤال: أين تكمن المشكلة؟

من خلال مراجعة المواقع الإلكترونية لمراكز الفكر في المملكة، نستطيع الخروج بتصور حول تواضعِ نِتاجها من ناحيتي الكم والكيف. ولا تكمن المشكلة في الموارد، فتلك المراكز لديها ميزانيات كفيلة بأن يكون نتاجها أفضل بكثير من المطروح حاليا. إن المشكلة تكمن في آلية عمل تلك المراكز والتي لم تدخل ضمن نطاق العمل الجاد (professional performance) والذي لا يستقيم إلا عن طريق محاسبة المركز من قِبَلِ الداعمين له من خلال المطالبة بـ:

1- خطط سنوية ومرحلية (٣-٥ سنوات) واضحة المعالم حول البرنامج المعد للمركز والذي يفصّل الخطوط العريضة للإنتاج المنشود من مواد مكتوبة وأنشطة أخرى من ندوات ومؤتمرات وورش عمل.

2- تدريب كفاءات وطنية شابة من خريجي الجامعات المحلية والمبتعثين في الخارج، وقياس جودة التدريب من خلال انعكاسه على أداء أولئك الشباب والشابات خلال فترات تدريب واضحة المحتوى والمدة.

3- نشر أبحاث جادة تعتمد المعايير البحثية الرصينة المعتمدة في مراكز الفكر في الدولة المتقدمة.

4- نشر عدد محدود من الكتب المحكّمة أكاديميا ومهنيّا والتي تم فحص جودة محتواها وتقييم إمكانية تأثيرها في المجال المعني (سياسي، اقتصادي، اجتماعي، أو أمني).

5- قيام تلك المراكز بإعداد دراسات خاصة (ليست للنشر) لجهات حكومية أو للقطاع الخاص من أجل توضيح بعض الرؤى لصناع القرار في تلك الجهات. وهذا ما يشكّل مصدر دخل إضافيا يردف التبرعات والدعم الحكومي والأهلي، على أن يتحول -تدريجيا- إلى المصدر الرئيسي للدخل.

6- تقرير سنوي حول إنجازات المركز ومدى مواكبتها للأهداف المعلنة والخطة المنشورة بداية العام. وتقييم دعم المركز بناء على تقريره السنوي.

تمثل النقاط المذكورة نقطة انطلاق لفلترة تلك المراكز من خلال إعادة تقييم جدوى استمرارها واستحقاقها للدعم الذي تحصل عليه سواء من القطاعات الحكومية أو الخاصة. وعليه سيتم تجفيف الموارد عن تلك المراكز التي أنشئت بهدف التكسّب المالي والوجاهي، مما سيفتح باب المنافسة الاحترافية في قطاع الـ Think Tank مثله مثل أي قطاع حيوي يساهم في بناء رأس المال الفكري لبلد يخوض تحديات مصيرية وتاريخية.

إن الإصلاح المنشود لهذا القطاع سيعيد تموضع الاستثمار في الفكر والدراسات الاستراتيجية وسيساهم في توفير الموارد الوطنية عن طريق:

1- ردم الفجوة بين المعلومة وصانع القرار (في الحكومة أو الشركات الكبرى) من خلال إنتاج أبحاث نوعية مواكبة للأحداث أولا بأول مما يوفر لصانع القرار رؤية واضحة حول الموضوعات المعنية، وللإعلامي مادة تحليلية للحدث تعينه على ضبط إيقاع الإعلام وحمايته من الفقاعات الآنية. بالتالي، فإن المسؤول الرسمي والإعلامي سيكون مطلعا على هذه الأبحاث التي تنشر بشكل متزامن مع الأحداث الراهنة، مما يجعله متلقيّا لمشورة باحثي تلك المراكز، وإن لم يطلبها. وتلك هي الخطوة الأولى في تأثير المؤسسات البحثية على صانع القرار.

2- فلترة الكفاءات الوطنية الشابة بناء على قدرتها على إثبات وجودها وجديتها في العمل البحثي، ومن ثم تدريب المتميزين منهم في تلك المراكز مع إمكانية ابتعاثهم للدراسة أو التدريب في الخارج، سواء بشكل رسمي أو بجهودهم الفردية. وهذا ما سيخلق قوى ناعمة ذات تأثير بعيد المدى.

إن مواكبة التطور التقني والحضاري المتسارع يتطلب جهودا جادة في هذه القطاعات التي ستساعد صانع القرار على الحصول على صورة واضحة للأمور المهمة، وستخلق قوة ناعمة قادرة على تشكيل إعلام يخلق وعيا في الداخل، ولوبيات قوية في الخارج. تبقى إعادة النظر في هذا القطاع هي الخطوة الأولى لمواكبة التطورات العالمية.

* أستاذ بجامعة غراند فالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط - واشنطن
07:28 | 17-02-2023

كيف تعمل مراكز الأبحاث في واشنطن ؟

تُعرف مراكز الأبحاث الفكرية والاستراتيجية (Think tank) بأنها مؤسسات بحثية غير حكومية تضم مجموعة من الخبراء الذين يقومون بدراسة قضايا متعلقة بالشؤون السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الأمنية، والاجتماعية من أجل تقديم رؤى استراتيجية واستشارات تخدم صانع القرار في الجهات المعنية بالمواضيع المُتناولة. وتختلف هذه المؤسسات عن الهيئات الاستشارية الحكومية بكونها تمارس عملها وتنشر إنتاجها بصفة ذات طابع فكري وليس رسميا؛ فهذه المؤسسات لا تمثل وجهة النظر الرسمية للدولة التي تتخذها مقرًا لها. وبالنسبة لمصادر تمويل هذه المؤسسات، فإنها في الغالب تعتمد على الأوقاف التي تمثل مصدر الدخل الرئيسي للمصروفات الأساسية، يضاف لذلك عوائد العقود الاستشارية، مبيعات التقارير، والتبرعات من الأفراد والمؤسسات.

بدأ استخدام مصطلح الـ Think tank خلال فترة الحرب العالمية الثانية للدلالة على المؤسسات التي تناقش الخطط والاستراتيجيات خارج الإطار الرسمي للحكومة. ومع مرور الزمن تطورت هذه المؤسسات لتشكل قطاعا قائما بحد ذاته في الدول الصناعية الكبرى، وذلك بهدف المساهمة في بناء رؤى واضحة في المجالات السياسية، الاقتصادية، والأمنية. ويرجع اهتمام هذه الدول بتطوير هذه المراكز إلى آلية اتخاذ القرار فيها، فالدول التي يرتبط اقتصادها وأمنها بدول أخرى تفضّل تنويع مصادر المعلومة والتحليل من أجل توفير رؤية أوسع لصانع القرار. كذلك فإن وجود الباحث خارج الإطار الرسمي يمنحه مساحة أوسع في البحث وتقديم الرأي بعيدا عن حسابات التسلسل الهرمي في المؤسسات الحكومية.

تعتبر واشنطن العاصمة المقر لأبرز تلك المؤسسات في العالم من حيث الكم والكيف. وبجولة سريعة على شارع ماساتشوستس في العاصمة، سيجد الزائر أن مراكز الأبحاث هي القطاع المهيمن على امتداد الشارع القريب من البيت الأبيض ومقر الكونغرس. هذا الموقع يعطي نوعا من الحميمية في العلاقة بين المكان والمشتغلين بالشأن الاستراتيجي، كون كثير من الباحثين المنتمين لهذه المراكز هم في الأساس:

-1 أساتذة جامعيون في جامعات واشنطن الكبرى (جورج تاون، جورج واشنطن، جورج ميسن، الجامعة الأمريكية في واشنطن).

-2 صحفيون مخضرمون سبق لهم تناول ملفات مهمة.

-3 مسؤولون ودبلوماسيون سابقون في الحكومة الأمريكية.

-4 مسؤولون ودبلوماسيون سابقون في حكومات دول أخرى، قدِموا بوصفهم خبراء في شؤون دولهم أو مناطقهم الجغرافية.

هذه النوعية من الشخصيات تضفي شرعية على إنتاج مراكز الأبحاث كون الباحثين أشخاصا لهم تأهيل علمي قوي وذوي خبرة عملية تمكنهم من استخدام علاقاتهم الشخصية للحصول على معلومات قيمة تخدم البحث.

ملامح هذه المؤسسات:

تتميز كل مؤسسة من تلك المؤسسات بتركيزها على نطاق محدد، أي أنها تكون متخصصة في موضوع محدد أو منطقة معينة. هذا التخصص يعطي المؤسسة ميزة «الخبرة التخصصية» كونها تُعرف بأن هذا الموضوع أو تلك المنطقة هو مجالها الرئيسي الذي يقوم عليها عملها. فعلى سبيل المثال: معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، معهد دول الخليج العربي بواشنطن، معهد الشرق الأوسط بواشنطن. ولكن هذا لا يمنع من وجود مؤسسات بحثية متنوعة الاهتمام، ويكون في كل منها عدة أقسام أو برامج متخصصة بحسب الموضوع أو المنطقة. بمعنى أنها تكون مجموعة مراكز فرعية تحت مظلة مؤسسة واحدة ذات سياسة موحدة ومقر موحد. على سبيل المثال: مركز كارنيجي للسلام، ومركز الأطلسي.

تهدف هذه المؤسسات إلى القيام بأبحاث تجمع بين العمل المعرفي (البحثي) والتأثير الإعلامي. فاللغة التي تكتب بها المقالات والتقارير تكون عميقة بشكل مقارب للبحث العلمي، وميسّرة بشكل مقارب للعمل الصحفي. لذلك يحتاج الباحث المنتمي لهذه المؤسسات لوقت حتى يتمكن من الموازنة بين الاثنين.

تقوم المؤسسات بإجراء دراسات ميدانية تتخطى في اهتمامها النقاش النظري. فالأرقام والإحصاءات والمقابلات مع الشخصيات المؤثرة جزء لا يتجزأ من عمل هذه المراكز. لذلك، فإن هذه المؤسسات تروج لنفسها بأن هدفها يكمن في إطلاع الحكومة والمواطن على كيفية تحسين الأداء العام في القطاعات المعنية بهذه الأبحاث.

لا يقتصر إنتاج هذه المؤسسات على الأبحاث والمقالات المنشورة على مواقعها الإلكترونية، وإنما تقوم ببعض الفعاليات من مؤتمرات وورش عمل ومحاضرات بعضها مفتوح للعامة وبعضها مقتصر على دعوات خاصة.

في المحصلة، يمكن النظر إلى هذه المؤسسات باعتبارها المؤثر الأعلى في السياسة الغربية (والأمريكية بشكل خاص) بعد المؤسسات الرسمية.

كيفية التأثير:

تعمل هذه المؤسسات على ردم الفجوة بين المعلومة وصانع القرار (في الحكومة أو الشركات الكبرى) من خلال إنتاج أبحاث مواكبة للأحداث أولا بأول مما يوفر لصانع القرار والإعلام مادة تحليلية للحدث. بمعنى أن المتلقي -مهما كان مستوى أهميته في صنع القرار- سيكون مطلعا على هذه الأبحاث التي تنشر بشكل متزامن مع الأحداث الراهنة، مما يجعله متلقيّا لمشورة باحثي تلك المراكز، وإن لم يطلبها. وتلك هي الخطوة الأولى في تأثير المؤسسات البحثية على صانع القرار.

يضاف إلى ذلك كون الصحافة وبقية وسائل الإعلام بحاجة إلى تناول مواد حية لها علاقة بالأحداث، وليس ثمة مواد أكثر دسومة من تحليل الأحداث وفق أسلوب علمي ومنهج بحثي يفسر الحدث بشكل يبدو حياديا. وهذه هي الخطوة التالية، إذ تتحول المواد التي تنشرها مراكز الأبحاث إلى «قصص إعلامية» تقود «خطابًا ممنهجًا» يصعب التغاضي عنه من قبل الجماهير التي بدورها ستشكل عامل ضغط على صانع القرار وستحاسبه على قراراته بناء على فهمها للحدث. هذا الفهم الجماهيري ناتج بالطبع من الخطاب الإعلامي الممنهج الذي بُني أساسا على الأبحاث والتقارير الصادرة من تلك المراكز.

غالبا ما يتبع نشر تلك الدراسات مقابلات إعلامية وندوات تخصصية يطلّ فيها الباحثون على الجماهير ليقوموا بتوضيح بعض المفردات التي لم يتطرقوا لها بشكل كافٍ في البحث أو التقرير. هذا الظهور الإعلامي لشخصيات لها تاريخها الأكاديمي أو المهني يزيد من مصداقية البحث ويساهم في بناء السردية التي طرحها البحث/‏التقرير وتبنّاها الإعلام. تساهم هذه الإطلالات في تحفيز الجماهير لمناقشة القضية وطرح أسئلتهم على الباحث والاستماع مباشرة للحلول المقترحة من قبل الباحث أو من يشاركه في المقابلة أو الندوة.

يتضح مسار عمل هذه المؤسسات الذي يبدأ بنشر الأوراق البحثية على هيئة مقالات أو تقارير، ثم يتم تلقفها غبر وسائل الإعلام المتنوعة، لينتهي الأمر بإقامة فعاليات تجذب بدورها الإعلام بشكل جديد. يكون ناتج هذه العملية خطابٌ مكتمل الأركان يشكل رأيا موازيا لوجهة نظر المسؤولين الرسميين.

ثمة الكثير من الأمثلة الحية على هذه العملية، ومن أبرزها الأزمة الروسية-الأوكرانية، والتي نشرت حولها المراكز البحثية مئات المواد قبيل وأثناء الأزمة. وعلى سبيل المثال، نشر مركز الأطلسي في ٢٢ أكتوبر الماضي تقريرا بحثيا حول العقوبات العالمية (أي الأمريكية) على دول بعينها، وكانت روسيا أبرز الدول التي تناولها التقرير، وجاءت الأزمة مع أوكرانيا على رأس تلك الأسباب. وبعملية بحث بسيطة على محركات البحث سنجد العديد من المواد التي شكلت مادة دسمة للإعلام الأمريكي والغربي بشكل عام لبناء رأي عام عالمي حول الأزمة الروسية-الأوكرانية.

نستطيع تطبيق هذا المثال على ملفات ساخنة في منطقة الشرق الأوسط مثل: الملف النووي الإيراني، الأزمة السورية، جماعات التطرف، وغيرها من الموضوعات التي تتم دراستها في تلك المؤسسات بتركيز يوازي -ويفوق في كثير من الأحيان- تركيز وجهود المؤسسات الرسمية في الدول الغربية. وعليه، ليس مستغربا الدور المحوري الذي تلعبه تلك المؤسسات في رسم السياسة الخارجية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

يجتهد الباحثون في تلك المؤسسات للعب دور مؤثر في السياسة الأمريكية بهدف الوصول إلى مراكز رسمية في الحكومة الأمريكية أو الشركات الكبرى. وتاريخ البيت الأبيض حافل باستقطاب الباحثين من تلك المؤسسات ليتسنموا مناصب قيادية في الحكومة الفيدرالية. وبنظرة سريعة على إدارة الرئيس بايدن، نجد أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن قد انتقل للتو من منصبه كمدير مركز بن بايدن للدبلوماسية العامة بجامعة بنسلفانيا، ووزيرة المالية جانيت يلين انتقلت لمنصبها الجديد بعد أن كانت كبيرة الباحثين الاقتصاديين بمعهد بروكينغز، ووزير شؤون المحاربين القدامى دينز ماكدونوف انتقل من عمله باحثا في معهد كارنيجي للسلام. وقد نشر موقع ثنك تانك ووتش قائمة بـ ١١٤ مسؤولا رفيع المستوى في إدارة بايدن كلهم قد انتقلوا من المؤسسات البحثية «مباشرة» للعمل مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وإدارة بايدن ليست بدعا من القول، فالإدارات السابقة كانت تفعل الشيء نفسه.

أما بالنسبة للمسؤولين السابقين في إدارة الرئيس ترمب، فقد انتقل عدد كبير منهم للعمل كباحثين في المؤسسات البحثية في واشنطن، وعلى رأسهم نائب الرئيس السابق مايك بينس الذي انتقل للعمل باحثا في مؤسسة هيريتج، ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو الذي انتقل للعمل في معهد هندسون حيث رافقه مساعده لشؤون كوريا الشمالية أليكس وونغ وكبير مفاوضي الحد من التسلح مارشال بيلينجسلي. والقائمة تطول باستقطاب المؤسسات البحثية للمسؤولين السابقين في الإدارات الأمريكية. ويتعدى نطاق الاستقطاب الداخل الأمريكي إلى المسؤولين السابقين في الدول الأخرى، حتى العربية منها، ومن أبرز الأمثلة الحالية وزير الخارجية الأردني السابق مروان معشر الذي يعمل باحثا في مركز كارنيجي.

مع وجود عدد من المسؤولين الرسميين السابقين في الإدارة الأمريكية في مراكز الأبحاث، يقابلهم مجموعة من الباحثين السابقين المنتقلين للإدارة الأمريكية، نجد أن كلا من الطرفين لديه معرفة واضحة بخفايا الطرف الآخر، مما يسهل عملية التوصيات السرية وتسريب المعلومات بين الشخصيات الرسمية والباحثين، حيث إن عددًا لا بأس به منهم قد تنقل بين المنصبين الرسمي والبحثي.

تتسابق اللوبيات على كسب ود الباحثين الواعدين الذين يُنتظر تعيينهم في مناصب رفيعة المستوى في الحكومات المستقبلية، وكذلك المسؤولين السابقين الذين ما زال لهم تأثيرهم في التوصيات. وقد برع كل من اللوبي الإسرائيلي والإيراني في بناء علاقات استراتيجية في أروقة المراكز البحثية في واشنطن، حتى سيطروا على بعض تلك المراكز. على سبيل المثال يسيطر اللوبي الإسرائيلي على معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فيما يحظى اللوبي الإيراني بنفوذ قوي داخل معهد كوينسي.

السبل الناجعة للتعامل مع هذه المؤسسات:

من الأخطاء الكبرى التي تمارسها سفارات الدول في واشنطن أن تقوم بإنشاء مراكز بحثية موالية لها، فعندما يتم تأسيس مركز ممول من دولة أجنبية، حتى لو كان ذلك غير معلن بشكل رسمي، فإن المركز يولد ميتا لأنه سينظر له بوصفه وكيلا دعائيا وليس مركزا بحثيا. بالتالي، سيكون من الصعب على مثل هذا المركز أن يستقطب باحثين ذوي قيمة معرفية أو علاقات رسمية. كذلك، فإن المركز يفترض ألا يكون ذا صبغة فاقعة في ميله لدعم دولة أو تحالف سياسي بعينه. ولكن يبقى هذا الخيار على علاته الكثيرة أقل ضررا من التعامل مع شركات الدعاية التي تعطي انطباعا سلبيا عن قضايا الدول التي تحاول إيصالها للمتلقي الأمريكي.

إن أفضل خيار يمكن تبنيه يكون عن طريق تشجيع الكفاءات البحثية بشكل فردي على الانضمام لتلك المؤسسات والعمل من داخلها من أجل تقديم بحوث علمية رصينة توضح حقيقة قضايا بلدانهم. ولو أخذنا المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، لوجدنا أن ثمة عددا كبيرا من خريجي برامج الابتعاث في تخصصات ذات علاقة بالبحوث الاستراتيجية، ويمكنهم أن يكوّنوا قوة ناعمة في الداخل الأمريكي عن طريق التحاقهم بتلك المراكز سواءً كمتدربين أو باحثين. إن الاستثمار في دعم هذه الكفاءات الشابة ماديا بتوفير منح على غرار برامج الابتعاث ليتمكنوا من الإقامة قرب تلك المراكز سيفتح فرصة لتلك الطاقات الشابة لصقل مواهبهم وبناء قدرات وطنية مفيدة سواء في واشنطن أو عندما يعودون لأرض الوطن.
03:32 | 18-07-2022

هل خسر الشيعة شاه إيران ؟

شكّلت الثورة في إيران عام ١٩٧٩ نقطة تحول كبير في المنطقة نعيش آثارها اليوم، ومن المرجح أن تبقى تلك الآثار فاعلة في المستقبل القريب. وبعيدا عن التداعيات الإقليمية وتغير خارطة التحالفات في المنطقة، وبعيدا كذلك عن الشأن الإيراني الداخلي ومدى استفادة الإيرانيين من تغيير النظام الملكي لنظام جمهوري ديني ثوري من عدمه، نناقش هنا تأثير الثورة الإيرانية على وضع الشيعة خارج إيران، وربما يكون الشيعة في الدول العربية معنيين أكثر من غيرهم بهذه المقاربة.

السياق التاريخي

تباينت الروايات التاريخية حول تحوّل إيران من التسنن على المذهبين الشافعي والحنفي إلى التشيع على المذهب الإمامي الاثني عشري. فهناك من يُرجع تشيع الإيرانيين للدولة البويهية (٩٣٢-١٠٦٢م)، وهناك من ذهب لكونها قد تحولت في القرن الرابع عشر الميلادي في عهد السلطان الإيلخاني خدابندا (اولجايتو) بسبب قضية طلاق، وهناك من يرى أن التحول جاء مع قيام الدولة الصفوية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وحاجة الدولة للاستقلال الديني عن الدولة العثمانية؛ غير أنه من المؤكد أن المملكة الصفوية هي من أرسى دعائم ترسيم المذهب الإمامي كمذهب رسمي للدولة والشعب الإيراني. وأيا تكن الرواية الصحيحة، فإننا اليوم نتعامل مع واقع وجود دولة مركزية في المنطقة تتخذ من التشيع الإثني عشري الإمامي مذهبا رسميا لها، وتحتضن ثاني أهم مدرسة دينية للمذهب (بعد النجف في العراق).

حرص ملوك الدولة الصفوية على استقطاب علماء الشيعة الكبار من النجف، وجبل عامل في لبنان والخليج من أجل تأسيس مدارس إسلامية تعلّم الطلبة الفرس أصول المذهب الإمامي وفقهه. وقد دارت مناوشات فكرية بين الشيخين علي الكركي اللبناني وإبراهيم القطيفي حول بعض القضايا العقائدية، غير أن الغلبة السياسية كانت لصالح الكركي الذي دعاه الشاه إسماعيل الأول ليتولى شؤون الدولة الشرعية والفقهية قبل أن يعينه خليفته الشاه طهماسب في منصب «شيخ الإسلام»، بل ويمنحه صلاحيات الحكم الفعلي. وقد ألف الكركي وقتها كتاب «قطيعة اللجاج في حل الخراج» مشرعنًا الضرائب التي يجبيها السلطان، وهذا خلاف المشهور بين فقهاء الشيعة الإمامية. وقد رد على الكركي كل من إبراهيم القطيفي وأحمد الأردبيلي رافضين شرعنة جني وصرف الضرائب من قبل الحاكم «الغاصب للسلطة».

مع تقادم الزمن، واستقرار الحوزات العلمية الشيعية في إيران، لا سيما في قم، قويت شوكة علماء الدين الإيرانيين بشكل احتاج لإعادة النظر في تلك السلطة الدينية المتعاظمة. وقد زاد من تلك المخاوف كون الشيعة لا يعترفون فقهيا وعقديا إلا بالبيعة للأئمة الاثني عشر المنصوص عليها في الروايات التي ينقلونها. وينحصر هذا المصداق في الزمن الحالي على الإمام المهدي المنتظر الغائب منذ عام ٢٦٠هـ. وعليه، فإنه حتى نواب الإمام (أي مراجع التقليد) لا يحق لهم شرعا طلب البيعة لأنفسهم أو الإفتاء بوجوب إعطاء البيعة لحاكم ما مهما بلغ من الصلاح وأيّا كانت درجة إقامته للعدل. وقد شهد التاريخ الإيراني الحديث بعض المناوشات بين رجال الدين والقصر مما حمل ملوك إيران على تبني سياسة تحميهم من الشرعية الدينية التي يمتلكها شيوخ وسادة قم.

بين التاج والعمامة

دأب ملوك إيران في العهدين القاجاري والبهلوي على إبداء الاحترام لمرجعية النجف إلى حد إعلان الرجوع في التقليد الفقهي للمرجع الأعلى في النجف! وقد شكّلت هذه الخطوة مخرجا يسيرا للملك الإيراني صاحب السلطة السياسية والعسكرية في بلاده من حرج مواجهة أصحاب السلطة الدينية. فالمرجع يملك سلطة فقهية على مقلديه بإلزامهم باتباع فتاواه، أمّا من يقلدون غيره، فليسوا ملزمين بالالتفات لمثل هذه الفتاوى. بالمقابل، فإن المرجع الأعلى في النجف يعيش في دولة تحكمها نخبة سنية في بغداد. وبما أن مرجع النجف لا يوفر غطاءً شرعيا لبغداد، فلا يوجد ما يحمل حكامها السنّة على خطب ود المرجع الشيعي الذي لا توجد لديه مصلحة معهم خصوصا في ظل استقلاله المادي عن طريق الحقوق الشرعية.

شكّل تقليد شاهات إيران لمرجع النجف نقطة دعم لهم أمام مراجع قم، كون رأس الهرم السياسي يفضّل مرجعا خارجيا عليهم، وبالتالي فإن المرجع الأعلى في النجف يستطيع الاحتفاظ بثقل مرجعي مدعوم سياسيا داخل الأراضي الإيرانية. بالمقابل، فإن المرجع الأعلى قد حصل على تأييد سياسي عند السلطات غير الشيعية؛ كونه المرجع الفقهي الذي يقلّده شاه إيران. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها قصة للمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (ت. ١٩٧٠) عندما قدم التماسا لدى جمال عبدالناصر من أجل وقف تنفيذ حكم الإعدام بسيد قطب، لكن عبدالناصر لم يستجب لوساطته، كما لم يستجب مع وساطات بقية علماء السنة في العالم. المستخلص من هذه القصة أن مكتب السيد محسن الحكيم كان يعي أن عبدالناصر -الذي يحكم بلدا لا شأن له بالشيعة كمكون سياسي- سينظر لرسالة المرجع بوصفها امتدادا لتحالف بين النجف وطهران وليست مجرد رسالة من شيخ لا نفوذ له في مصر.

بالإمكان سرد مزيدٍ من القصص التي تبين المكانة الكبيرة التي حظي بها مراجع النجف في الأوساط غير الشيعية لاعتبارات سياسية تتلخص في أن هذا المرجع هو الشخصية الإسلامية التي يبجلها ملك دولة مركزية في العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط. هذه المكانة مكّنت مرجعية النجف من مد جسور التواصل مع كثير من الحكومات في المنطقة من أجل تحسين الحالة الشيعية في تلك البلدان وحل الكثير من المشكلات ذات الطابع الطائفي. هذا بالطبع دورٌ لا يمكن أن يقوم به شاه إيران أو رجل دين إيراني يحمل طابعا رسميا بسبب البعد السياسي السلبي الذي من الممكن أن يثار.

وقد حافظ الشاه الإيراني الأخير محمد رضا بهلوي على هويته الشيعية -رغم علمانيته- حتى اللحظات الأخيرة قبل مغادرته للبلاد. فقد أدلى بتصريحه الشهير وهو في طريقه لمغادرة البلاد بأنه حاكم إيران وفق «المشروطة»، وهي الاسم الشائع للحركة الدينية الداعمة للدستورية في الحكم الملكي الإيراني، وفي هذا اعتراف صريح بسلطة رجال الدين في تقييد صلاحيات الملك. بل حتى عند وفاة الشاه في مصر عام ١٩٨٠ أصرت أسرته أن تتم مراسم جنازته وفق الطرق الشرعية الشيعية، واستدعي السيد طالب الرفاعي ليؤم الصلاة عليه بالطريقة الشيعية الإمامية وهو معتمر عمامته السوداء.

التحول الأيديولوجي في طهران

لم تكن ثورة ١٩٧٩ مجرد تغيير لنظام الحكم داخل إيران، فقد تم تغيير مسار السياسة الإيرانية بشكل مناقض تماما للعهد الملكي. فقد كان الشاه محمد رضا بهلوي حليفا مقبولا للأنظمة العربية المجاورة، وحريصا على استمرار ثقافة الحكم الملكي بوصفها ضمانًا للاستقرار. ومن أبرز الأمثلة على هذا التوجه تدخله لصالح السلطان قابوس بن سعيد لإخماد التمرد في ظفار عام ١٩٧١. يضاف للتحالف الملكي مع دول المنطقة تحالف بهلوي مع المعسكر الغربي، فقد كان الشاه حليفا فوق العادة للولايات المتحدة والسياسة الغربية ضد المعسكر الشرقي والفكر الشيوعي.

قامت الثورة الإيرانية على تحالف اليسار بزعامة حزب تودة (الحزب الشيوعي الإيراني) والإسلاميين بزعامة الخميني. وقتها تم تقديم الخميني كواجهة للثورة بسبب شخصيته الكارزمية التي جذبت الجماهير. لم يفطن أنصار حزب تودة لكون هذه الشعبية الجارفة لشخص الخميني ستتطور لتشكّل نقطة محورية لأسلمة البلاد حكومة وشعبا. بل إن الغرب الذي أيقن بحتمية سقوط الشاه بالثورة الشعبية، وجد نفسه أمام خيارين: (١) الشيوعيون الذين سينضمون للمعسكر الشرقي وينضوون تحت مظلة الاتحاد السوفيتي المناوئ للغرب. (٢) الإسلاميون الذين لا يملكون تجربة سياسية تذكر ولن يتحالفوا مع نظام شيوعي ملحد. وعليه فقد كان الإسلاميون أهون الضررين في تقدير المعسكر الغربي! فصعود الشيوعيين يعني صراحة وجود دولة مناوئة ستزعج جيرانها وتغير المعادلة، كون إيران دولة مركزية في المنطقة وليست دولة ذات حجم عادي كحال جنوب اليمن الذي كان يحكمه وقتها نظام موالٍ للاتحاد السوفياتي.

لم تطل المدة ليتضح للغرب والدول المجاورة أن موقف الإسلاميين تجاههم ليس بأفضل من موقف الشيوعيين. فقد ظهر الخطاب الثوري بأدبيات إسلامية بشكل لا يقل حدة عن خطاب الشيوعيين، بما في ذلك الخطاب الأممي وتصدير الثورة. وقد ساهم هذا النهج المؤدلج في سلخ الدولة الإيرانية عن تحالفاتها الإقليمية والدولية إلى أن وصلت حد العزلة السياسية. فقد خرجت إيران من المعسكر الغربي دون أن تتوجه إلى المعسكر الشرقي (كما كان يمكن أن يحدث لو صعد الشيوعيون للحكم)، بالتالي فقد خرجت من المعسكر الغربي إلى منطقة اللامعسكر! وعليه، فقد تراجعت قوة التأثير السياسي الإيراني، وأصبح ظهر النجف مكشوفا لحكومة بغداد، ولم يعد لدى نظام البعث ما يخشاه في حال قام بتصرف عدواني تجاه المرجعيات الشيعية في العراق، وهذا ما فعله لاحقا.

ما بعد الثورة

ظلت العلاقة بهذا المستوى حتى قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، حيث وصل الإسلاميون بقيادة الخميني إلى الحكم معلنين عن نظام سياسي يشغل الولي الفقيه فيه موقع رأس الدولة. وبزوال السلطة السياسية العلمانية لصالح السلطة الدينية التي ضمت السلطة السياسية إليها، انحسرت العلاقة التاريخية بين طهران والنجف. فالولي الفقيه -الذي يلقّب رسما بـ «ولي أمر المسلمين»- يرى نفسه في موقع أعلى من المرجع الأعلى في النجف، وعلى الطرف الآخر، فإنه لا يمكن لمرجع النجف أن يدعم حاكما يملك سلطة الفتوى والآليات السياسية لإنفاذها على الأرض.

منذ سقوط الملكية في إيران خسرت النجف الكثير من أسهمها السياسية في العالم؛ لدرجة أن نظام البعث في العراق تحول لإبداء عدم الاحترام لمراجع النجف دون خشية اختلال التوازنات مع دولة خاض معها حربا استمرت ثماني سنوات. نتذكر في هذا السياق قصة استدعاء صدام حسين للمرجع الأعلى السيد أبو القاسم الخوئي (ت. ١٩٩٢) في أعقاب الانتفاضة الشعبية ١٩٩١، وكيف تم احتجاز الخوئي في بغداد لحين إدلائه بتصريحات تمكن النظام من استغلالها لصالحه. وقد امتد الأمر خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات لتصفية مرجعيات شيعية بارزة في النجف دون أدنى خشية من رد فعل طهران. فقد تم اغتيال مراجع كبار مثل السيد محمد باقر الصدر (ت. ١٩٨٠) والشيخ الميرزا الغروي (ت. ١٩٩٨) والشيخ مرتضى البروجردي (ت. ١٩٩٨) والسيد صادق الصدر (ت. ١٩٩٩) بالإضافة لعديد من المحاولات الفاشلة التي طالت العديد من المرجعيات ومن ضمنها السيد علي السيستاني.

منذ سقوط نظام الشاه عام ١٩٧٩، لم تعد لمرجعية النجف هيبة خارج الوسط الشيعي إلا بسقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ وصعود المعارضة الشيعية للحكم في العراق. ومع هذا التغيير، شكّلت الغالبية الشيعية في العراق مصدر القوة السياسية للمرجعية مما حدا بالدولة العراقية الجديدة لأن تحرص على احترام المرجع الأعلى وعدم محاولة إقصائه من المعادلة السياسية في البلاد. وبناء على ذلك حرصت طهران على مد جسور الود مع المرجعية العليا في النجف ومحاولة التحالف معها في الشأن العراقي. بالمقابل، حافظ المرجع الأعلى السيد علي السيستاني على استقلاليته بخصوص الشأن العراقي بما يخدم العراقيين وفق وجهة نظره.

خلاصة

نستخلص مما سبق أن موقع المرجعية العليا في العراق كان يعيش علاقة تحالف تكافلي -غير مكتوب- مع موقع الشاه الإيراني، فيوفر كل منهما غطاء للآخر بما لا يتعارض مع مبادئه السياسية أو الدينية. وعليه، فقد شكل تغير نظام الحكم في طهران ضغطا سياسيا كبيرا على النجف بخسارة المرجعية داعما سياسيا مهما، ما أدى إلى تضييق شديد على الحالة الشيعية من قبل السلطات العراقية. فنظام البعث الذي يستند إلى ثقافة ثورية كان ينظر بعدم تسامح مع الخطابات الأممية وأفكار «تصدير الثورة» التي تشابه في مضمونها الفكر الماركسي الثوري الذي يخشاه الغرب والأنظمة العسكرية -ومنها البعث- على حد سواء. فخطاب تصدير الثورة المبني على فكرة الأممية ونصرة المستضعفين يثير حفيظة أي حكومة بغض النظر عن مدى إيمانها بالديموقراطية أو الشمولية. وهذا ما جعل المتعاطفين مع الثورة الإيرانية يدخلون في دائرة التشكيك من قبل حكومات بلدانهم، بغض النظر عن نوعية النظام الحاكم في تلك البلدان. فالجمهوريات التي تحكم من خلال حكام ذوي خلفية عسكرية لم يكونوا أكثر اطمئنانا للخطاب الثوري الذي يتبناه النظام الجديد من دول الخليج العربية. وعليه، تحولت إيران بالنسبة لدول المنطقة إلى مصدر قلق يحوم حول استقرارها السياسي.

ولأن مرجعية النجف كانت تعاني خسارة داعمها الإيراني إلى جانب تضييق السلطة السياسية في العراق، فقد خسرت معظم أسهمها السياسية خلال تلك الفترة. بل إن بعض مراجع التقليد في قم، وتحديداً غير المحسوبين على التوجه الثوري، قد امتلكوا نفوذا وعلاقات في العالم الإسلامي أكثر من النجف.

منذ عام ٢٠٠٣ عادت الصفة الاعتبارية لمرجعية النجف بمعزل عن الدعم من طهران، مما يوفر فرصة تاريخية لحكومات الدول التي تعيش فيها نسبٌ وازنة من أبناء الطائفة الشيعية لمد جسور التواصل مع المرجع بصفته الدينية بعيدا عن التحالفات السياسية مع طهران التاج أو العمامة. فالمرجع الديني في النجف يتصرف اليوم من خلال موقعه الروحي والشرعي وليس السياسي، وعليه فإن موقعه يفرض عليه أن يكون على مسافة متساوية من جميع الأطراف الخارجية. بمعنى أوضح، يتعاطى المرجع مع الشأن الديني للشيعة في العالم من منطلق الفقه الإسلامي الذي يدور في ثنائية الحلال والحرام مع بعض التوصيات التربوية بعيدا عن التدخل في الأمور السياسية، ويمارس دوره دون ضغوطات سياسية من حكومة بغداد التي تراجعت قوتها الداخلية والإقليمية. كذلك فإن حكومة طهران لا تملك ما تقدمه للمرجع الأعلى في النجف، كونها لا تبحث عن شرعية من خلال التحالف معه، ولا هو يبحث عن دعم لموقعه عند غير الشيعة نظرا لأن الشيعة قد أخذوا صفتهم الاعتبارية كأغلبية سكانية في العراق من جهة، ولكون مرجعية السيد السيستاني قد نجحت في مد جسور العلاقات الودية مع دول المنطقة. بخاصة مع دول الجوار العربي الذي تتسم أنظمته بالاستقرار السياسي والأمني وبالتقدم التنموي المطّرد، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ومن علامات هذا التوجه دعم مرجعية السيستاني لسياسات حكومة الكاظمي التي تسعى حثيثاً نحو تطوير علاقتها بجوارها العربي.

تجدر الإشارة في الختام إلى الخطاب الذي يتبناه المرجع السيستاني بالإشادة بالمواقف الوطنية للمواطنين الشيعة في بلدانهم على مدى التاريخ، وحرصه على دفع المواطنين الشيعة تجاه التفاعل الإيجابي مع قضاياهم الوطنية - كل في وطنه- والنأي بأنفسهم عن المواقف التي قد تجر عليهم جرائر التشكيك في ولائهم لأوطانهم وأولوياتهم الوطنية.
23:10 | 14-01-2021