أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1610.jpg&w=220&q=100&f=webp

عاصم عبدالفتاح

لا أحدَ يعرفُ مَن أنت !

في المحاضرة الأخيرة من إحدى المواد إبان التخرج من الجامعة وقبل الاختبارات النهائية. أسدى الدكتور -الذي كُنت استثقل أسلوبه الفض مع طلابه- نصيحة خالدة لنا، لم أنسَ وقع كلماته ونصيحته التي أحسست آنذاك أنها منهج يُعتد به في مسيرة الإنسان العملية. لقد ذكر الآتي: أعزائي الطلبة هذه المحاضرة الأخيرة لكم، ومن ثم ستأخذون الخطى الأولى للمرحلة الأطول في حياتكم وهي بناء مسيرتكم المهنية. سأقول لكم هذه النصيحة من أرض الواقع ومن خلال تجربتي.. في هذا العالم الشاسع والمترامي الأطراف وفي عوالم المِهن والأعمال.. (لا أحد يعرف من أنت). لا أحد يعرف قيمتك إلا عندما تسوق ذاتك وأعمالك في مجالك المهني.

حسناً يبدو أن هذه النصيحة أتت كالغيث المدرار بعد أشهر عجاف مقفرات مع تلك المادة. أعتبر أن تلك النصيحة جوهرية في مدلولها، لأني استشفّيت من أصدقائي الذي يعملون في مجالات متعددة، أحدها الطب كمثال.. بأن هنالك العديد من الأطباء أصحاب علم وأداء فائق وسيرهم الذاتية مليئة بالإنجازات، ولكن سمعتهم في المجال ليست ذائعة الصيت، بينما في المقابل هناك من أندادهم الأطباء من يمتلكون سيراً ذاتية أقل من ناحية الإنجازات ولكن أسماؤهم تتردد بكثرة بين الناس وفي مجالاتهم التي يتقنونها بسبب جهودهم في التسويق عن ذواتهم -بافتراض أن الفئتين على قدر عالٍ من الكفاءة والمهنية- والنتيجة نجاح أكبر وسمعة أوثق للفئة الثانية.

هؤلاء من النوع الثاني قد فهموا قواعد اللعبة جيداً. فالعصر الراهن يتطلب من الإنسان أن يبرز فاعليته في مجال معين حتى يستطيع أن يعرّف الناس بما يتقن. أي أن مهمة التعريف عن نفسك لدى الأخرين، هي مسؤولية تقع على عاتقك. لا أحد سيأخذ بزمام المبادرة ويشرع في البحث عنك. صدقني إذا كنت ممن يتقنون عملهم جيداً واستطعت أن تصل إلى الآخرين وتخبرهم من أنت، وما الذي تستطيع إتقانه، فأنت تزيد من رقعة النجاح وتمهد الطريق أمامك إلى سيره مهنية أفضل.

يستطيع المرء اليوم، أن يسوق ذاته أو ما يدعى بـ«Self-Marketing» من خلال التطبيقات المهنية الذكية كتطبيق «Linked in». أو عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. الأغلب منا قد سمع مؤخراً عن بعض الأطباء الناجحين الذين امتلأت الحجوزات لديهم لسنوات قادمة. أعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت رافداً داعماً وقوياً لتسويق أنفسهم.

إحدى السبل الفعالة في تسويق الذات هي المشاركة في المؤتمرات، والأعمال التطوعية في نفس المجال، وأيضاً الاحتكاك المباشر مع الأشخاص المتميزين والأكثر خبرة في ذلك المجال، حيث لا يتطلب التسويق أن يكون رقمياً أو الكترونياً فقط، بل عن طريق الانخراط والتفاعل مع الزملاء والأقران.

تسويق الذات ليس ضرباً من ضروب المبالغة ومدحاً غير مستحق، بل على النقيض تماماً هو اعتداد بالنفس وثقة، ما حصل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام خير مثال، لقد أحاط علماً بقدراته في إدارة الخزائن حيث قال لعزيز مصر (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).

من باب الإنصاف يجب أن لا ننتقد الأشخاص أصحاب الكفاءة الذين لا يسوقون أنفسهم كثيراً لأنهم قد اختاروا أسلوب حياة خاصاً بهم بعيداً عن الأضواء، وقد يكونون ممن لديهم جودة عالية في أدائهم ومهنهم، ولكن أردت الإشارة لإحدى السبل الفعالة لصنع مسيرة مهنية أفضل.
00:46 | 1-05-2022

عن عقدة المثالية !

حضرت في الأسبوع الأول من السنة الثانية بالجامعة - أثناء دراستي بأمريكا- مقرراً تعليمياً بعنوان

‏«Professional communication for excutives»

«التواصل الاحترافي للتنفيذيين»

ولا يخفى على كل من خاض التجربة الجامعية أن الأسبوع الأول هو أسبوع المعاينة بالنسبة للطلبة. حتى يستطيعوا من خلاله اتخاذ القرار بالمضي قدماً أو الانسحاب والتغيير إلى مقرر آخر.

حسناً.. عنوان المقرر كان دسماً بعض الشيء مما أثار الريبة في نفسي وزميلي الآخر من سلطنة عمان، لقد كنا الطالبين الأجنبيين الوحيدين في قاعة ذلك المقرر.

بدأت الدكتورة أيمي بالحديث عن المقرر، بينما كنت أتناقل نظرات الريبة مع الزميل العماني عن محتوى المقرر الذي يبدو أنه مليء بالخطابة والتحدث أمام الطلاب ولمدة ستتجاوز نصف الساعة في بعض العروض التقديمية.

من الداخل يبدو أني قررت الانسحاب حالياً وتسجيل المادة لاحقاً في السنوات المقبلة، لأني شعرت أنّ الوقوف أمام المتحدثين الأساسيين للغة وإلقاء عرض تقديمي سيكون تحدياً مضنياً بعض الشيء.

هنا تقدمت الدكتورة أيمي وقاطعت هواجسي وخلجات فكري بطلب مربك.

عاصم تقدم إلى الناحية الأمامية من الصف.. أريدك أن تعرّف عن نفسك وتتحدث قليلاً عن تجربتك هنا مذ أن وصلت إلى الولايات المتحدة.. استجمعت قوتي ووقفت وتحدثت، ثم طلبت الدكتورة نفس الشيء من صديقي العماني.

بعد ذلك سألت الدكتورة أيمي الطلبة الأمريكيين عما إذا كان هناك من يتُقن لغتين منهم. لم يكن في قاعة المقرر أي من الطلاب الأمريكيين الذين يتحدثون لغتين.

لذا عبّرت الدكتورة عن انبهارها بالمهارة الإضافية التي نمتلكها، وأشارت للصف أن يصفق لنا أنا وصديقي العماني لأننا الوحيدان اللذان يتحدثان لغتين في آن واحد. لقد فعلت ذلك عمداً كي ترحب بنا وتزيل عنا شجب التوتر وتشجعنا على الاندماج في الصف.

هنا أستطيع ان أعترف أنها اللحظة التي استطعت من خلالها كسر الرهبة لتحدث الإنجليزية بطلاقة، علماً أن مستواي في اللغة الإنجليزية آنذاك كان بالقدر الذي يكفي حاجتي ولم يكن بالطلاقة المرغوبة.

شعرت أن الدكتورة تشير إلى نقطة مهمة وهي كالتالي:

مجرد أن تكتسب لغة غير لغتك الأم وقدرتك على التحدث بها هو إنجاز بحد ذاته. لذا كل ما عليك فعله هو أن تتحدث فقط حتى لو ارتكبت العديد من الأخطاء القواعدية أثناء الحديث. ثق تماماً أن المتلقي سينبهر إذا ما رآك تتحدث لغته ولو ارتكبت الأخطاء طالما أنك ستصل إلى المعنى المفهوم.

لقد كان العائق الأكبر في تعلمي للغة الإنجليزية في بلد الابتعاث هو رغبتي في التحدث «بمثالية» ودائماً هوس المثالية في أي شيء هو العائق الأكبر الذي يحول بين المرء وقدرته على الإنجاز.

قد قرأت مرة مفهوماً ساعدني في التقدم أكثر للتحدث بطلاقة وهو مفهوم يسمى بـ«The law of reverse effect» «قانون الأثر الانعكاسي» والذي يعني بأن المرء كلما بذل جهداً مضاعفاً لإتمام عمل ما، تنعكس النتائج سلباً على أدائه. وهذا ما كان يحدث لي عندما كنت أضيّق الخناق على نفسي من أجل أن أتحدث الإنجليزية بشكل مثالي، كنت أفشل في مرات كثيرة، إلى أن اقتنعت أن طريق النفاذ هو في عدم التزمت كثيراً في مسألة المثالية.. تحدث فقط واستمر بالتحدث، وستتحسن مع الأيام والتجارب، وفعلاً ذلك تماماً ما حدث.

هذه نصيحتي التي أهديها إليكم، لا يهم في أي مستوى أنت أو أي عمل تقوم به الآن.. تذكر أمرين:

الرغبة في الكمال والمثالية تثنيان المرء عن الإنجاز، وأيضاً ما ذكره مارك توين:

«التحسين المستمر أفضل من الكمال المؤجل».
00:22 | 3-03-2022

المادة والتخصصات وقراءة المستقبل!

يتسم عصرنا الحالي بسمة التنافسية المطلقة، حيث نجد أنفسنا متربصين لاقتناص كل فرصة تتاح أمام مرأى أعيننا في الدوائر والبيئات التي نتأثر بها وتؤثر بنا، كبيئات العمل والدوائر الاجتماعية.

وعندما نقول أيضاً إننا نعايش عصر «الانفجار المعرفي» أو ما يسمى

بـ«Knowledge Explosion»، فسنعي أن سمة الكثرة غالبة على سمة الجودة في مجالات المعرفة المتعددة.

دعني أوضح ما أقصده، ذكرت صحيفة الوطن في -أحد منشوراتها- اعتماداً على إحصائيات وزارة التعليم المعلومة الآتية: في عام 1400هـ كان عدد الطلاب الجامعيين بالسعودية 54 ألف طالب، وبحلول عام 1437هـ أصبح العدد ما يقارب (مليوناً و400 ألف طالب)، أي بنسبة زيادة 2600%، إذا اعتبرنا أن الأرقام صحيحة، فإن ذلك يتطلب أن تتميز على أقرانك حتى تستطيع دخول ميادين المنافسة، على نقيض الأزمنة الماضية التي مكّنت الخريج من اقتناص الفرصة بسهولة لقلة المخرجات وزيادة الطلب.

إذاً هناك العديد من التساؤلات التي يطرحها هذا الزمن على شخوصنا، كيف نتميز؟ وكيف نستطيع أن نوجد لنا طريقاً للمعرفة والذي بدوره سيعود علينا بتوفير الحياة المادية الكريمة؟ ما هو الشيء الذي نؤديه اليوم ونكرس جهودنا لتحقيقه وسيكون هو الملاذ الآمن لنا ولأبنائنا بالمستقبل؟

في نظري، أعتبر أن الجواب على هذه التساؤلات يكمن في عدة نقاط، منها أن اختيار التخصصات المعرفية لا بد أن يتناسب مع رغبة الفرد بالإضافة إلى مستقبل التخصص نفسه، هناك بعض التخصصات التي لا يمكن للمرء أن يحقق منها عوائد مادية جيدة، أو بعبارة أخرى أصبحت مخرجات تلك التخصصات تملأ سوق العمل، لذا سمة الكثرة هنا غلبت سمة الجودة أو التميز، وهنا أنصح كل من يريد أن يتخصص في حقلٍ ما أن يتفحص مستقبله عن طريق الاطلاع، وسؤال أهل الخبرة، وفهم كيفية تغير العالم بشكل سريع.

أيضاً من طرق التميز في تخصص ما هو دعمه بالدراسات العليا بعد اكتساب الخبرة حتى يصبح المرء صاحب معرفة في حقول أدق ومجالات مقننة يستطيع أن يضيف فيها ما لم يتطرق له من كان قبله، ويصل بذلك إلى مرحلة الخبير في ذلك المجال.

هناك أيضاً شبح مستقبلي يطارد أبناء اليوم، وهو تطور التقنية أو احتلال نُظم الأتمتة «Automation» وسيطرتها على عددٍ من الأعمال والوظائف التي يقوم بها البشر.

دعني أوضح لك بمثال سريع يحدث الآن، قبل عدة سنوات اعتاد مصورو الفيديو على صعود متن طائرات الهيلكوبتر لإجراء جولات تصوير جوية، اليوم ببساطة احتلت كاميرات «Drones» عملهم بتكلفة أقل وكفاءة أكبر، وأقصت أولئك المصورين عن عملهم وهم في حالة لا يحسدون عليها. لذا إدراكنا لما سيؤول عليه حال بعض الوظائف والتخصصات بالمستقبل أمر جوهري.

من نافل القول أيضاً إننا يجب أن ندرك أن هناك مهارات أساسية يجب أن نضيفها لأنفسنا كمهارة إتقان اللغة الإنجليزية بمهارتها الأربع، وإتقان استخدام الكمبيوتر، لأن هاتين المهارتين ستفتح آفاقاً أوسع لصاحبها ليندمج مع العالم أو بالأحرى الاتصال بالعالم على كافة المستويات.

على صعيد آخر، أعلنت شركة Google قبل حوالى ثلاث سنوات عن برنامج

‏Google career certificates، وهو برنامج للتوظيف بناء على إتقان مهارات أساسية أخرى «كمحلل بيانات» أو العمل في «مجال التصميم»، وذلك يستغرق فترة تدريب ستة أشهر للمتقدمين ومن ثم الحصول على وظيفة بدون الاعتماد على شهادة جامعية، وهذا المثال يعزز من قيمة المهارات الأساسية التي نضيفها لأنفسنا.

حسناً هنا أُشير إلى النقطة الأهم في هذا المقال، وهي أننا يجب أن نسعى إلى إيجاد دخلِ آخر نستطيع أن نعتمد عليه في توفير الحاجيات الأساسية لنا، وجود مصدر دخلٍ آخر يوفر للمرء الوقوف على أرضية صلبة يقف عليها في حال جريان الرياح بما لا تشتهي السفن.. لقد شاهدنا جميعاً كيف أن العالم قد ينقلب رأساً على عقب في غمضة عين، ولا أدل على ذلك إلا أزمة كورونا التي أرغمت الكثير على فقدان مصادر دخلهم ووظائفهم بين عشية وضحاها.

إن تقلبات العالم وخصوصاً الاقتصادية أمر لا يمكن تنبؤه، وقد تحدث بلمح البصر وقد تكررت هذه التقلبات في السنوات الأخيرة.

أدرك تماماً أن الكلام في هذا الشأن هو أسهل بكثير من التنفيذ، ولكني أعتقد أن نوعية هذا الوعي يجب أن تضاف إلى تفكيرنا وتركيزنا حتى نزيد من فرص نجاتنا في الحياة من هذا العالم المتقلب.

واقع العالم اليوم يشير إلى أن المادة مهمة جداً حتى يستطيع المرء شق الطريق عبر الحياة وتوفير حياة كريمة له ولمن يرعاهم!

قبل الوداع أترك لكم هذا السؤال أعزائي القراء، ما هي الأمور التي تفعلونها اليوم أو تخططون لفعلها قريباً ولكن سيكون من شأنها أن ترقى بكم وبأبنائكم لحياة موفورة وكريمة؟
23:52 | 17-11-2021

وما ضرني إلا الذين عرفتهم!

لا أزال أقف مشدوهاً وأفكر ملياً عندما أقرأ بيت أبو العلاء المعرّي الشهير:

وما ضرني إلا الذين عرفتهم

جزى الله خيراً كل من لست أعرف

ما الذي أدى به إلى حصر الضرر وكأنه لا يأتي إلا من المقربين فقط؟ هل يعني ذلك أننا يجب أن نكون على حذرٍ دائم من المقربين منا كأفراد العائلة والأصدقاء وزملاء العمل؟ وهل يجب علينا أن نقيم علاقاتنا الاجتماعية على أساس الشك والريبة من حدوث التقلب أو الغدر حتى ننفذ بأنفسنا من مكامن الضرر؟

أعتقد أن اعتناق فلسفة كهذه مجحف بعض الشيء، وقد يشوش علينا أهمية وجود المقربين منا في الحياة. خصوصاً عندما نجد رواجاً واسعاً- في هذا الزمن- لفكرة عدم إعطاء الثقة لمن حولنا وأن المقربين أعلم بمواطن الضرر، لذا هم أقدر من غيرهم على إصابتنا بمقتل في خضم لحظات الخلاف. في حين أن الحياة ستصعب علينا بشكل لا يطاق إذا لم نعتبر العائلة المرتع الذي يحتضننا ويؤوينا من العالم الموحش، وأن الأصدقاء المقربين وجودهم كوجود الظّل البارد يخفف علينا سموم قيظ الحياة. إذاً من الطبيعي أن يكون لدينا أشخاص مقربون يضفون إلى حياتنا معنى وبهجة (ونفعهم أكبر من ضررهم) حتى نستطيع المضي قدماً في الحياة. ولكن كيف لنا أن نوزن إيقاع القرب.. حتى لا يصبح ضجيجاً ننفر به ممن حولنا ولا خافتاً لا يكاد يؤثر بنا.

أرى أن الطريقة الأمثل في اجتناب الضرر ممن حولنا هو في إبقاء مسافة آمنة بيننا وبينهم. فرسم الحدود مع المقربين خصوصاً والبعيدين عموماً سيعيننا على صون خصوصياتنا من أن تُكشف. ومنع نقاط ضعفنا من أن تظهر إلى العيان. حتى عندما يتعلق الأمر بالمقربين جداً لا تنكشف بأكملك أمامهم، احتفظ بجزء منك لنفسك، ذلك الجزء الذي لا ينبغي لأحد أن يدركه. نحن إذا أتقنّا فن المسافات الآمنة، سنتيح لأنفسنا الاستمتاع بالعلاقات الإجتماعية.

قرأت مرة «إن النجاح في العلاقات الإنسانية يكمن في إتقان فن المسافات فلا تقترب إلى حد إبصار العيوب، ولا تبتعد إلى حد نسيان المحاسن» ولا تسمح لأحد أن يقترب منك حتى يبصر عيوبك. كن في العلاقات وازناً للإيقاع تماماً كمايسترو الفرقة الموسيقية، حتى يستنى لك الإستمتاع بمعزوفة العلاقات.

أيضاً هناك مثل إنجليزي شهير يقول «The devil is in the details»، والمعنى أن الشيطان يكمن في التفاصيل. قياساً على هذا المثل.. معرفة التفاصيل الكثيرة عن الآخرين وإتاحة الفرصة لهم في معرفة التفاصيل عنا.. قد يصيبنا بالملل أو قد يثير العداوة بيننا وبينهم، فهناك أمور جميلة بظاهرها من غير التعمق فيها كثيراً، عبّر العرب قديماً عن أسلوب يصون العلاقات ويزيد من ارتباط الناس ببعضهم وهو المثل الذي يقول «زُر غِباً تزدد حُباً»، أي زر أحبائك على فترات متفرقة ومتفاوتة بالزمن حتى يصبح الشوق العامل الذي يؤدي إلى محبتك. وهذا من باب ترك المسافات والقصد في الوصل.

دائماً ما كنت أشبّه العلاقات الاجتماعية بالنار التي نشعلها في ليلة شاتية كي نستمد الدفء منها. الاقتراب الكثير مُحرِق، بينما الابتعاد المفرط يفرض علينا الشعور بشدة البرد وتلك في نظري هي الجفوة، إن الاقتراب من تلك النار بمسافة آمنة هو ما سيشعرنا بالدفء والاستمتاع وكذلك اقترابنا من الآخرين.

بالعودة إلى فكرة أبو العلاء المعري.. لا أُنفي تماماً أن وجهة نظره ليست سديدة، بل إنها قد تعطي إيحاءً بأن الحذر واجب فقد قيل «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما». وذلك من باب ممارسة التروي والأناة أثناء اندماجنا مع الآخرين.

أعتبر أن لكل منا تجربته الخاصة ونظرته النسبية في العلاقات، ولكنّي لم أعتبر أن فكرة أبو العلاء صحيحة البتة. حيث إنه ذكر بيتاً في قصيدته آنفاً وقال:

فليس على وجه البسيطة صاحبٌ

منيرٌ دروب الحق للخـل منصـفُ

يبدو أن تجربته كانت مريرة بالعلاقات.. حيثُ عُرف عنه اعتزاله للناس وقطع الوصل معهم، ولكني أردت أن أنظر للجزء الممتلئ من الكأس من خلال هذا المقال حيث «لا إسراف ولا قتور وكان بين ذلك قواماً»، علماً أن تجارب الأيام حتماً ستضيف لي ولكم الكثير من المعرفة والإدراك وستجيب بكل تأكيد على التساؤلات في هذا الشأن.
01:21 | 9-07-2021

حول جمالية الحياة في عصرنا السريع !

في ظل تسارع الأحداث، وتقلب الزمن، ودوراته المستمرة، وأيامه الخاطفة، يجتاحنا شعور أننا دائماً متأخرون عن تحقيق ما نريد. دائماً ما نجد أنفسنا على أهبة الاستعداد للانطلاق نحو هدف جديد أو الحصول على رغبة معينة، ويرتابنا الشك أننا في حال أبطأنا المسير وتثاقلت خطواتنا، (سنفوت) الفرص ولن نستطيع اللحاق بها مجدداً، وكأن الحياة ميدان لا تتوقف فيه السباقات.

يا له من شعورٍ مرهقٍ جداً!

أعتقد أننا نعايش التسارع المفرط الذي يمنعنا منعاً باتاً بالاستمتاع بلحظات هادئة وسعيدة. يمنعنا من التأمل في جماليات الحياة وخصوصاً التفاصيل الصغيرة، كلحظات الخشوع في الصلاة، أو كوب قهوة نحتسيه ونستمد منه الدفء في صباح شاتي، أو مشاهدة لوحة ربّانية مرسومة في السماء لغروب الشمس، أو اختطاف وهلة من الزمن للتسامر مع العائلة أو صديق مقرّب، أو حتى الخلوة والتفرغ للنفس وما يدور في خلجاتها.

وفي حين أولينا اهتماماً لتلكم اللحظات التي ينتابنا فيها شعور الحسرة لعدم الإنجاز. وذلك في تصوري أمر خطير، يولجنا معترك الحيرة والإرهاق والتململ من الحياة.

لعل العالم السريع الذي نعيش فيه يفقدنا الاهتمام بتلكم اللحظات حيث نشعر أنها هامشية، في حين يُهيئ لنا وجوب استنزاف قوانا وطاقاتنا ما بين إتمام عمل ما أو التجهيز والاستعداد ليوم عملٍ آخر. وهذا تصور يقنن من جمال الحياة، لأننا كبشر نحتاج إلى شحن أنفسنا باللحظات الصغيرة السعيدة.

أرى أيضاً أن وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيرها قد أرسوا قواعد وهمية لمفهوم السعادة وجمال الحياة، فهم دائماً ما يبثون محتوىً زائفاً للمتلقين، يشوه واقعية الحياة، حيث يصور لنا مستوى عاليا من الرفاهية، أو عاطفية وردية زائفة لا تشوبها الخلافات. أو أن الحصول على أفخم ممتلكات هو مكمن السعادة وجمال هذه الحياة. مما يكرس فكرة أننا كمتلقين في تأخرٍ دائم، ومستوى أدنى من المعيشة، وذلك ينعكس سلباً على نظرتنا لمعاني السعادة وجماليات الحياة.

أيضاً يتسم عصرنا الراهن بارتفاع معايير معيشة الإنسان مقارنة بالعصور الأخرى، وتروج فكرة استحقاق الأفضل في كل شيء، والسعي نحو دائرة المثالية المفرغة، وسيطرة أسلوب المقارنة بين الأفراد، وبث التنافسية غير الشريفة، حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت، ونظن أن الملجأ بالاستكثار من الحياة وهكذا.. ثم إلى أين؟ إلى أن يتفتت معنى جمال الحياة ويصبح هشيماً تذروه الرياح.

طريق النفاذ من البراثن الخادشة لجمال الحياة في نظري هو باعتناق أساليب بسيطة بمدلولها ولكنها عميقة بأثرها، كتعزيز فهمنا لطبيعة الأرزاق. وأن توقيت وصولها منوط بإرادة الله وأقدارنا المختلفة. نحن يا سادة لسنا متأخرين عن أرزاقنا، كل واحد منا يسير في مساره الزمني الخاص به، وسيحصل على أرزاقه كاملة من غير نقصان.

يجب علينا تعويد أنفسنا بالاهتمام بالتفاصيل واللحظات البسيطة التي تصنع سعادة أيامنا، كما عبر في هذا المعنى جلال الدين الرومي بقوله:

«لعل الأشياء البسيطة.. هي أكثر الأشياء تميزاً

ولكن.. ليست كل عينٍ ترى»..

أعتقد أن جزءاً معتبراً من جمال الحياة يكمن في اعتناق اللحظات الصغيرة والبسيطة. كما قال الشاعر:

واغتنم صفو الليالي

إنّمـا العيش اختلاس

أي أن جمالية العيش هي في اختلاس صفاء تلكم اللحظات.

أحد الأساليب المثمرة هي التخلق بأسلوب إحصاء نعم الله الكثيرة واعتبارها عطايا لا تقدر بثمن. وشكرها يؤدي إلى زيادتها فنحن موعودون بذلك.

لابد أيضاً أن لا نلقي بأنفسنا تحت عجلة السرعة التي قد تطحن أرواحنا، فتخفيف سرعتنا لانتزاع الفرص والإنجازات ليس سلبياً دائماً، بل قد يكون إيجابياً في حال أردنا تجديد قوتنا وشحن طاقتنا للمضي قدماً.

من الضروري أن نتوقف عن مقارنة أنفسنا بالآخرين، فكل منا ميسرُ لما خلق له. المقارنة داء عضال يعمي البصر والبصيرة عن كل حسن جميل في أنفسنا. بهذه الأساليب نستطيع أن نلتفت إلى الحياة بجمال فهي حلوة خضرة كما وصفها المصطفى -عليه الصلاة والسلام.

أثق أن هناك عدداً كبيراً من الأساليب التي من خلالها نستطيع توسيع مداركنا نحو جمال الحياة، لذا هلّا بحثتم عن تلكم الأساليب..
00:06 | 4-05-2021

حول المسؤولية الوطنية للمبتعث

بعد مضي بضع سنين في مسارات الغربة وإبان الوصول إلى خط النهاية، أترك رسالة - إلى زملائي المبتعثين تتمحور حول «المسؤولية الوطنية» التي يحملها الطالب المبتعث أثناء المسير في دروب التعلم والاغتراب والامتزاج مع ثقافات أخرى. كل ما سأذكره في هذه المقالة تجسّد بناءً على موقف شخصي أو وجهة نظر أو فكرة ملهِمة من صديق الغربة «بدر السلمي».

أولاً: الارتحال عن الوطن طلباً للعلم قيمة عظمى وجليلة، فكل الدلالات في الأثر النبوي تدل على ذلك الفضل العظيم الذي يحصده من يسلك طريق العلم. فماذا لو ارتبطت هذه الفضيلة مع التسهيلات والدعم المادي والتشجيعي الذي تقدمه حكومة خادم الحرمين لأبنائها الطلبة؟ كلنا نعلم أن ما تقدمه حكومتنا في توفير الفرص للدراسة بالخارج ليس أمراً مستجداً، بل لم يزل مستمراً منذ أن مهّد المؤسس الملك عبدالعزيز طريق الدراسة بالخارج في عام 1927 بابتعاث عدد من أبناء الوطن إلى دول عربية كمصر، بعد ذلك الحين تطور هذا المسار ليشمل دولاً غربية كأمريكا وبريطانيا، وصولاً إلى برامج الابتعاث الضخمة التي شهدناها خلال السنوات القلائل الفائتة.

ما أريد أن أشير إليه هنا أن هذه نعمة عظمى، وفرص ذهبية، ليست متاحة لعددٍ كبير من الناس وخصوصاً أبناء جيلنا حول العالم. لذا دعوني أحدثكم قليلاً عن طلبة الجامعات في المجتمع الأمريكي وكيفية خوضهم المصاعب من أجل إتمام دراساتهم ودرجاتهم العلمية.

هناك إحصائية طبقاً لمجلة (فوربس) توضح أن 70% من الطلاب المتخرجين في سنة 2018 مدينون بما يقدر بـ(29,200$) دولار على الطالب الواحد. وأن مجموع ديون الطلاب ككل يقدر ب 1.64 تريليون دولار. يهرع عدد كبير من الطلبة الأمريكان إلى تمويل دراستهم عن طريق القروض البنكية التي تُدعى (Student Loans) وكل هذه المبالغ الضخمة والديون يتحملها طلاب في مقتبل أعمارهم لمجرد توفير مستقبل أفضل. ما زلت أتساءل هل سيصلون إلى مرادهم سعداء، أم ستبعُد عليهم الشُقّة وهم يجرون أغلال الديون من خلفهم لذا أراهم يلجؤون إلى إقران الدراسة مع العمل بدوامٍ جزئي رغبةً في تخفيف تلكم الديون. وأنت عزيزي المبتعث تعيش عزيزاً مكرماً في معترك الغربة أفضل حالاً من طلاب البلد الذي تدرس فيه. لذلك يغبطنا كثيرٌ من زملائنا الأمريكيين وغيرهم من الدول الأخرى لحظة معرفتهم بأن حكومتنا تتكفل بتكاليف دراستنا بل تمنحنا أيضاً مكافآت شهرية معيشية، ومكافآت للتميز الدراسي، وتأميناً طبياً ومزايا جمة.

بيت القصيد: الابتعاث ليس نعمة فقط بل مسؤولية وتجربة يجب علينا أن لا نأخذها على محمل الاستحقاق بل بجدية مطلقة، لستُ أبالغ إذا قلت إننا محظوظون جداً لحصولنا على فرصة ذهبية كهذه.

ثانياً: أعتبر في منظوري الشخصي أن المبتعث يلعب دوراً مشابهاً لسفراء الوطن، نعم أنت ممثلٌ مهم لبلدك ليس على الصعيد الدبلوماسي، ولكنك تحمل واجبات تمثيلية لبلدك أثناء اندماجك مع مجتمع الدولة التي تقطن فيها، أو قل على الأقل في أروقة الأوساط الأكاديمية. فاحترام ثقافة الآخرين، أديانهم، آيدلوجياتهم، والالتزام بقوانين الدولة، ومراعاة الذوق العام، والانضباط الأكاديمي، كلها تعكس صوراً رائعة عن جماليات أخلاقنا التي نستمدها من ديننا وثقافتنا العربية.

مسؤوليتك أن تكون فخوراً بهويتك ووطنك، وأن تعكس صوراً أخلاقية عن مجتمعك بالتزامك لما سلف ذكره في هذه النقطة، فأنت تنطلق من أرض مهبط الرسالة وتتحلى بباقة زاهية من مكارم الأخلاق.

ثالثاً: من الطرق التي تستطيع التعريف بها عن وطنك، المشاركة في فعاليات الجامعة وأنشطتها كالاحتفالات الدولية التي تقام للطلاب من مختلف الدول لقصد تبادل الثقافات. لقد سُعدت جداً بمشاهدة زملائنا الذين يحرصون على الحضور بزينا وقهوتنا وبعض مأكولاتنا الشعبية وترتيب أركان خاصة للتعريف بثقافتنا. شكراً لهم، فجهودهم محل تقدير وامتنان.

وأعتقد أنه من الواجب على كل مبتعث أن يحرص على المشاركة مع الأندية الطلابية للمبتعثين السعوديين خصوصاً في المناسبات التي يتم من خلالها التعريف بوطننا وثقافتنا الثرية -كاحتفال اليوم الوطني-. من المؤسف أن ينكمش البعض و يتقاعسوا عن المشاركة في هذه الفعاليات وكأن تمثيل الوطن لا يشكّل أهمية لهم.

رابعاً: يُشكّل الانضباط الأكاديمي والتحصيل العلمي جزءين مهمين من مجموعة المسؤوليات.

(الانضباط الأكاديمي) لا تعود فوائده على المستوى الشخصي فقط، بل إنه يعكس صورة جميلة عن مجتمعك المهتم بالعلم. أيضاً يتضمن الانضباط الأكاديمي أن تبتعد عن كل ما يعكر صفو الجهد الدراسي، فاللهو المفرط يقود إلى التسيب عن المسؤولية الدراسية، وقد تسبب للبعض بأن رجعوا خائبين بخفي حنين إلى أرض الوطن. وتذكر أنك هنا تمثل وطنك، ولكن ليس عليك أن تخوض في لغط السياسة، إنها ليست من مسؤولياتك، هذا الشأن له رجاله الأكفاء والمتمرسون. عليك التركيز في تطوير نفسك أكاديمياً واجتماعياً بعيداً عن ما يشتتك.

وتتشكل أهمية (التحصيل العلمي) في حصولك على تخصصٍ نادر ولغة إضافية، حتى تستطيع نقل المعرفة لتثري بها وطنك وتقود الدفة إلى تطويرٍ مأمول.

تذكر دائماً قول الشاعر:

إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنع بما دون النجوم

أي عليك أن تخرج من هذه التجربة ثرياً ممتلئاً وحبذا متميزاً بمراتب الشرف العليا بدراستك.

ماذا عن ما بعد الرجوع؟

خامساً: عندما تُزاح عنك كوابل وعوائق مادية للمضي في المشوار الأكاديمي، وعندما تتاح لك الفرصة للدراسة في أرقى الجامعات في العالم، فأنت هنا مدينٌ لكرم وطنك، مسؤوليتك هي أن تفي الدين ببذل جهودك ونقل خبراتك ومعرفتك إلى وطنك. وأثناء ذلك أرجو منك أن تمارس أسلوب التواضع العلمي (intellectual humility) عند رجوعك واختلاطك مع عائلتك وأقرانك ومجتمعك. أرجوك ابتعد عن الشعور بنزعة التفوق على مجتمعك. العلم يا صديقي يهذبنا ولا يوقعنا في الاختيال والفخر على الآخرين كما قال الإمام الشافعي: «كل ما ازددت علماً زداني علماً بجهلي».

لقد شاهدت متأسفاً بعض المبتعثين الذين رجعوا إلى الوطن ولم يسلم من نقدهم أحد. أعتبر أن ذلك تنكراً للمسؤوليتين العلمية والوطنية اللتين يحملونهما. أرجو منك أن لا تنضم إليهم لأنك في حسبة المتعلمين. وتذكر أنك جزءٌ مهم في مجتمعك، فكن رائداً ولا تكن منتقداً، كن باعثاً للتغيير إلى الأفضل ولا تكن محطماً للآمال. كن مخلصاً لوطنك، فإنه يستحق منك بذل الكثير.

طالب سعودي مبتعث في أمريكا

Asimabdulfattah@
00:03 | 22-01-2021

وقفة على أعتاب النهاية

نقف جميعاً على أعتاب نهاية السنة التي ستبقى مخلّدة في صميم ذاكرة كل إنسان على هذا الكوكب. يبدو أن جميع المنظومات قد نالها ضررٌ ما بسبب الجائحة، عانى أفرادٌ كثر من آثار نفسية نظير موجة القلق من المستقبل المجهول، ونُزعَ من آخرين جزءٌ من أفئدتهم لفقد عزيزٍ أو قريب، وبلا شك أصيب البعض في مقتلٍ مادي لفقدهم سبل رزقهم، وتوالت الرزايا على أصحاب المشاريع ولم يصمد بعضهم في مواجهة أعاصير الجائحة، وصولاً إلى تخبط دولٍ عظمى في إدارة الأزمة. وتوقفت عجلة الحياة الطبيعية. عبَّر المدون فؤاد الفرحان قائلاً «خلال هذه الشهور مر العالم بفترات نموذج كيوبلر روس الشهير (مراحل الحزن الخمسة Five Stages of Grief): الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والتقبل».

أعتقد أن البشر حول العالم أدركوا حقيقة أن نظرية تأثير الفراشة قابلة للتطبيق، وأن القشة قد تقصم ظهر البعير حقاً، ولكن لم تكن قشة هذه المرة، بل مخلوق دقيق الحجم لا يُرى بالعين المجردة، أحدث بأمر الله تغييراً دراماتيكياً وتراجيدياً على سيرورة الأمور في كل الدوائر التي يتصل ويتفاعل معها الإنسان. ولا أريد أن أنسى ذكر بعض الحوادث المؤلمة كانفجار بيروت والثورة ضد العنصرية في أمريكا التي أحدثت جلبة وضوضاء في أنحاء المعمورة. وأخيراً حادثة الطعن ثم الإساءة لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

بعد المرور السريع على أبرز أحداث السنة، أعتقد أن الأزمات لا بد -وإن ضاقت واستحكمت حلقاتها- أن تلفت انتباهنا إلى درسٍ ما، أو معنى نستقيه من عمق الأزمة، إذاً ما هي الدروس التي أهدتنا إياها سنة 2020؟ وما الذي يجب علينا تغييره في المستقبل من خلال التجارب القاسية التي مررنا بها؟

دعوني أعبّر عن ما أخاله صحيحاً في هذا السياق.

مع ارتفاع معايير جودة المعيشة للإنسان بشكل عام، تزايدت رغبته في الحصول على الأفضل في كل الأمور، متناسياً تقدير النعم الأساسية التي حباها إياه الرب، إنني أعني السلامة الجسدية، الأمن الوظيفي، أمن الموارد، الأمن الأسري والصحي، نِعم المستوى الثاني من هرم ماسلو للحاجات الإنسانية. يبدو أن تداعيات الجائحة قد نجحت في تذكيرنا بتقدير هذه النعم، وأن لا نأخذها على محمل الاستحقاق، بل كونها عطايا ثمينة من الإله ننعم بها ويجب علينا دائماً تقديرها وشكرها.

من الدروس التي يجب علينا إدراكها، أهمية جاهزيتنا للتغيير والتكيف ومواكبة التغيرات السريعة حتى نكون قادرين على قهر الصعاب. أيضاً أن العلم سلاح يُعتد به في مجابهة الأزمات، وأن نزعة النجاة لدى البشر «survival instinct» شيء فطري. فمهما بلغت عتمة المخاطر وسوادها الحالك، فإن الإنسان سينجو منها بعد مشيئة الله، تماماً كما نجا أسلافنا من أوبئة متعددة، وحروب مدمرة. وستستمر الحياة دائماً، المهم هو أن لا نيأس أبداً حتى نصل إلى الضوء القابع في نهاية النفق المظلم، وها نحن ذا قد اقتربنا من الخروج من غياهب هذه السنة تزامناً مع بدء انتشار اللقاحات، آملين إحراز عودة مبكرة لما كنا عليه.

عالمياً، أعتقد أن مسرح الأحداث العالمي لن يخلو من خرق نظم القيم الإنسانية كالمساواة والعدالة واحترام الآخر. لا زلت أتمنى أن يصل العالم إلى مرتبة أعلى في سلم هذه النظم. لا تزال الاختلافات العرقية والدينية تسبب الكثير من الظلم والإجحاف لفئات مختلفة من الناس الذين ينتمون إلى بعض الأعراق والأديان، مما يمدد أسفاً من نشر الكراهية بين البشر، لا أملك حلاً ولا أعتقد أن الحل موجود ولكني أطمح أن يتعلم البشر جدوى التعايش والتسامح واحترام بعضهم البعض، وأن يحرزوا تقدماً إنسانياً، خصوصاً نحن الذين نستمد قيمنا وأخلاقنا من دين التسامح والسلام حتى نجعل وجودنا كبشر مثمراً في عمارة الأرض التي استخلفنا الله فيها.

دعوني أتحدث عن نعمة الوطن، التي أعتبر شكرها وتقديرها الهدية الأجمل في 2020. أعتقد أن هذه الجزئية سيتفق معي فيها أبناء الوطن.

لقد ظهر مع بداية تفشي الفايروس في مملكتنا أسلوب إدارة الطوارئ والأزمات بشكل جلي وواضح. لقد لامسنا الجهود المكثفة التي بذلتها القيادة وجميع الأجهزة كوزارة الصحة ووزارة الداخلية والتعليم العالي لإدارة الأزمة. وجاءت قرارات خادم الحرمين الشريفين موجهةً باحتضان الجميع والتعامل بلغة الإنسانية وتوفير العلاج والرعاية الصحية والموارد ودعم القطاع الخاص والتركيز على سلامة الإنسان مهما كلف الثمن. إنّ هذا المستوى الرفيع من الوعي الإنساني ليس مستغرباً على قيادتنا، إنه من نافل القول والفعل. وها نحن الآن نشهد ثمار تلك الجهود، فحالات الإصابة منخفضة جداّ مقارنة بدول أخرى، والأوضاع مبشرة بكل خير.

حول أوضاعنا كمبتعثين، توفرت لنا الرعاية الصحية وتسهلت إجراءات الإجلاء إلى الوطن، لقد شعرت أن الوطن يحتضنني في معترك الغربة. وشعرت أيضاً أن أسرتي وكل من أحب بخير وأمان ما داموا على أرض الوطن.

أخيراً، في خضم كل هذه المصاعب، كان من المبهج إقامة شعيرة الحج بكل أمان وإعادة فتح أبواب العمرة والصلاة في الحرمين بكل سلاسة وترتيب وتطبيق للاحترازات الصحية.

أيضاً استضافت وتصدرت بنجاح دولتنا العزيزة قمة مجموعة العشرين، وحازت على الإشادات المعهودة لبذلها جهوداً قيادية معتبرة وملحوظة بين دول العالم. في كل الأحوال، مؤمن بالنسبة لي أن تقدير نعمة الوطن يزداد كل يوم عن سابقه. شكراً للوطن وللمخلصين من أبنائه، وكما يقول المثل لكل مقام مقال ولكل دولة رجال.

لا أريد أن أطيل عليكم أعزائي القراء.. ولكن سؤالي لكم. ما هي الدروس والعبر التي حصلتم عليها؟ أعتقد أنه من المجدي أن يقف كل واحد منا وقفةً يستذكر فيها ما تعلمه خلال هذه السنة، أكاد أجزم أن كل واحد منا له قصة وعبرة تستحق أن تُروى. اصبروا واعتنوا بأنفسكم جيداً، وتمسكوا بأحبابكم، وكونوا لطفاء أصحاب مرور لين وسهل على الغير، وتذكروا نعم الله واشكروها حتى تنعموا بالمزيد، وتذكروا أن كل شيء يسير بحكمة إلهية. أتمنى لكم سنة جديدة سعيدة ومليئة بالإنجاز. دمتم بخير.

طالب سعودي مبتعث في أمريكا

Asimabdulfattah@
02:19 | 18-12-2020

عن دوائر التأثير والاهتمام في ظل الانتخابات !

سألني أحد الزملاء عن رأيي في ما حدث بالانتخابات الأمريكية. أو إذا ما كنت أفضّل مرشحاً رئاسياً عن مواطنه الآخر؟ كان جوابي -الذي أعتقد أنه لم يرق لزميلنا- أني لا أولي اهتماماً كبيراً للأمور التي تكتنف قضايا السياسة والمعارك التي تدور في أروقتها ومنصاتها، والتي دائماً ما تُحدِث صخباً وإثارةً إعلامية أو ما يُعرف بالـ«Propaganda». انتقدني زميلي قائلاً: «يا رجل أنت مبتعث وهذا الموضوع مستحيل ما تهتم فيه».

حسناً دعوني أعترف أن العالم اليوم عبارة عن قرية مترابطة بشكل مخيف. الخطب الجلل الذي يحدث في الضاحية الشرقية، قد يدفع ثمنه الشخص المسالم الذي يقبعُ آمناً في سربه في الضاحية الغربية الأخرى من القرية. نعم إنني أشير بالكناية إلى أزمة كورونا كمثال. وكذلك الانتخابات قد طال أثرها العالم أجمع. ولكن يبدو أن زميلنا العزيز لم يفطن إلى المنهج الذي أعتبره منفذاً من الأمور التي تُحدث صخباً مزعجاً وضروباً من الشد والجذب المشتت لهدوء النفس وراحة البال.

يتحدث ستيفن كوفي صاحب كتاب «العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية» عن مفهوم دائرتي التأثير والاهتمام.

دائرة التأثير: هي النطاقات التي نستطيع ترك أثرٍ واضحٍ فيها كأنفسنا أولاً، والمقربين منا، والبيئات التي نحتك فيها بشكل مباشر (عمل، تطوع، وغيره).

أما دائرة الاهتمام: فهي الأمور التي يهتم بها الإنسان ولكن لا يملك من أمره شيئا في إضفاء أي تغيير عليها.

يعتقد كوفي أن الأشخاص الناجحين هم من يركزون جهدهم على دائرة التأثير، كتطوير أنفسهم والبيئات التي يعملون بها، لأنهم قادرون على تقديم إضافة ما في هذا النطاق. على عكس أصحاب الاهتمام، ممن يخوضون سهواً في أمور، ثم لا يرجعون منها إلا بخفي حنين.

أرى أن هذا المفهوم يروقني جداً في التعاطي مع الأحداث العالمية والقضايا السياسية أو بشكلٍ عام (الأمور التي لا أملك فيها حظاً ولا نصيباً) فرسالتي لنفسي هي أن أركز في بذل جهدي على الأمور التي من الممكن تغييرها وتحسينها. والابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يسبب زعزعة للسلام والهدوء الداخلي. لست هنا أدّعي «الرواقية» أو المثالية، ولكن أحاول أن أشير إلى منهجٍ رائع قد ذُكِر سلفاً في القرآن الكريم (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم).

ومن باب الإنصاف أريد أن أوضح -حتى لا يساء فهمي- أن إعطاء نسبة قليلة من الاهتمام في بعض الأحداث الخارجية ليس سيئاً من باب مواكبة التغييرات ومجريات الأمور، ولكن يؤسفني أن يضيّع المرء وقته وجهده بشكلٍ مفرط في أمور لا ناقة له فيها ولا جمل.

ذات مرة قرأت تغريدة معبِّرة استوقفتني كثيراً للمحامية هيا الشمري تقول فيها «انشغالك في أن تكون النسخة الأفضل من نفسك هو أعظم ما يمكنك تقديمه لهذا العالم». دعونا نمارس رياضة الانشغال في تطوير النفس. إنها رياضة مجدية وصحية.

طالب سعودي مبتعث في أمريكا

Asimabdulfattah@
00:13 | 17-11-2020

عن الاغتراب والابتعاث والمفاهيم التي ندركها !

عندما نتحدث عن التجارب التي من خلالها نكتشف مكامن قوتنا وضعفنا، والتي من شأنها أن تمهد لنا الطريق إلى فهم ذواتنا وسبر أغوار الغموض المحيط بأنفسنا، فمن المجدي أن نأخذ تجربة الاغتراب والابتعاث على محمل الجد. فالارتجال عن الوطن، وخروج الإنسان من دائرة الراحة إلى دائرة النمو، يعني خروجه من المألوف إلى غير المألوف، وسلوكه طريقاً لم يعتد أن تطأه قدماه، حيث العثرات والصدمات والنهوض ومحاولة المضي قدماً وصولاً إلى نشوة الوصول والإنجاز هي ما يعوّل عليها في نهاية الأمر، وهذا في حد ذاته يتطلب صبراً ومجاهدة.

لذلك يسعدني أن أكتب قليلاً عن بعض ما تعلمته خلال أربع سنوات في تجربة الابتعاث بالولايات المتحدة الأمريكية.

الغربة كتجربة، ليست دائما كربة كما يصفها البعض! بل هي مدرسة عظيمة ولا مانع أن ننعتها بالصعوبة، فكلما زادت صعوبة التجربة زادت المنفعة. لاسيما إذا كانت في سبيل العلم، كما قال الإمام الشافعي:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا

وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ

وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

يُحدِث الاغتراب عن الوطن قولبة جذرية للإنسان، فيتغير كلياً كل جانب من جوانب حياته.. روتينه، وأكله وشربه، ولباسه، وحتى لغته، ولا نستبعد تفاصيل صغيرة كاحترامه لذوق ركوب المصعد مثلاً. هذه القولبة تجعل المرء ينظر إلى الأمور من زوايا ونوافذ مختلفة وتوسع من مداركه.

أما عن الجانب الفكري، فقد تعرضت لآثار الصدمة الحضارية (cultural shock) أثناء البداية باعتبار أن ثقافتي التي نشأت عليها تستقي قيمها وتعاليمها من الإسلام والعادات العربية، في حين أن المجتمع الأمريكي يعتبر الحرية المحور الذي تدور حوله عجلة ثقافة المجتمع، فيتكون المجتمع من مزيج من الأفكار والأديان والمعتقدات والتيارات المختلفة، مما يجعل احترام الآخرين والتعايش ما بين الناس صفتين حميدتين يتعلمهما المرء ويضيفهما إلى رصيده الإنساني.

أيضاً يتعلم المرء أن احترام الاختلاف -ووعي اللافرق- قيمة إنسانية رفيعة المستوى قد أوصى بها الرسول الكريم، حيث شاهدت تطبيقها على أرض الواقع باعتبار أن المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات التي تدعم الاختلاف (diversity) ويعتبرونه مكمناً للقوة، حيث يحصل التبادل الثقافي ما بين الناس ويحصل تلاقح الأفكار واستقطاب العقول المبدعة ويتعزز معنى (اختلاف التنوع) الذي يثري الإنسان والمجتمع.

من المفاهيم التي أدركت فاعليتها، أهمية مفهوم الفردية (individualism). يعتبر المجتمع الأمريكي أن الفردية هي المنهج الأفضل لأفراد المجتمع، لأن الإنسان مختلف تماماً في طموحاته وأفكاره ورغباته عن الآخرين، وإن لم ينطلق قدماً لتحقيق ذاته، فسيكون عرضة للمسير تبعاً للآخرين، أو ستذوب شخصيته في مزيج المجتمع. تقول الأديبة النداوي «لعلّ الغربة تعطيك كثيراً حين تكون فرداً، وتأخذ منك أكثر حين تصبح في جماعة».

القيمة الكبرى التي أيقنتها أثناء الاغتراب هي قيمة الوطن العظيم الذي أحظى به. تقول الأديبة غادة السمان: «قد علمني المدعو غربة أكثر من أي أستاذ آخر كيف اكتب اسم الوطن بالنجوم على سبورة الليل».. فعندما يتجرع المرء مرارة الغربة يتيقن بأن الوطن من أعظم النعم التي من الله عليه بها. يتبرهن ذلك عند ما نرى الحكومات تتخلى عن مواطنيها في أحلك الظروف -كأزمة كورونا مثلاً- في حين نجد سفارة خادم الحرمين الشريفين بالولايات المتحدة تبث رسائل التطمين للمبتعثين بتوفير الرعاية الصحية الكاملة لهم، وإجلاء من أراد الرجوع إلى أراضي الوطن من غير أي مقابل. ناهيك عن تكاليف الدراسة والمعيشة التي تغطيها حكومتنا الغالية طيلة فترة مكوثنا.

نعمة الوطن للإنسان كالماء تماماً. أعظم موجود وأعز مفقود.

أحب أن أعبِّر عن شكري وعظيم امتناني إلى حكومة خادم الحرمين الشريفين على إتاحتهم لأبنائهم فرصة الابتعاث في سبيل الدراسة، وأسأل الله أن يمدنا بالقوة لأن نوفي الدين العظيم الذي نحمله على عواتقنا تجاه حكومتنا ووطننا.

طالب سعودي مبتعث في أمريكا

Asimabdulfattah@
00:09 | 19-10-2020